الخدمات التعليمية بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.
تطور التعليم
مر التعليم بالحجاز بمراحل كثيرة بدأت بالكتاتيب وانتهت إلى التعليم النظامي الذي تشرف عليه جهات متخصصة وإن لم تكن رسمية. وبعد قيام الدولة السعودية الثالثة وضم مكة المكرمة أخذ التعليم صيغته الرسمية في تحديد المناهج وتقرير الإشراف عليه
في بداية الأمر كان طلاب العلم يمضون وقتهم في الكتاتيب، ويقوم هؤلاء الطلاب تحت إشراف مدرسيهم بكتابة الواجب اليومي بالطباشير على لوح خشبي، فربما لا تتوافر الأوراق التي سيستخدمونها، وكان التعليم - آنذاك - شبه مختلط في المراحل العمرية المبكرة، حيث تذهب البنات مع الأولاد إلى الكتّاب حتى سن الثامنة، وبعد هذه المرحلة العمرية تذهب اللاتي يردن إكمال تعليمهن إلى مدرِّسة فقيهة تقوم بتدريسهن
ويجلس الطلاب في حلقة دائرية حول الفقيه وهو يتابعهم جميعًا. ومن أشهر الكتاتيب في مكة المكرمة آنذاك: كتّاب الشيخ عبد الحي، وكتّاب الشيخ عبد الله السنّاري المشهور باسم (حمدوه)، وكتاب الشيخ حسن العبادي، وكتاب الشيخ عبد الحق الهندي، وكتاب الشيخ حمود، وكتاب الشيخ إبراهيم الخزامي، وكتاب الشيخ أحمد العجيمي
والواقع أن التعليم في الحرمين الشريفين كان قائمًا على أكتاف الأغنياء، حيث يحصل جميع المدرسين على العائدات المالية من المؤسسات الإسلامية الدينية ما عدا الشيخ رحمت الله بن خليل العثماني الذي كان يتردد في بداية حياته على الحرم للعبادة ولسماع دروس العلم وكان يفتي على المذهب الحنفي، وقد منحه إمام وخطيب المسجد الحرام - آنذاك - الشيخ أحمد بن زيني دحلان إجازة التدريس في المسجد الحرام وسجل اسمه في السجل الرسمي لعلماء الحرم. وقد عزم الشيخ رحمت الله على إدخال علوم جديدة في العلوم التي تدرس في مدارس الحرم مثل الهندسة والرياضيات وعلم المناظرة والعلوم الفلكية، كما فصل في تدريسه بين علمي النحو والصرف، وتخرج على يده كثير من العلماء والقضاة وكبار الموظفين الذين كان لهم دور كبير في تاريخ مكة المكرمة
أما المدارس النظامية فقد بدأت على يد الشيخ رحمت الله، حيث أقدم على إحداث أول مدرسة بترتيب ونظام جديدين على نفقته الخاصة في شهر رجب عام 1285هـ / 1868م أملاً في أن تخدم طلاب العلم من الهند وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وعرفت بمدرسة الشيخ رحمت الله أو المدرسة الهندية، وسرعان ما غصت بطلابها مما دعاه إلى توسعتها
وبدعم وتمويل من المحسنة الهندية صولت النساء قام الشيخ رحمت الله بشراء أرض بمحلة الخندريسة، ووضع الشيخ بيده حجر الأساس لأول مدرسة دينية في الحجاز بجانب البيت العتيق صباح يوم الأربعاء 15 شعبان 1290هـ الموافق 8 أكتوبر 1874م، وتم افتتاح المدرسة وانتقال الطلاب والمدرسين إليها في 14 محرم 1291هـ الموافق 3 مارس 1875م في احتفال كبير حضره علماء مكة المكرمة وأعيانها، وقد عرفت بالمدرسة الصولتية تخليدًا لذكرى المحسنة صولت النساء
وقد اشتهرت محافظة الطائف - آنذاك - بالكتاتيب الآتية: كُتّاب ابن جريب، وكُتّاب مسجد الهنود، وكُتّاب بن ظفران وكُتّاب الفقيهة فاطمة. أما محافظة جدة فقد اشتهر فيها كُتّاب الشيخ محمد الدسوقي، وكُتّاب الشيخ حمد، وكُتّاب الشيخ محمود عطية، وكُتّاب الشيخ محمد الصاوي، وكُتّاب الفقيهة خديجة الشامي وغيرهم
وقد ظهر التعليم بشكله المنظم عندما افتتحت بجدة عام 1305هـ / 1887م المدرسة الرشدية (أي المتوسطة)، وكانت أولى المدارس المنظمة تنظيمًا عصريًا، ولكنها كانت محدودة الإنتاج العلمي.
وبعد ذلك:
"تأسست مدارس الفلاح في مكة المكرمة عام 1330هـ / 1911م، وفي جدة عام 1323هـ / 1905م، ومؤسسها هو الشيخ محمد علي زينل علي رضا، وكانت نواة مدرسة الفلاح بمكة المكرمة هي كتّاب الشيخ عبد الله حمدوه الذي عرضت عليه فكرة المدرسة فرحب بها، ونقل طلاب كتّابه إليها.. وكان موقعها أول ما تأسست في القشاشية ثم انتقلت بعدها إلى حارة الباب، ثم عادت مرة أخرى إلى القشاشية، ثم انتقلت إلى الشبيكة عام 1368هـ / 1948م. ويعد مبنى مدرسة الفلاح هذا أول مبنى أسس في مكة المكرمة ليكون مدرسة، حتى تم بناء المدارس الحديثة في جرول. وقد أسست مدرسة الفلاح بمكة المكرمة على النظام نفسه الذي أسست عليه مدرسة الفلاح بجدة من حيث ترتيب المراحل الدراسية وتقسيمها ومناهجها.. وبلغ عدد طلابها عند إنشائها نحو مئتي طالب ولم تلبث طويلاً حتى ازداد عدد طلابها، وازدحمت بهم، فبلغ عددهم في إحدى سنواتها الأولى 1200 طالب.. وكان مؤسسها يتولى الصرف عليها بمعدل 14000 جنيه ذهبي سنويًا حتى عام 1327هـ / 1918م. وبعد أن بدأت الأزمة العالمية قبل الحرب العالمية الأولى أي منذ عام 1330هـ / 1911م حتى 1333هـ / 1914م قل الصرف من لدن المؤسس، ثم توقف نهائيًا قبل الحرب العالمية الثانية أي عام 1351هـ / 1932م. فاعتمدت المدارس على إعانات الحجاج وغيرهم من التجار والأهالي المحسنين.. "
والحقيقة الناصعة أن تطور التعليم النظامي تجلى مع بداية حكم الملك عبد العزيز رحمه الله، إذ بدأت الحركة التعليمية تشق طريقها بسرعة ملموسة، فاقتضى الأمر توسيع المدارس وانتشارها، الأمر الذي أدى إلى تأسيس المديرية العامة للمعارف التي أنشئت عام 1344هـ / 1925م، لتكون مسؤولة عن سير الحركة التعليمية في المملكة، وتوسيع نطاقها ووضع القواعد والأسس لها والتخطيط لأعمالها ودعمها لكي تستوفي المملكة حاجتها من المتعلمين.
وحينما أسست المديرية العامة للمعارف وصل عدد مدارسها اثنتي عشرة مدرسة حكومية وأهلية، وبلغ عدد تلاميذها نحو 700 طالب، وكانت ميزانيتها عند بدء تأسيسها 6565 جنيهًا ذهبيًا، ثم ارتفعت بعد عامين إلى 14791 جنيهًا وذلك عام 1348هـ / 1929م، ثم واصلت الارتفاع حتى بلغت عام 1372هـ / 1952م نحو 20 مليون ريال؛ الأمر الذي يؤكد حرص الدولة على إعطاء التعليم الاهتمام المتزايد.
وعلى الرغم من محدودية الموارد في عهد الملك عبد العزيز، فقد ظل النمو في التعليم يسير بخطى ملموسة، إذ أوجدت المديرية العامة للمعارف مناهج للتعليم متعددة ومتنوعة، فعملت على توحيدها وتوجيهها إلى الهدف الذي يتلاءم مع أحوال المملكة، وارتفع عدد المدارس إلى 72 مدرسة التحق بها 4418 تلميذًا فيما قَبْل عام 1356هـ / 1937م. وكان منهج الدراسة في ذلك الوقت على النحو الآتي:
المدارس الابتدائية: ومدة الدراسة بها أربع سنوات.
المدارس الثانوية: وهي شعبتان، ومدة الدراسة بها أربع سنوات، أما الشعبتان فهما: (الشعبة الدينية) وفيها تتركز الدراسة على الجوانب الدينية واللغوية، و (الشعبة العلمية) وتدرس الرياضيات والعلوم الحديثة واللغة الأجنبية إلى جانب دروس الفقه والتوحيد والتفسير، والغرض منها إعداد الطلاب للالتحاق بالدراسات الجامعية في جميع النواحي التعليمية الضرورية كالطب والصيدلة والهندسة والزراعة
وفي عام 1347هـ / 1928م افتتح (المعهد العلمي) وكانت مدة الدراسة به ثلاث سنوات بعد إتمام الدراسة الابتدائية، ثم تطورت الدراسة عام 1365هـ / 1945م فأصبحت خمس سنوات. ولم يزاول أكثر خريجي المعهد مهنة التدريس، إذ إن غالبيتهم قد واصلوا دراستهم في كلية الشريعة بمكة المكرمة، كما ابتعثت أعداد أخرى من الخريجين إلى الخارج لمواصلة دراستهم. وقد أسهم المعهد العلمي في مكة المكرمة في المسيرة التعليمية، إذ خرّج عددًا من كبار المسؤولين في الدولة ومن الأدباء والمثقفين من أبناء المملكة الذين يشار إليهم - مع من قدمتهم مدارس الفلاح في مكة المكرمة وجدة - كرواد في كل المجالات. وقد قامت مديرية المعارف عام 1365هـ / 1945م بتطوير الدراسة في المعهد العلمي وأصبحت مدة الدراسة خمس سنوات، وأطلق على شهادة السنوات الثلاثة الأولى (شهادة القسم التحضيري)، أما شهادة قسم المعلمين الثانوي فتمنح بعد دراسة خمس سنوات به، وبعدها يتمكن الطالب من الالتحاق بكليات الآداب ودار العلوم في جامعة الأزهر وكلية الشريعة بمكة المكرمة التي افتتحت عام 1369هـ / 1949م
وفي شهر المحرم عام 1346هـ / 1927م تشكل أول مجلس للمعارف برئاسة السيد صالح شطا - رحمه الله - مدير المعارف، واتخذ قراره الذي جاء فيه: إن على المجلس وهو يضع المنهج التعليمي مراعاة توحيد التعليم والسعي لجعل التعليم الابتدائي إجباريًا ومجانيًا.
وفي العام 1357هـ / 1938م صدر نظام جديد للمعارف يلغي ما كان قبله من أنظمة سابقة، وأهم ما جاء في ذلك النظام:
مدير المعارف مرجع أول في التعليم.
تشكيل مجلس المعارف من ثمانية أعضاء: عضوان من مديرية التعليم، وستة يعينهم صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك بالحجاز ممن لهم خبرة في شؤون التعليم، وكانت لهذا المجلس صلاحيات متعددة مثل إقرار المناهج التعليمية، وتأسيس المدارس الجديدة، وإيفاد البعثات، والإشراف على الاختبارات في المدارس الحكومية وكذلك الإشراف على المدارس الأهلية.
وكان أول مدير للمعارف هو السيد صالح شطا، ثم الشيخ كامل القصاب، ثم الشيخ حافظ وهبة، فالشيخ محمد بن مانع، رحمهم الله جميعًا.
وفي عام 1347هـ / 1928م عمدت مديرية المعارف إلى إرسال الطلبة لمتابعة دروسهم في المعاهد المصرية، وتقرر في جمادى الأولى 1355هـ / أغسطس 1936م أن تفتتح مدرسة تسمى باسم (مدرسة تحضير البعثات)، ومن أهدافها إعداد الطلاب للالتحاق بكليات في الخارج مثل الطب والهندسة والزراعة ومدرسة الفنون والصنائع العليا، وبدأت المدارس في تخريج طلابها منذ نهاية العام الدراسي 1358- 1359هـ / 1939 -1940م. ولقد افتتحت في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - أعداد كبيرة من المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية تكاد تغطي معظم أنحاء المملكة، إضافة إلى بعض الكليات والمعاهد العليا، ولعل أهمها غير ما ذكرنا آنفًا في منطقة مكة المكرمة ما يأتي:
دار التوحيد: وقد أسست في الطائف عام 1364هـ / 1944م لإعداد خريجين أكفاء في العلوم الدينية والوعظ والإرشاد
كلية الشريعة بمكة المكرمة: تأسست عام 1369هـ / 1949م للدراسات الشرعية واللغة العربية.
معاهد المعلمين: وهي خمسة معاهد متوسطة، ومعهد عالٍ لإعداد المعلمين لمواجهة التوسع في نشر العلم
ولقد بدأ التعليم العالي الرسمي في منطقة مكة المكرمة خاصة ثم في مناطق أخرى من المملكة العربية السعودية بخطى حثيثة في عهد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه. وكانت بدايته في عام 1369هـ / 1950م حين أمر بافتتاح (كلية الشريعة) في مكة المكرمة، وهي الآن تتبع جامعة أم القرى في مكة المكرمة التي تأسست في عام 1401هـ / 1981م لتعمل إلى جانب شقيقاتها الجامعات الأخرى في الوطن الأم، وتعنى بالدراسات الإنسانية والعلمية.
وهناك جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وقد أُسست عام 1384هـ / 1964م بوصفها جامعة أهلية أسهم في تمويلها عدد من رجال المال والأعمال ثم تحولت عام 1391هـ / 1971م إلى جامعة رسمية. ويتبع الجامعة عدد من المراكز المتخصصة، ومراكز الخدمات التعليمية المساعدة، وتعدّ اليوم مع شقيقاتها الجامعات الأخرى صرحًا من صروح الأمن التعليمي الذي هيأ لأبنائنا مختلف التخصصات الأكاديمية التي يحتاجها الوطن . وأخيرًا تحول فرع جامعة أم القرى بالطائف إلى جامعة مستقلة يطلق عليها (جامعة الطائف).