الحمد لله أنه حلم!

الكاتب: المدير -
الحمد لله أنه حلم!
"الحمد لله أنه حُلْم!

 

استيقظت ذات ليلة على أثر حلم مزعجٍ، كساني إرهاقًا وثقلا، وكآبة وحزنا، ففتحت عيني وأنا مدنَف البدن، خائر النفْس، متتابع النفَس، ترجع إليّ الروح شيئًا فشيئًا بعد رحلتها المضنية.

 

فلما تمّ صحوي ووجدتني في مكاني تهللت فرحًا وحمدت الله أنه كان حلمًا ولم يكن حقيقة.

 

هذه الحال تتردد على الإنسان في هذه الحياة؛ فإنه قد يعيش في بعض ليالي عمره أثناء نومه حالًا مرعبةً، يلقى فيها ألوانًا من العذاب النفسي والجسدي، ولشدة ما يرى قد يستيقظ فزعًا أثناء الليل منتفضًا أو صائحًا أو باكيًا أو وجلًا، فتوقظ حاله مَن بجواره، وحينها يبدو عليه الإعياء والخوف وشتات البال.

 

فإذا استيقظ ووجد نفسه في بيته وعلى سريره ولم يكن في ذلك المكان أو تلك الحال التي كان عليها في نومه فرح بأن الأمر مجرد حلم عابر، ولا حقيقة له في وقته الحاضر.

 

إن من تأمل في هذه الدنيا بعين بصيرته ورآها بنور إيمانه أيقن أنها أحلام نوم ستذهب مزعجاتها بيقظة الآخرة، وأن آلام المؤمن فيها كآلام النائم ستهب عليه ريح الاستيقاظ فتبدد جمع عنائه المتراكم.

 

كتب بعض الحكماء إلى أخ له: أما بعد؛ فإن الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث، والسلام[1].

 

قال الشاعر:

لا تخدَعنَّك بعد طولِ تجاربِ
دنيا تغرُّ بوصلِها وستقطعُ
أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ
إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلَها لا يُخْدَعُ[2]

 

وقال الآخر:

وَمَا الْمَرْء في دُنْيَاهُ إِلَّا كهاجعٍ
رأى في غرار النّوم أضغاثَ أَحْلَام[3]

 

وقال ابن الجوزي: إِنَّمَا الدُّنْيَا حلمُ نَائِم، وقائلة رَاقِد، ومعبر مُعْتَبر، وضحكة مستعبر[4].

 

وإذا كانت الدنيا أحلام نوم في مَضراتها فهي كذلك في مسراتها؛ فإن سرورها لا يدوم، وإن لذاتها لا يبقى طعمها.

 

عن الحسن رحمه الله، قال: ما الدنيا كلها من أولها إلى آخرها إلا كرجل نام نومة، فرأى في منامه ما يحب ثم انتبه[5].

 

وقال بعضهم: إِنما الدنيا كرؤيا ساعةٍ، مَنْ رآها فرَّحَتْهُ وانقضَتْ[6].

 

وإذا كانت الدنيا في سرعة انقضائها كأحلام نائم فهي أيضًا كظل يستظل به الإنسان ثم يروح ويتركه، أو ينحسر ذلك الظل عنه.

 

وقد عبر عن الدنيا بهذا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عليه عمر رضي الله عنه، وهو على حصير قد أثَّر في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: « ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ساعةً، ثم راح وتركها »[7].

 

نزل أعرابي بقوم فقدموا له طعامًا فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة فنام، فاقتلعوا الخيمة فأصابته فانتبه وهو يقول:

وإن امرءًا دنياه أكبرُ همِّهِ
لمستمسكٌ منها بحبلِ غُرورِ

 

وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت:

يا أهلَ لذاتِ دنيا لا بقاءَ لها
إن اغترارًا بظلٍّ زائلٍ حُمقُ[8]




وإذا كانت الدنيا كأحلام نائمٍ، وظل زائلٍ، فهي كذلك سحابة صيف ستنقشع عن قريب، ولن يستمر بساطها على أفق السماء، فأهل الإيمان قد علمُوا أن الدُّنْيَا دَار ممر لَا دَار مقرّ، ومنزل عبور لَا مقْعد حبور، وأنها خيال طيف، أوْ سَحَابَة صيف[9].

 

قال الشاعر:

أرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُوْنَهَا
عَلَى أَنَّهُمْ فِيْهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فإنَّهَا
سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقْشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضُوا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَحَّلُوا
طَرِيْقهُمُ بَادِي العَلَامَةِ مَهْيَعُ[10]

 

وقال بعضهم: إقبال الدنيا كإلمامة ضيف، أو سحابة صيف، أو زيارة طيف[11].

 

وقال أعرابي: ما كانت الدنيا على بني فلان إلا طيفًا لما انتبهوا ولّى عنهم، وقال آخر:

مَرَرْتُ بِدُورِ بَني مُصْعَبٍ
بِدُورِ السُّرورِ ودُورِ الفَرَحْ
فَشَبّهتُ سُرعةَ أيّامِهِمْ
بسُرْعَةِ قَوسٍ يُسَمَّى قُزَحْ
تَلَوّنَ مُعْتَرِضًا في السّماء
فلمّا تَمَكَّنَ مِنْهَا نَزَحْ[12]

 

وبعد:

فإننا لو كيّفنا أنفسنا في هذه الدنيا على أنها حلم أو ظل أو سحابة؛ فإن المعاصي ستخف، والظلم سيقل، والطاعات ستكثر، والراحة ستتسع، والصبر سيزداد.

 

أما لو علم المسرف على نفسه باللهو أنَّه في حلم سيستيقظ منه قريبًا؛ فإنه سيبادر إلى الصحو، وسيعفي خطواته على درب الغفلة بخطى التوبة النصوح.

 

ولو علم الظالم أنه في دنياه في حلم سيزول قريبًا على شعاع الموت- إن لم ينقلب الأمر عليه وهو ما زال في أحلامه- فإنه سيكف يده ولسانه عن الخلق، وسيستعد بصالح عمله للقاء الخالق.

 

ولو تمكن في قلوبنا ورسخ في أذهاننا أننا في هذه الحياة في حلم يوشك أن يأفل؛ لخفّت علينا مصائبنا، ولهانت في سبيل الله آلامنا، ولسكنت إلى قضاء الله نفوسنا عندما نرى حضور المكاره في واقعنا أكثر من المحاب؛ فقر ومرض، هم وغم، حزن وقلق، علو للباطل وامتداد يد الإمهال لأهله، وضعف للحق واستضعاف لذويه، وبين هذا وذاك شتات وتمزق في صف أهل الكلمة الواحدة، وتجمع وائتلاف بين صفوف الكلمات المتباينة.

 

لكن الشعور بأن الحياة حلم يخفف من لفح هذه الجراح، ويطلق للإيمان من أغلال هذه المكروهات السراح.

 

قال ابن القيم-رحمه الله- وهو يتحدث عن هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنه:

... ومن علاجه: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا، أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا، ساءت دهرًا، وإن متعت قليلا، منعت طويلا، وما ملأتْ دارًا حبرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما مُلئ بيت فرحًا، إلا ملئ ترحًا ، وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قطُّ إلا كان من بعده بكاء . وقالت هند بنت النعمان بن المنذر: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس، وأنه حق على الله ألا يملأ دارًا حبرة، إلا ملأها عبرة. وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا [13].




[1] الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 173).

[2] مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي (3/ 418).

[3] ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (ص: 671).

[4] المدهش (ص: 525).

[5] ذم الدنيا (ص: 117).

[6] نظم اللآلئ في الحكم والأمثال (ص: 9).

[7] رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح.

[8] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 225).

[9] مفتاح دار السعادة (1/ 148).

[10] الدر الفريد وبيت القصيد (3/ 284).

[11] اللطائف والظرائف (ص: 18).

[12] الذخائر والعبقريات (1/ 249).

[13] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 174).


"
شارك المقالة:
36 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook