الدعاة بين الاعتصام والفرقة

الكاتب: المدير -
الدعاة بين الاعتصام والفرقة
"الدعاة بين الاعتصام والفرقة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

فإن تآلف قلوب الدعاة والعلماء، واجتماع كلمتهم، وتزكية نفوسهم، هو مطلب شرعي أمرت به وحثَّت عليه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ومن هذه النصوص قوله تبارك وتعالى: ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? [آل عمران: 103].

 

ففي هذه الآية المباركة يأمر الله تعالى عباده بالاعتصام بدينه وشرعه جل وعلا؛ لأن في ذلك صلاح دينهم ودنياهم، ونهاهم عن التفرق الذي فيه فساد دينهم ودنياهم.

 

وفي هذه الآية دليلٌ على أن الله تعالى يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم؛ ليزدادوا شكرًا له ومحبةً، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يُذكَر من نِعمِه نعمةَ الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرُّقها.

 

وقوله تعالى: ? وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? [آل عمران: 105].

 

ففي هذه الآية ينهى الله جل وعلا عباد المؤمنين أن يكونوا كأهل الكتاب الذين وقعت بينهم العداوة والبغضاء، فتفرقوا شيعًا وأحزابًا، واختلفوا في أصول دينهم من بعد أن اتَّضح لهم الحق، وأولئك مستحقون لعذابٍ عظيم موجع.

 

وقوله تعالى: ? وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [الأنفال: 46].

يأمر الله تعالى في هذه الآية عباده بأن يلتزموا طاعته وطاعة رسوله في كل الأحوال، ولا يختلفوا فتتفرَّق كلمتهم، وتختلف قلوبهم، فيَضعفوا وتذهب قوتهم ونصْرهم، ويصبروا عند لقاء العدو؛ إن الله مع الصابرين بالعون والنصر والتأييد، ولن يَخذلهم.

 

وقوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? [الأنعام: 159].

يُخبر جل وعلا في هذه الآية عن حال الذين فَرَّقوا دينهم بعد ما كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه، فأصبحوا فِرَقًا وأحزابًا، إنك أيها الرسول بريء منهم، إنما حكمهم إلى الله تعالى، ثم يخبرهم بأعمالهم، فيجازي من تاب منهم وأحسَن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته.

 

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»؛ أخرجه البخاري.

 

إن الناظر إلى الآيات القرآنية يجد واضحًا جليًّا ظاهرًا أنها تأمر وتدعو إلى الاعتصام والائتلاف، ونبذ التنازع والفرقة والاختلاف، وبعد ذِكر بعض من الأدلة، نقف هنا وقفات مع موضوع الائتلاف والاختلاف الواقع بين الدعاة، فنقول وبالله التوفيق:

? إن الاختلاف بين الدعاة والعلماء في فَهمهم للنصوص والأدلة - وخاصة فيما يُسوَّغ ويصح فيه الاختلاف - ‏أمر طبيعي - وكما قرَّر العلماء أنه لا إنكار على من اجتهد فيما يُسوَّغ فيه خلاف في الفروع - لا نتحدث عنه، ولم نقصده، ولكن ما نعنيه هنا ويتألَّم له كل غيور، وهو الأمر الذي يجب التنبيه إليه وهو الاختلاف والتنازع الواقع الذي يوجب القطيعة بين دعاة الأمة.

 

? إن مما يحزن له المرء الغيور على دينه وأُمته، ما تشهده الساحة المعاصرة من القطيعة الواقعة بين بعض الدعاة والعلماء بسبب زلة أو هفوة، أو جملة قالها، أو كلمة بحسن نيَّة تلفَّظ بها، أو اجتهاد مستساغ صدر عنه، فيُحمل الأمر على غير جادته وصوابه، ويَعظُم على غير حقيقته.

 

? قد يكون الخلاف بين الدعاة والعلماء في مسألة اجتهادية، الخلاف فيها مستساغ معتبر، فيتعامل معه صاحبه وكأنه قطعي في ثبوته ودلالاته، ولا يقبل النظر فيه، ثم يؤثر هذا الاختلاف على تلامذة الدعاة، ويظهر أثره في طبيعة العلاقات بينهم، فكل منهم ينتصر لرأيه بالطريقة التي يراها.

 

? إن هذا الاختلاف بين دعاة الأمة؛ المستفيد منه هم أعداء الإسلام، فلو أنهم أنفقوا أموالًا طائلة بهدف تحقيق النتائج الواقعة المريرة، لن يكون الأثر على دعاة الأمة بالقدر والحال التي هو عليها الآن؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر مَن آمَن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومَن تتبَّع الله عورته يفضَحه ولو في جوف بيته»؛ أخرجه أبو داود والترمذي.

 

? وعلى الدعاة أن يتجنبوا آفات القلوب والصدور من حب الذات والظهور، وتخلية النفس من حظوظها، وتنقيتها من آفاتها وأمراضها، وشوائبها التي وُجِدت وظهرت.

 

? إن الواجب على الدعاة اليوم هو محبة الخير للغير، وكُره الشر للغير، بمثل ما تحب وتكره لنفسك، ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِب لأخِيهِ ما يُحِب لِنَفْسِهِ»؛ رواه البخاري.

 

وعن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسهَرِ والْحُمى»؛ متفق عليه.

 

? إن الداعي الصادق والمخلص هو مَن يجد المعاذير لإخوانه الدعاة إن هم أخطؤوا، لا سيما في أمر مستساغ مقبول، فالتمِس أيها الداعي لأخيك العذر، فإن لم تجد له عذرًا، فقل: لعل لأخي عذرًا لا أعلَمه.

 

جاء في سير أعلام النبلاء: «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه - لَما سلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة».

 

? وإذا سلك المرء سبيل الفرقة، فهذا المسلك لا يؤثر عليه وحده، بل يؤثر على دعوة غيره وعلى المجتمع كله.

 

? لو طبَّقنا النصوص الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقواعد الاختلاف على ذواتنا وأنفسنا، لَما وقعنا في شباك الهوى وحظوظ النفس، والتنافر والتدابر، فنحن بحاجة إلى دعاة مصلحين بين إخوانهم عند القطيعة والخصومة، يحذرون من التدابر والشحناء؛ قال الإمام البغوي في تفسيره لقوله تعالى: ? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ? [الأنفال: 1]؛ أي: اتقوا الله بطاعته، وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة.

 

? أيها الدعاة، إن طريق الدعوة مليء بالعثرات والمنزلقات والتحديات والزلات، ولكنها تهون بعون الله تعالى لك، ثم بعون إخوانك الدعاة معك، فالدعوة تحتاج إلى تعاون، فلا تستطيع سلوك الطريق وحدك، وكما قيل ‏‏طريق الاستقامة شاق، لكن يُخففه الرفاق، وكما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قوله: «عليك بإخوان الصدق، فعشْ في أكنافهم؛ فإنهم زينة في الرخاء وعُدة في البلاء».

 

? وليُنزل كلٌّ منزلته التي هو عليها، ونوقِّر كبيرنا، ونرحم ونشفق على صغيرنا، ومن الرحمة عدم تصدُّر الضعيف علمًا أمام الأكابر الذين أمضوا ضِعف أو ضعفين أو ثلاثة أضعاف عمر الصغير في العلم والمعرفة والتأليف والتصنيف، وبين بطون الكتب.

 

? وعلى الدعاة والعلماء تقديم القدوة الطيبة والمثل الحسن في نشر العلم والخير والحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعلماء والدعاة عليهم مسؤولية كبيرة أمام أُمَّتهم، فالواجب في حقهم إعطاء المثل الأسمى والأعلى في الأسوة والقدوة الحسنة في دعوتهم.

 

? ‏إن الدعاة والعلماء هم منارة للدنيا، يهتدي بهم الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن طرق الضلال إلى الهدى، ومن سُبل الشر إلى الخير.

 

? وأخيرا أقول: إن من مخاطر وآثار الفرقة بين دعاة الأمة وعلمائها:

• الفشل والضَّعف والهوان، وذهاب الريح والقوة.

• وربما حصل لذلك فتنةٌ للناس في دينها وعقيدتها.

• تسلُّط الأعداء على الأمة بسبب قلة القدوات فيها.

• ضَعف الأمة أمام أعدائها لتشتُّت وَحدة الكلمة فيها.

• ظهور الجهل والتعالم بين أفراد الأمة، وفساد الأخلاق والسلوك والتربية، لضَعف القدوات والتخلي عن القيم والمبادئ.

• الطعن في ثوابت الدين ومحكمات الشريعة.

• التشكيك في أحكام الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

• ظهور الظلم، وتفشي الكذب بين الناس.

• ظهور الشبهات والشهوات مِن قِبَل الجهلاء وأهل الزيغ والضلال.

 

هذا ما تيسَّر إيراده، واللهَ أسأل أن ينفَع به، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين.


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook