الخروج من القصعة

الكاتب: المدير -
الخروج من القصعة
"الخروج من القصعة




لقد بشَّرَنا النبي صلى الله عليه وسلم - ولله الحمدُ - بأنَّ لكل داءٍ دواءً يُستطب به ويُستشفى به؛ فقد روى أصحاب السنن عن أُسامة بن شريكٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله لم يُنزِل داءً إلَّا أنزل له شفاءً، إلَّا الهرم))؛ لذا فأي داءٍ أصاب أُمَّتنا الإسلامية قد أنزَل الله له دواءً، وقد وُعدنا أنَّ الأمة لن تهرم ولن تموت، ولم يزل منها طائفةٌ تقومُ على الحقِّ، وبها يقومُ وينتصرُ؛ وذلك إلى قيام الساعة وزوال الدنيا.

 

إذًا، فكلُّ أدوائها التي تُصابُ بها لها شفاءٌ طالما أنَّها لن تهرم أو تموت، ومن الأمراض التي أُصيبَتْ بها الأمَّةُ (الغثائيةُ)، لا قيمة للأمَّة تُحتسب عند أحدٍ؛ بل هم يتنازعون بلادنا كمناطق نفوذٍ إعلانًا لا إسرارًا، فماذا تبقَّى؟ يتنازعون النفوس؟

 

نزَع الله المهابةَ من قلوب أعدائنا؛ ففي كل بقعة دمٌ للمسلمين يُهراق، وشرف يُراق، ودين يُعاق، وحُرُمات تُهان، لا يكفُّ الأنينُ من شيخٍ ضعيفٍ أو أنثى أو رضيعٍ، البعضُ ذليل بلا نصيرٍ ولا مجيب، أصبحنا نرى بعضَ أطفال المسلمين ما بين حريقٍ وغريقٍ، أو طريدٍ وشريدٍ، في مشاهد تُشعِلُ بقلب كلِّ غيورٍ حريقًا، لا يستفيقُ منه إلا ويُنكأُ في جانبيه جُرح أليم، وكلَّما تجدَّدتْ حادثة سرعان ما تنبري الأقلامُ، وتُسوَّد الصُّحف، وتُنفحُ الأبواقُ... الكل يَبحثُ ويُحقق عن المسؤول، عن كل جنايةٍ.

 

يتساءلون: أهم حكامُ المسلمين الصامتون العاجزون عن القرار؟ أم أنَّهم حُكام الغرب الحاقدون القابعون خلف الستار وأحيانًا عيانًا بغير ستارٍ؟ ثُم يَصُب الجميعُ جامَ غضبهم على هؤلاء وأولئك، ثمَّ يهدأ الجميعُ، وتبقى الجراحُ، وجعٌ مزمن يستعصي على العلاج، فنعودُ ونتأقلمُ حتى إشعارٍ آخر! وهكذا صِرنا نُعاني ثم لا نبالي، ثمَّ.. لا جديد!

 

ويمضي كلٌّ إلى شؤونه مُغمضًا عيونه؛ فالذنبُ ذنبُ الحكومة، والشعوبُ مغلوبة، والقضيةُ إذًا مَحسومة!

فهل يا ترى هكذا نرتاح؟ وهل عالجنا الجراحَ، وسكت الأنينُ وخفَت النُّواحُ؟ وكلُّ ما فعلناه أننا تخلَّصنا من عقدة الذنب، وعلَّقنا العللَ على شمَّاعة الحُكومة، وخرجنا ببراءة مزعومةٍ؛ لعلَّها تُسكنُ آلامنا إلى حين ثوران جناية أخرى، أو نكاية جديدة، إنَّ حسن التشخيص خُطوة في العلاج، وإلَّا فسنظلُّ ندور في الفراغ بلا حصيلة من نجاح.

 

إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم شخَّص لنا الداءَ والدواء؛ فقد روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تَداعى عليكم، كما تَداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومِن قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غُثاء كغُثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهن))، فقال قائل: يا رسولَ الله، وما الوهن؟ قال: ((حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت)).

 

اجلس مع الكبير والصَّغير، وطالِع الهِمَم والقيم، ستكونُ النتيجة في الحقيقة صادمةً؛ (إننا الغثاء).

ومعنى: ((لكنكم غثاء)): لا نَفع فيكم، ولا ثقل لكم، هباء في الهواء؛ كالزَّبَد يُلقيه السَّيلُ مرةً هاهنا ومرةً هناك، فلمَّا صرنا هكذا عوقبنا بتجرؤ الأعداء علينا، فهل استثارتنا جرأتُهم فاستبسَلْنا وأفَقْنا؟ وخطَّطنا لحياة أمَّتنا؛ فصبَبنا فيها من حياتنا لتحيا، ومن مآقينا لتروى، وقد أخذنا ضمانة الاستمرار ممَّن لا يُخلفُ الميعاد فقال: ? وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ? [الرعد: 17].

 

هل أفقنا؟ لا، لم يكُن ذلك، ولكن أحببنا الحياةَ الدنيا الزهيدة التي لا تساوي جناح البعوضة، وكرِهْنا الموت حبًّا لها؛ لأنَّنا لم نُقدِّم لأنفُسنا بعد الموت زادًا ولا متاعًا، فتنازلنا كثيرًا حرصًا على متاعها، فازدادت الأزمةُ وضاق علينا الخناقُ؛ فتارةً نُعاقَبُ بالإغراق في صورة الطفل السوري إياد، وتارةً بالإحراق في صورة الطِّفل الفلسطيني علي الدوابشة، ومن قبله الدُّرَّة، وغيرهم ممَّن لا نعلمُهم، وما خفي قد يكونُ أعظم وأبشع، والمصيبةُ أننا ما زلنا نُناشِدُ الضمير العالمي؟.

 

ومع تلك الكروب والهموم ما زلنا نُصرُّ على المُكث في القصعة، ثمَّ نشكو مِن تداعي الأَكَلَةِ علينا، ووُلوغهم في لُحومنا، وشُرب دمائنا، ما زلنا نشكو من تكالُب الأُمم علينا.

 

أخي، تمهَّل.. فلا تُكثر الضَّجيج؛ الحلُّ يسير.

الخروجُ من القصعة، لا تكُن غُثاءً، لا تكُن تافهًا، كلٌّ يُراجع أمورَه ويكشفُ حسابه لنعلم من أين نُؤتى؛ فإنَّ ما يحدُثُ حولنا باختصار (ممَّا كسبَتْ أيدينا)، وهو (من عِند أنفُسنا)، فلا تبحث خارجَ نفسك؛ فالدَّاءُ كامِن فينا، وإن سكتنا سيُفنينا.

 

اخرُجْ من القصعة، ومد يدك لتُخرِج الباقين منها، ولن يتمَّ ذلك إلا عندما يُقرُّ كل واحد منَّا أنه هو سبب من أسباب ما الأمَّةُ فيه من همٍّ وكربٍ؛ بتسلُّط الأعداء وجرأتهم علينا، وضعفنا أمامهم.

 

فلنبدأ بالإصلاح في أنفسنا، ولنتُب جميعًا، ولْنَشْكُ إلى الله ضَعفَنا، ولنستَشْفِه من مرضنا، داؤنا الذنوبُ، وعلى رأسه حُب الدنيا، ودواؤنا الاستغفارُ، ولنتوكَّل على الله، ومشوارُ الألف ميلٍ يبدأُ بخطوةٍ.

فكُن صاحب أول خُطوة.. إلى خارج القصعة!


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook