الدولة السعودية الأولى في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 الدولة السعودية الأولى في المملكة العربية السعودية

الدولة السعودية الأولى في المملكة العربية السعودية.

 
 
شهدت الجزيرة العربية ذروة ازدهارها الديني والسياسي والاقتصادي عند ظهور رسالة الإسلام وقيام دولته فيها، ولكن بعد انتقال الخلافة الإسلامية إلى الشام ثم إلى العراق فيما بعد دخلت الجزيرة العربية في فترات من الفوضى والتفكك السياسي، فقد ظهر فيها عدد من الدويلات والقوى السياسية المتناحرة التي اختلفت أعمارها الزمنية حسب قوتها وقوة القوى المجاورة لها. وقد استمرت الأمور على ذلك المنوال حتى بداية العصر الحديث، إذ شهد القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي قدوم العثمانيين إلى المنطقة العربية، ولكن مما يُلاحَظ على حكام الدولة العثمانية في الجزيرة العربية أنهم بذلوا جهودًا كبيرةً للسيطرة على السواحل والأطراف، وتأمين الطرق المؤدية إلى الأمكنة المقدسة، لكنهم لم يبذلوا جهودًا مماثلة للسيطرة على المناطق الداخلية التي يصعب الوصول إليها؛ ولهذا لم تتغير الأمور كثيرًا عما كانت عليه في القرون السابقة؛ فإقليم نجد في وسط الجزيرة العربية لم يخضع لحكم الدولة العثمانية، ولم يكن لهذه الدولة أي نوع من أنواع التمثيل فيه، ومن ناحية أخرى لم تشر المصادر إلى أي محاولة عثمانية لبسط السيطرة على هذا الإقليم إما بتسيير حملات عسكرية إليها أو بتعيين ولاة أو مندوبين؛ وربما كان تفسير ذلك أن الدولة العثمانية لم تُعر كثيرًا من الاهتمام لهذا الإقليم الذي سيكلفها كثيرًا من الخسائر، ولن تعود عليها بفائدة مادية أو إستراتيجية  .  في ظل هذه الظروف وُلدت الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي. ومن المناسب قبل الحديث عن قيام هذه الدولة إلقاء الضوء على ثلاثة عوامل أساسية أسهمت في ظهورها:
 
 

عوامل قيام الدولة السعودية الأولى

 
 
1 - الأوضاع السياسية:
 
كانت نجد - مهد الدولة السعودية ومركز انطلاقها - تعاني فوضى أمنية، وفراغًا سياسيًا شديدًا تَمَثَّلَ في غياب السلطة المركزية القوية التي تجمع بين أقاليمها المتباعدة، وتفرض الأمن على بلدانها وقبائلها المتناحرة، واستمرت هذه الحال عددًا من القرون، سادت فيها العصبية القبلية، فلكل قبيلة إمارة أو أكثر، ولكل قرية إمارة أو أكثر، وأصبحت القوة هي الفيصل في العلاقات بين كل هذه القوى أو كما قيل: (نجد لمن طالت قناته)  ،  وقد أطلق أحد المؤرخين على تلك الفترة التي سبقت قيام الدولة السعودية الأولى "عهد الإمارات المتناحرة" ولم يقتصر الأمر على الخلافات والنـزاعات البينية بين البلدان، بل تجاوز ذلك إلى خلافات داخلية مريرة بين الأسر الحاكمة نفسها، حتى إن إمارة البلد قُسمت في بعض الأحيان إلى إمارتين، وربما إلى أربع إمارات كما حصل في بلدة التويم (في إقليم سدير) سنة 1120هـ / 1708م  ،  كما شهد وادي حنيفة ظهور بعض الإمارات المهمة، مثل: إمارتَي الدرعية والعيينة  . وفي ظل هذه الخلافات المستمرة وجدت بعض القوى المجاورة لإقليم نجد فرصة مواتية لمد نفوذها إلى وسط الجزيرة العربية، وكان أشراف مكة قد قاموا بإرسال حملتين كبيرتين إلى هذا الإقليم:الأولى كانت بقيادة الشريف حسن بن أبانمي سنة 986هـ / 1578م، وقد وُصفت بأنها حملة كبيرة ومهمة يزيد عدد أفراد جيشها على خمسين ألفًا، وكانت وجهتها إلى معكال  ،  وقد حاصر الجيش البلدة مدة طويلة قبل أن يقتحمها ويستولي عليها، ثم عاد إلى مكة محمَّلاً بالغنائم ومعه بعض من رؤساء معكال الذين مكثوا في الأَسْر مدة عام، ثم أفرج عنهم الشريف حسن، وعيَّن عليهم أميرًا من قِبَله.أما الحملة الأخرى فقد كانت في سنة 989هـ / 1581م، وقد جاءت إلى جنوبي نجد، وهاجمت البديع (بلدة في محافظة الأفلاج حاليًا) والخرج والسلمية واليمامة (في محافظة الخرج حاليًا)  . ثم واصل أشراف مكة حملاتهم وغزواتهم على نجد خلال القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي، ومما يُلاحَظ على تلك الحملات أنها - في معظمها - كانت موجهة إلى المراكز الحضرية أكثر منها إلى مراكز تجمع سكان البادية؛ ما يدل على أن أهدافها ربما كانت اقتصادية أكثر مما هي أمنية  . من ناحية أخرى لم تقتصر التدخلات الخارجية في نجد على أشراف مكة، بل يُلاحَظ أنه في الوقت الذي أخذت حملاتهم في التناقص بدأت الحملات تأتي من شرقي الجزيرة العربية، حيث تمكن بنو خالد من تأسيس دولتهم في الأحساء سنة 1080هـ / 1669م، ثم وسعوا نشاطهم العسكري خارج إقليم الأحساء، فبعد أن استقرت الأمور لبراك بن غرير قاد حملة على نجد سنة 1081هـ / 1670م، حيث توغَّل في العارض، وأغار على قبيلة الظفير، كما أغار على آل نبهان قرب سدوس في عام 1090هـ / 1679م هاجم براك بعض القبائل النجدية، مبتدئًا بقبيلة السهول على مورد ماء يُسمى رماح، ثم اتجه إلى الحرملية (مورد ماء بالقرب من القويعية)  ، حيث هاجم فئات من قبيلة قحطان، فلمَّا علموا بقدومه انسحبوا إلى وادي الخنقة (وادٍ مشهور قرب القويعية)، ودارت بين الطرفين معركة شرسة تكبَّد فيها الطرفان كثيرًا من الخسائر  .  وبعد أربع سنوات قام محمد بن غرير (الذي خَلَفَ أخاه براكًا) بحملة على بلدة اليمامة في محافظة الخرج  ،  ويُلاحَظ على هذه الحملة أنها مختلفة في هدفها عن الحملات السابقة، فقد كانت وجهتها منطقة حضرية، وربَّما كان سبب ذلك أن بني خالد أرادوا بسط سيادتهم بشكل أو بآخر على إقليم الخرج القريب من الأحساء والغني بمنتجاته الزراعية.لم تكن السياسة وتداعياتها المحلية والإقليمية والفوضى الأمنية هي كل ما عصف بالمجتمع النجدي في فترة ما قبل ظهور الدولة السعودية الأولى، بل كان ذلك المجتمع عرضةً لعوامل بيئية أخرى خطيرة كان تأثيرها أبلغ من العوامل الأخرى، وكما هو معروف فإن نجدًا منطقة صحراوية محدودة الموارد تتأثر سريعًا بالتقلُّبات المناخية والتغيُّرات الكونية  ،وبخاصة تأخر هطلان الأمطار وعدم انتظامها في كثير من السنوات، فقد تعرضت لفترات من الجفاف والجدب والقحط، وغيرها من الكوارث مثل العواصف والبَرَد وأسراب الجراد. والحقيقة أن مثل هذه الظواهر تؤثِّر في حياة الناس، ولكن تأثيرها أسرع وأعمق لدى سكان البادية؛ نظرًا إلى نمط معيشتهم الذي يعتمد على الرعي بالدرجة الأولى، بخلاف الحاضرة التي تعتمد على الزراعة والتجارة ولذا فإنها تستطيع أن تتحمل الجفاف والقحط لبعض الوقت. ونظرًا إلى التأثير العميق الذي تسببه مثل هذه الكوارث في حياة سكان البادية والحاضرة؛ فإن كُتَّاب الحوليات النجدية حرصوا على تدوين أخبار هذه الكوارث ونعتها بأسماء خاصة بها؛ وكان من أبرز الأمثلة قحط وقع عام 1135هـ / 1722م أُطلق عليه اسم (سحي)، وقد عمَّ البادية والحاضرة وامتد تأثيره من الشام إلى اليمن، واستمر عددًا من السنوات، وهلكت بسببه مواشي سكان البادية، ما أجبر كثيرًا منهم على النـزول في البلدان. كما غارت آبار المياه لدى الحاضرة، وبخاصة في إقليم سدير، وجلا كثير من أهل نجد إلى الأحساء والعراق، وقد لخَّص أحد أدباء تلك المرحلة التأثير العميق لهذا الحدث في حياة الناس بقوله:
غـدا  النـاسُ أثلاثًا فثلثٌ شريدةٌ      يلاوي صليـبَ البين عارٍ وجائعُ
وثلـثٌ إلى بطنِ الثرى دفن ميتٍ      وثلثٌ  إلى الأريافِ جالٍ وناجعُ  
تلك كانت حالة الناس في تلك القرون التي سبقت ظهور الدولة السعودية الأولى، تفتك بهم الكوارث البيئية بين فترة وأخرى، فضلاً عن الفقر والجهل والأمراض والأوبئة. وعلى الرغم من كل تلك العوامل السلبية إلا أن المؤرخ يلحظ ظاهرتين إيجابيتين هما: تعمير البلدان، وظهور بعض المراكز العلمية.
 

تأسيس الدرعية وقيام إمارة آل سعود 

 
كان من بين التطورات الإيجابية القليلة التي شهدتها نجد قبل ظهور الدولة السعودية الأولى ظاهرة تعمير البلدان، أو إعادة تعمير بعض البلدان القديمة التي كانت قد هُجِرت لقرون طويلة. وعلى الرغم من أن مثل تلك التطورات كانت انعكاسًا للخلافات التي شهدتها بعض بلدان نجد؛ إلا أنها خير دليل على الحراك الاجتماعي، وعلى زيادة عدد السكان التي أدت إلى زيادة التنافس على الموارد المحدودة، فأخذ الناس يبحثون عن مواطن جديدة. ونتيجةً لذلك أخذ عدد البلدان يتنامى، ومن بين البلدان التي عُمرت أو أُعِيد تعميرها في أوقات مختلفة: الدرعية  ، والعيينة، والتويم، وحرمة، والمجمعة، وحريملاء، والحصون، وروضة سدير، والقارة، والقرينة، وجلاجل، والغاط، وحوطة بني تميم، وشقراء، والحريق، والدوادمي، والشعراء، والقويعية  . وكان من أهم البلدان التي عُمِرت في تلك الفترة بلدتا الدرعية والعيينة   اللتان عُمِرَتا في منتصف القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وقد كان لهذا التوأم دور مهم في تاريخ نجد.أما الدرعية فتشغل موقعًا متميزًا في منتصف وادي حنيفة شمال غربي الرياض، وتتناثر بساتينها ونخيلها على ضفتَي هذا الوادي  .  وقد ابتدأت عمارة الدرعية بموضعين صغيرين شكَّلا نواة تلك البلدة هما: المُلَيْبِيد وغَصِيبة، فقد أقطعهما ابنُ درع صاحب حجر (الرياض القديمة) والجزعة (بلدة تقع على وادي حنيفة إلى الجنوب من حجر) مانعَ بنَ ربيعة المريدي، عندما قَدِم عليه من بلدته القديمة (واسمها الدرعية) التي تقع قرب القطيف في شرقي الجزيرة العربية  . 
 
 

أمراء الدرعية 

 
يرجع نسب الدروع وأبناء عمهم (أبناء مانع المريدي) أجداد آل سعود إلى بني حنيفة القبيلة المعروفة  ،  وقد تمكَّنَ مانع المريدي وأحفاده من تأسيس إمارتهم في هذين الموضعين ثم التوسع فيما حولهما من الأمكنة الواقعة إلى الشمال من غصيبة، وتعاقب على إمارة الدرعية منذ تأسيسها إلى قيام الدولة السعودية الأولى سبعة عشر أميرًا لم تخرج الإمارة من أيديهم طوال تلك الفترة التي بلغت ثلاثمئة وسبع سنين سوى مدة قصيرة لا تتجاوز أربعة عشر عامًا في الفترة من 1107 - 1121هـ / 1695 - 1709م  ،  فقد نمت الدرعية في عهد مؤسسها مانع بن ربيعة المريدي بصورة سريعة وأصبحت من أهم بلدان وادي حنيفة  ،  ولا تمدنا المصادر بمزيد من معلومات عن عهده أو علاقاته بالقوى المجاورة للدرعية، إلا أن هناك إشارات إلى أن وفاته كانت سنة 858هـ / 1454م وقيل سنة 860هـ / 1456م  .  وتولى بعده ابنه ربيعة بن مانع الذي كان بصحبة والده عندما قَدِم بلدة الدرعية، وساعده في تأسيس الدرعية، وخلفه في إمارتها بعد وفاته، واتسعت إمارة الدرعية في عهده وكثر أتباعه، وصارت له شهرة كما يذكر ابن بشر  ،  وقد ثار عليه ابنه موسى فلجأ ربيعة إلى حمد بن حسين بن طويق أمير العيينة الذي رحب بربيعة وأكرمه "من أجل معروف سابق عليه"، وبقي في العيينة إلى وفاته، ليتولى موسى بن ربيعة الحكم في الدرعية، وكانت له شهرة ومكانة، ولا تحدد المصادر تاريخًا ولا سببًا لحادثة انتزاع موسى الإمارة من والده. ودخل موسى في صراع مع آل يزيد بعد أن كوَّن له قوة من الأتباع، وقضى على نفوذ آل يزيد في المناطق الواقعة إلى الشمال من الدرعية، واستمر أميرًا للدرعية إلى وفاته في تاريخ لم تحدده المصادر. وتولى بعده ابنه إبراهيم بن موسى، ولا تشير المصادر إلى أحداث في فترة حكمه إلا ما كان له من كثرة الأبناء الذين تفرع عنهم عدد كبير من الأسر، ومنهم ابنه مرخان الذي تولى الحكم بعده وشهدت الأسرة في عهده رحيل بعض إخوته إلى بلدات نجدية قريبة من الدرعية، فقد رحل عبدالرحمن بن إبراهيم إلى بلدة ضرما وعُرف أحفاده بـ (آل عبدالرحمن) وبـ (الشيوخ) وأصبح لهم مكانة وزعامة، ورحل سيف بن إبراهيم إلى بلد أبي الكباش وعُرف بعض أحفاده هناك بـ (آل يحيى)، وأعقب مرخان أربعة أبناء وانحصرت إمارة الدرعية في عقب ولدَيه مقرن (جد الأسرة السعودية المالكة) وربيعة (جد آل وطبان).وعلى الرغم من قلة مصادر المعلومات عن الفترة التي أعقبت وفاة مرخان بن إبراهيم إلى إمارة سعود بن محمد بن مقرن سنة 1132هـ / 1718م، إلا أن ثمة مَن يرجِّح تقاسُم ربيعة بن مرخان وأخوه مقرن حكم الدرعية بالاتفاق بعد وفاة والدهما، وقد تولى بعدهما مرخان بن مقرن بن مرخان إلى سنة 1065هـ / 1653م إذ قُتل على يد ابن عمه وطبان بن ربيعة، وقد أدت هذه الحادثة إلى فتح باب الخلاف والنـزاع بين أبناء مقرن وأبناء ربيعة، ويبدو أن وطبان لم يستمر في إمارته طويلاً فهناك من يرى أنه فرَّ إلى بلدة الزبير جنوبي العراق وهناك من يرى أنه قُتل ثأرًا لمقتل مرخان، وقد تولى بعده محمد بن مقرن بن مرخان ثم ناصر بن محمد آل وطبان إلى أن قُتل سنة 1084هـ / 1672م، وعادت الإمارة مرة أخرى إلى محمد بن مقرن بن مرخان، وأشار مؤرخو نجد إلى أنه اشترك مع آخرين من بعض البلدان القريبة من الدرعية في مهاجمة بلدة سدوس سنة 1098 / 1687م، واستمر محمد بن مقرن في إمارة الدرعية حتى توفي سنة 1106م / 1695م، وأعقب ولدين هما سعود (والد الإمام محمد بن سعود) ومقرن، وتولى إمارة الدرعية إدريس بن وطبان بن ربيعة، ولم يستمر طويلاً فقد قُتل في السنة التالية، مما مكن أحد الطامحين - وهو سلطان بن حمد القبس - إلى انتزاع الإمارة منهم سنة 1107هـ / 1695م، واستمر يحكم الدرعية حتى قُتل بعد ثلاثة عشر عامًا، فخلفه أخوه، ولكنه لم يطل به المقام حيث قُتل في العام التالي  . واستطاع موسى بن ربيعة بن وطبان سنة 1121هـ / 1709م استعادة الحكم في الدرعية لأسرته مرةً أخرى، وبعد خمس سنوات خَلَفَهُ سعود بن محمد بن مقرن، حتى تُوفي سنة 1137هـ / 1724م، ثم شهدت الدرعية بعد ذلك فترة قصيرة من الصراع على الحكم استمرت سنتين، حتى جاء محمد بن سعود بن محمد بن مقرن إلى السلطة، وقام ببعض الإجراءات الحازمة التي مكنَّته من السيطرة على الدرعية  ،  وفي عهده استتبَّت الأمور وشهد مجتمع الدرعية استقرارًا سياسيًا لم يشهده منذ فترة طويلة، ومن المؤكد أن ذلك كان ضمن العوامل التي جعلت الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - يقرر الانتقال إليها طالبًا العون والنجدة من أميرها محمد بن سعود، حيث كانت قوة الدرعية في تنامٍ مستمر، حيث تمكنت من صد هجوم زعيم بني خالد سنة 1133هـ / 1721م، كما كانت من القوة التي جعلتها تفكر في الهجوم على العيينة سنة 1139هـ / 1727م وتدخلت لمساعدة دهام بن دواس أمير الرياض الذي سيطر على مشكلاته بمساعدتها سنة 1152هـ / 1739م واستقلالية محمد بن سعود وقوة شخصيته 
 

الدعوة الإصلاحية

 
تُعد المبايعة التي تمت بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود العامل الحاسم في قيام الدولة السعودية الأولى، فقد ظهرت دعوة الشيخ في وقت ساد فيه كثيرًا من مناطق العالم الإسلامي انتشارُ كثير من البدع في الدين؛ مثل تقديس الأموات، وطلب الشفاعة منهم عند الله، وغيرها من الممارسات البدعية.وبغض النظر عن مبالغة بعض المصادر في أحكامها على الحالة الدينية فيها فقد انتشرت بعض الممارسات الشركية في نجد، وساد الجهل بأحكام الدين، وعدم التمسك بأركانه، وبخاصةٍ في البادية، وبهذا يتبين مدى الحاجة إلى الإصلاح الديني.ومن ناحية أخرى شهدت نجد في فترة ما قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حركة علمية نشطة، أدت إلى تنامي أعداد العلماء وانتشارهم في البلدان، ونتج من ذلك ظهور عدد من المراكز العلمية فيها. وقد تمكنت بلدة أشيقر (في إقليم الوشم) من تزعُّم المراكز العلمية في نجد؛ وربما كان ذلك بسبب قِدَمها ووجود بعض الأسر العلمية فيها، مثل: آل مشرف، وآل بسام، وآل إسماعيل، وآل قصير، وغيرهم. كما أن موقعها التجاري وانخراط كثير من سكانها في التجارة انعكسا على مستوى المعيشة؛ مما مكَّن لطلب العلم، سواء كان ذلك في أشيقر نفسها، أو عن طريق بعض العلماء عند مرورهم بها في طريقهم إلى الحج، أو بمرافقة القوافل التجارية لطلب العلم خارج الجزيرة العربية، وبخاصة في الشام والعراق  . وتأتي بلدة مقرن (وهو اسم مدينة الرياض في ذلك الوقت) في المركز الثاني بعد أشيقر، من حيث عدد العلماء الذين خرجوا منها وقد نمت وتطورت وزاد ثقلها السياسي بعد توحدها مع معكال، فاستقطبت بعض العلماء إليها، مثل الأخوين عبدالله وعبدالرحمن آل ذهلان اللذَين أسهما إسهامًا كبيرًا في جعلها مركزًا علميًا  . أما العيينة فلم يخرج منها سوى عالم واحد هو أحمد بن عطوة، إلا أنها استقطبت العلماء فهاجر إليها عدد منهم، وتحولت إلى مركز علمي مهم؛ بسبب ما شهدته من استقرار سياسي ونمو اقتصادي تحت حكم آل معمر. وفي ظل هذه الظروف انتقل بعض من أسرة آل مشرف من أشيقر إلى العيينة  ،  كما تمكنت هذه البلدة من جذب عدد من العلماء، ومن أبرزهم أحمد بن محمد البسام، وسليمان بن علي بن مشرف (جد الشيخ محمد بن عبدالوهاب) الذي وُصف بأنه فقيه الديار النجدية  . 
 
- الشيخ محمد بن عبدالوهاب:
 
وُلد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف، في العيينة عام 1115هـ / 1703م ويعود في نسبه إلى أسرة آل مُشَرَّف؛ وهي فرع من الوهبة أحد بطون قبيلة تميم المشهورة  .  وقد نشأ الشيخ وتربى في بيئة علمية متميزة، فهو ينتمي إلى آل مشرف تلك الأسرة العلمية المشهورة في موطنها الأصلي بلدة أشيقر، وكذلك في موطنها الجديد وهو العيينة بعد هجرة جده الشيخ سليمان بن علي إليها؛ لذا فقد كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب محاطًا بالعلماء منذ صغره، فوالده الشيخ عبدالوهاب بن سليمان، وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان، وأخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب، وابن عمه الشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم، وخاله الشيخ سيف بن محمد بن عزاز  . في هذا الجو العلمي نشأ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وانخرط في طلب العلم منذ صغره، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم قبل بلوغه العاشرة من عمره، ثم بدأ يطلب العلم على يد والده، وعلى يد غيره من علماء العيينة، واتجه إلى دراسة العلوم الشرعية من حديث وتفسير وفقه بالإضافة إلى علوم اللغة العربية. وأُعجب الشيخ عبدالوهاب بنبوغ ابنه، وقد قال عنه: " (لقد استفدت من ولدي محمد فوائد في الأحكام) أو قريبًا من هذا الكلام، وقد كتب والده إلى بعض إخوانه رسالة نوَّه فيها بشأنه يثني فيها عليه؛ أن له فهمًا جيدًا..." إلخ  . وتزوَّج الشيخ، ثم حج حجته الأولى، وزار المدينة المنورة، وشاهد هناك دروس العلماء والحلقات؛ ما زاد من شوقه إلى طلب العلم. فبعد عودته إلى العيينة عقد العزم على الرحلة في طلب العلم، فخرج إلى مكة حاجًَّا للمرة الثانية، ثم عرَّج على المدينة المنورة، ودرس على بعض علمائها، وبخاصةٍ الشيخان: عبدالله بن إبراهيم بن سيف، ومحمد حياة السندي  ،  فتأثر بهما وبآرائهما.وهكذا بدأت فكرة الإصلاح تظهر عند الشيخ، لكنه رأى أن الوقت لم يحن بعد ولا بد من الاستزادة من العلم، ولهذا بعد أن عاد إلى العيينة شدَّ رحاله إلى العراق، ودرس في البصرة على يد الشيخ محمد المجموعي، وهناك تركزت أفكاره حول أهمية التوحيد، وإنكار الشركيات، ومحاربة البدع، ودخل في مناقشات حادة مع بعض فئات من المجتمع البصري؛ ما أدى إلى إخراجه من تلك المدينة. ثم عاد الشيخ أدراجه إلى نجد مرورًا بالأحساء، حيث تناقش مع بعض علمائها في أمور التوحيد والعقيدة، مثل: الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، والشيخ عبدالله بن فيروز، والشيخ محمد بن عفالق  . ومما لا شك فيه أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب تعلَّم كثيرًا خلال تجواله في هذه السياحة العلمية، وتعرَّف إلى أحوال العالم الإسلامي قبل أن يعود إلى حريملاء التي أصبح والده قاضيًا فيها. وفي حياة والده قام الشيخ بمحاولة مبكرة للإفصاح عن آرائه الإصلاحية، أو كما يقول ابن بشر: "أخذ يقرأ عليه (أي على والده)، وينكر ما يفعل الجُهَّال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال، وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات، حتى وقع بينه وبين أبيه كلام"  .  ولهذا السبب أجَّل الشيخ أمر الدعوة إلى مرحلة لاحقة، وركَّز جهوده للعلم والتدريس، وألَّف كتاب (التوحيد) أثناء إقامته في حريملاء  . أعلن الشيخ محمد بن عبدالوهاب دعوته الإصلاحية بعد وفاة والده عام 1153هـ / 1740م، وتستمد هذه الدعوة مبادئها من مبادئ الإسلام المأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وهي ترتكز في الأساس على توحيد الألوهية  ،  ومحاربة البدع والمنكرات المستحدثة والشركيات، وقد لقيت بعض النجاح في حريملاء، إلا أنه أُجبر عام 1154هـ / 1741م على تركها إلى العيينة التي أصبح له فيها بعض الأنصار، وبخاصةٍ أميرها عثمان بن معمر الذي توثقت العلاقة معه بعد زواج الشيخ بعمة الأمير: الجوهرة بنت عبدالله بن معمر  .  وهكذا ازداد أنصار الدعوة، ودخلت مرحلة التطبيق عندما بدأ الشيخ والأمير في تأديب من لا يؤدُّون الصلاة جماعةً في المسجد، وقَطْع الأشجار التي يتوسل بها الجُهَّال، وهَدْم القبة المقامة على قبر أحد الصحابة في الجبلة، وكان العامة يعظمونها ويدعونها من دون الله.وكما كان للدعوة أنصار فقد كان لها خصوم  ،  وعندما وصلت إلى مرحلة من الانتشار أيقن خصومها أنه لا بد من البحث عن طرق أخرى تمكِّنهم من التصدي لها؛ لذا بحثوا عن دعم خارجي، ونجحوا في إقناع زعيم بني خالد في الأحساء سليمان بن محمد آل عريعر (ويُسمى أحيانًا آل غرير أو آل حميد) بخطورة الوضع وبالوقوف معهم، وقالوا له: "إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور"  ،  وقد كان لزعيم بني خالد نفوذ في نجد التي كان تجارها يترددون على الأحساء، وكان نفوذه في العيينة أقوى من باقي بلدات نجد، فقد كان لأميرها بعض الممتلكات في الأحساء، وكان يتلقى عونًا ماليًا سنويًا كبيرًا من زعيم بني خالد؛ لذا لم يرد ابن معمر المخاطرة بكل ذلك؛ فانصاع لأوامر زعيم بني خالد، وطلب من الشيخ مغادرة العيينة إلى حيث يشاء، فيمَّم صوب الدرعية  . 
 
 
شارك المقالة:
66 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook