الحلوى والصلاة

الكاتب: المدير -
الحلوى والصلاة
"قصة وعبرة
الحلوى والصلاة

 

صليتُ يومًا في أحدِ مساجدِ حي مشرفة بمدينة جدَّة، ولفَت نظري - بل ونظر الكثيرين مِن غير معتادي الصلاة في هذا المسجد من السُّياح والزائرين - قيام مجموعة مِن الأطفال بعد نهاية الصلاة مباشرة بالسلام على إمام المسجد والمصلِّين الذين يجلسون خلف المحراب، وفور سلامِهم على الإمام يُناوِلُ كلَّ طفلٍ منهم قطعةً من الحلوى من صندوقٍ صغير إلى جواره، وقد لاحظتُ تكرار هذا المشهد مدة إقامتي خلال تلك الرحلة.

 

ولكون الفكرةِ قد راقَتْ لي، فقد تعمَّدت الصلاة بقرب الإمام في المرة التالية، وبعد الانتهاء من أداء السُّنة البَعْدية سلَّمتُ على الإمام وشكرتُه على فكرة هديةِ الحلوى، ثم سألتُه عن بداية تطبيق الفكرة، وعن آثارها من وجهة نظره، ومدى تقبُّل الأطفال وأولياء الأمور لهذه التجرِبة.

 

فبادلني التحية، وقال: كنا نشكو سابقًا من كثرة حركة الأطفال وإزعاجهم للمصلِّين، وفي مرات أخرى يشكو الآباء مِن عزوفِ أبنائهم عن الصلاة بالمسجد، وخاصة عندما يُواجَهون بنهرِ الكبار لهم نتيجةَ الإزعاج.

ويواصل حديثه فيقول: ناقشتُ هذا الأمر مع جماعة المسجد، واقترحنا تقديم جائزة لكلِّ طفل، عبارة عن قطعة مِن الحلوى، وكان الأمر في البداية يقتصر على الأطفال الذين يشيد بهم الكبار نتيجةَ خشوعهم في الصلاة، إلا أن الأمر أصبح بعد مدَّة من الزمن يشمل جميع الأطفال دون استثناء؛ حيث انتَفَت شكوى المصلين من إزعاج الأطفال، بل وأصبحوا من حَمَامات المسجد بحمد الله، ولعلك تلاحظ ذلك بنفسك!

 

كما أن الآباء لَمَسوا أثر هذه الحلوى أيضًا، وذلك من خلال حرصِ أبنائهم على شهود الصلاة جماعةً بالمسجد، ولقد حدَّثني بذلك أكثر مِن أبٍ - والكلام لا يزال لإمام المسجد - حتى إن أحدهم قال لي: إن ابنَه ذا الثماني سنوات يستحلفني بالله، ويستعطف أمه، بأن نُوقِظَه لصلاة الفجر، وذلك كل يوم، حتى إنه في أحد الأيام عندما لم نتمكن من إيقاظه لضيق الوقت، أخذ يبكي عندما قام وقد فاتَتْه صلاة الجماعة!




فما أحوجَ مساجدَنا إلى إمامٍ يألف الشباب ويألفونه، وذلك مِن خلال تعزيز عَلاقتهم بحَلْقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد، وزَرْع رُوح الاعتزاز بالدين، والتعاون، والأُلفة، والمحبة، والولاء والانتماء، وكذا إشرافه على تنظيم الملتقَيات والأنشطة التي تنطلق مِن المسجد؛ كالجماعات التطوعية التي تقوم بخدمة المجتمع المحلِّي، فيرتبطون بالمسجد ارتباط اعتزاز، بدلًا من النفور الملاحَظ لدى بعض الشباب هداهم الله؛ إذ نجدهم يَنصَرِفون من المسجد بمجرد سلام الإمام، أو عند قضاء الركعات الفائتة لمن حضر منهم متأخرًا، وما علِموا أن هذا يَحرمهم التوفيق!




يقول ابن المبارك: مَن تَهاوَنَ بالأدب عُوقِبَ بحِرْمان السُّنن، ومَن تَهاوَن بالسُّنن عُوقِبَ بحِرْمان الفرائض، ومَن تَهاوَن بالفرائض عُوقِبَ بحِرْمان المعرفة!

ولو عُدْنا قليلًا للوراء لَوَجَدْنا أن المسجد كان يضطلع بِمِثْل هذه الأدوار في عهد سلفنا الصالح، فهو مدرسة لتعليم العلم، ومنبرٌ للفُتيا، والصلح بين المتخاصمين، ومحكمةٌ للتقاضي، وقبة للشورى، وهو غرفةٌ للعمليات الحربية، بل هو محطةُ استراحة للمسافرين، ورباط إيواء للفقراء والمُعْوِزين، والمسجد مؤسسةٌ إسلامية عظيمة لإصلاح المجتمع، وعليه تقع مسؤولية ترسيخ قِيَم الاعتدال الفكري والتسامح الديني والتهذيب السلوكي، والبُعْد عن تهييج المشاعر والعواطف الغوغائية.

 

ومن المعلوم أن ارتباط النشءِ بالمسجد يُحافظ على الفطرة، ويُنمِّي الموهبة، ويربطهم بالرب سبحانه، ويُعزِّز فيهم القِيَم من خلال التأثر بالقدوات الصالحين من جماعة المسجد، كما يُعوِّد الطفل على النظام، مِن خلال استواء الصفوف، وكذا على الطاعة عند ترديد الإمام قوله: استقيموا، واعتدلوا ولا تختلفوا، ويتعلم الطفل أيضًا - من خلال المسجد - كيفيةَ التعامل مع الغير.




وللصلاة آثارٌ تربوية؛ فهي تُربِّي النفوس على طاعة الخالق، وتُعلِّم العبد آداب العبودية وواجبات الربوبية، بما تغرِسُه في قلب صاحبها مِن قدرة الله وعظمته، وبطشه وشدته، ورحمته ومغفرته، كما تُحلِّيه وتُجمِّله بمكارم الأخلاق، فتسمو نفسُه عن صفات الخِسَّة والدناءة، ولعل السرَّ في ضَعْف أثر الصلاة في سلوك المصلِّين هو أنهم لم يبلغوا فيها درجةَ حضور القلب.

والصلاة في شرعِنا الإسلامي هي الركنُ الثاني مِن أركان الإسلام الخمسة، بل إنها تكادُ تجمَعُ أركان الإسلام الخمسة كلها.




يقول الدكتور عبدالله الطيار في كتابه الصلاة: والمتأمل في الصلاة يجد أنها جِماعٌ لأركان الإسلام جميعِها؛ فهي تشتمل على الشهادتين، ثم إنها زكاةٌ للمصلِّي عندما يبذل وقته لأدائها خلال أوقات عمله وبيعه وشرائه؛ يقول الله تعالى: ? رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ? [النور: 37]، وفي الصلاة تصومُ الجوارح عن المخالَفات، كما يصوم المصلِّي عن الأكل والشرب اللَّذينِ يُبطِلان الصلاة، ثم يكون استقبال القبلة - حيث يحجُّ الناس - الذي هو ركنٌ لقَبول الصلاة، وبتوحيد توجُّه المسلمين لقبلة واحدة تتآلف القلوب في مختلف أنحاء العالم، وتتوحد أهدافهم؛ (21 - 23)، وذلك متى ما صدقت النِّيات.




والصلاة مِفتاح كل خير، تمنح القلب أُنسًا وسعادة، وتعطي الروح بشرًا وطمأنينة، وتذكي الجسد نشاطًا وحيوية، وهي عبادةٌ يتحقَّق فيها التجرُّد لله وحده، وتربية النفس على المعاني الإيمانية التي تَعُدُّ المسلم لحياةٍ كريمة في الدنيا، وسعادة سرمدية في الآخرة، وقد جاء في الحديث: ((وجُعِلَت قرَّة عيني في الصلاة))؛ (النسائي: 3940)، وحديث: ((قم يا بلال أرحنا بالصلاة))؛ (23088).

ولقد أورد الدكتور عادل عبدالشكور الرزقي في كتابه ذوق الصلاة عند ابن القيم: أن الصلاة قرة عيون المحبين، ولذَّة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين.




ثم يقول: ومتى ما كان العبدُ في ذكرٍ لله وإقبال عليه، نزل على قلبه غيثُ الرحمة كالمطر، فإذا ما غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، وسرُّ الصلاة ولبُّها إقبالُ القلب فيها على الله، وحضوره بكليته بين يدَيْه، ومتى ما اشتغل القلبُ بغير الله، ولَهَا بحديث النفس، كانت عودته للصلاة بمنزلة وافدٍ إلى باب الملك معتذرًا من خطئه وزَلَلِه، مستمطرًا لسحائب جُوده ورحمته، مستطعمًا له ما يقوت قلبه ليقوى على القيام بخدمته؛ (9 - 16).




فاصلة: يُخطِئ مَن يستدلُّ بالحديث الذي يقول: ((جنِّبوا مساجدكم صبيانَكم))؛ فهذا حديث ضعيف، لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُكذِّب ذلك فعلُه عليه السلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمِع بكاءَ الصبي يُخفِّف الصلاة، مخافةَ أن تُفتَن أمه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سجَد وثب الحسن والحسين على ظهرِه، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاة وضعهما في حِجْره، وقال: ((مَن أحبني فليُحبِبْ هذينِ))؛ (الصحيح المسند : 878).


"
شارك المقالة:
35 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook