الدعوة العملية

الكاتب: المدير -
الدعوة العملية
"الدعوة العملية

 

الخطة العملية (1) [1]:

ومن الخطة العملية ما هو هين لين رقيق، ومنها ما هو صلب قوي شديد، وكلاهما من الأسلحة التي لا غنى عنها لواعظ، والحكيم المسدد مَن يضع كلًّا منهما موضعه، وقد يجمع بينهما إذا دعتْ إلى ذلك سياسة الدعوة.

 

ومن أمثلة النوع الأول ما يُؤثر عن الحسنين رضي الله عنهما، لَمَّا رأيَا شيخًا كبيرًا لا يحسن الوضوء، وكان لا بد أن يُعلماه، وشق عليهما أن يجابهاه بالجهل، فماذا يصنعان؟

تظاهرَا بالاختلاف في أيهما أحسن وضوءًا من أخيه، ثم اتفقا على أن يتوضأا أمام الرجل ويحكماه، وما يريدان بذلك إلا تعليمه بالحكمة والموعظة الحسنة، فما كادا يفرغان مِن الوضوء حتى قال لهما الرجل: أصبتما وأخطأتُ، وشكر لهما أن علَّماه وأرشداه!

 

ومنها ما رواه الغزالي عن عبدالله بن محمد ابن عائشة، أنه خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام قرشي سكران، وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت؛ فاجتمع الناس يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه، فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال له: امض معي حتى إذا دخل منزله قال لبعض غلمانه: بَيِّتْه عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهَمَّ بالانصراف، فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه، فأدخله عليه، فقال له: أما استحييت لنفسك؟ أما استحييت لشرفك؟ أما ترى من ولدك؟ فاتق الله، وانزع عما أنت فيه؛ فبكى الغلام منكسًا رأسه، ثم رفع رأسه، وقال: عاهدتُ الله تعالى عهدًا يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ، ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: ادنُ مني؛ فقبَّل رأسه، وقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه، ويكتب عنه الحديث.

 

وكان ذلك ببركة رفقه، ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويكون معروفهم منكرًا، فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالوا به ما تطلبون.

 

ومن لطائف ما حدثني به بعضُ الوعاظ المعاصرين، قال: دخلتُ مأتمًا حافلًا لأؤدي واجب العزاء، وفي ركن من السرادق اجتمع نفرٌ مِن المقربين يُدخنون بالكركرة (الشيشة)، والقرآنُ يتلى، فعظم عليه أن يُهان القرآن، وخشي أن يزجرهم، فتكون ضجة وفتنة، فأشار إليهم أن يشترك معهم فرحبوا به، ومدوا إليه الكركرة زاعمين أنهم يؤدون واجبًا؛ فأمسك بعنانها وقيدها فلم يشرب، ولم يعطهم إياها، فلم يكن إلا أن خجلوا وفهموا مقصده، ثم ألقوا بها وهي هامدة خلف السرادق!

 

ومن أمثلة النوع الثاني ما رواه البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده، وهو يقول: ? جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ? [الإسراء: 81].

 

ومنه ما ثبت في السيرة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم أرسل بعد فتح مكة خالد بن الوليد في ثلاثين فارسًا لهدم العُزى، وهي أكبر صنم لقريش، وأرسل عمرو بن العاص لهدم سُواع، وهو أعظم صنم لهذيل، وبعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسًا لهدم مَناة، وهي صنم لكلب وخزاعة.

 

ومنه ما رواه ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلَغَه أن قومًا يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقُطِعَتْ[2]، وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها على الموت، وفي روايةٍ: على ألا يفروا، وذلك في غزوة الحديبية، وكانتْ فتحًا مبينًا، وقد سميت هذه الشجرة فيما بعدُ: شجرة الرضوان، إلا أن عمر رضي الله عنه خشي أن يفتتن الناسُ بها؛ فأَمَرَ بقَطْعِها.

 

ولهذه المناسبة نذكر أن بمصر أشجارًا كثيرة يَتَبَرَّك الناس بها، ويتقرب الجُهَّال بالنذور لها، ولقد شاهدتُ بعيني شجرةَ أثل معمرة ببلدة القاسمية مِن أعمال الفيوم، يزعم الناس هناك أن تحتها أربعين وليًّا، ولا يستطيع أحد أن يَمَسَّها بسوء، ويهولك ما ترى من حبال وخيوط عُلِّقَتْ بها، ومِن شموع ومصابيح تُضاء تحتها، وقد وفقني الله لقطعها مع نجارين اصطحبتهما لها بعد إنذار أهل البلدة وتهديدهم، وكان يوم جمعة فشهدوا وعجبوا أنْ قطعتُها دون أن تُبين فيَّ برهانًا! وهي التي فعلتْ وفعلتْ بأناسٍ هموا بها مِن قبل، وحق على ولاة الأمور الداعين إلى الله أن يقضوا على كل أثرٍ مِن آثار الجاهلية الأولى؛ فإنهم مسؤولون بين يدي الله عن كل ضلالة وعن كل ذريعة إليها، ونجد لهذه الأشجار والأحجار وما إليها مَرعى خصيبًا في ظلال الجهل وسكوت أهل العلم.

 

ثم القتال في سبيل الله أعظمُ شاهدٍ لهذا النوع مِن الخطة العملية، وبه حُمِيَت الدعوةُ الإسلاميةُ، فعز الإسلام، وانتشر السلم، وعم الأمن، ولا عجب، فإنه لا يدفع البأس إلا البأس؛ ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ? [البقرة: 193].

 

مجلة الإسلام: السنة 11، العدد 4. 17 محرم 1361هـ، 13 فبراير سنة 1942م.




[1] انظر العدد 43 من السنة الماضية.

[2] انظر: شرح المواهب ج3.


"
شارك المقالة:
34 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook