الرحمة في التكاليف الشرعية

الكاتب: المدير -
الرحمة في التكاليف الشرعية
"الرحمة في التكاليف الشرعية




إن الرحمة أساس في القيم والأخلاقيات الإسلامية، فمن لوازم الإخاء في الإسلام: التعاون والتراحم والتناصر، ومن صور التراحم: التكافل المادي والمعنوي، اقتصادي وسياسي، عسكري ومدني، اجتماعي وثقافي، يبدأ بين الأقارب، وتتسع دائرته لتشمل الجيران وأبناء الحي الواحد، ثم تتسع للإقليم ثم للدولة ثم للعالم أجمع[1].

 

وهي أيضًا أساس في فلسفة التشريع الإسلامي، هذا التشريع الذي يستهدف تهذيب الفرد حتى يكون مصدر خير لجماعته، ولا يكون منه شر لأحد، وفي سبيل ذلك كرّم الذات الإنسانية، كما يستهدف التشريع الإسلامي: إقامة العدل في الجماعة المسلمة، وتحقيق المصلحة الحقيقية العليا للمجتمع المسلم، وهي مصلحة تعم ولا تخص [2] وبعبارة أخرى فإن التشريع يسعى إلى: تزكية الأنفس وتطهيرها عن طريق المعرفة بالله وعبادته، وتدعيم الروابط الإنسانية وإقامتها على أساس من الحب والرحمة والإخاء والمساواة والعدل [3] وقد قال الله سبحانه: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? [الجمعة: 2][4]

 

وتعد الرحمة مقصدًا أوليًا في غايات التشريع الإسلامي، مصداقًا للآية الكريمة: ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ? [يونس: 57][5] وفي سبيل ذلك، فإن الرحمة تغلف أحكام الشريعة[6] فلم تكلف الأحكامُ الشرعية الناسَ ما لا يطيقون، وإنما كلّفتهم ما يستطيعون تأديته باستمرار، لأن المصلحة التي تتحقق فيها لن تكون إلا بالاستمرار على أدائها [7].

 

وقد جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه جابر بن عبد الله - قال: بعثت بالحنيفية السمحة ، وفي رواية أخرى، يقول صلى الله عليه وسلم: إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قيل يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة [8]

والحنيفية - لغويًا -: المائلة عن الباطل إلى الحق. وقد أطلقت على ديانة إبراهيم - عليه السلام -، والسمحة: السهلة [9]. إن السهولة لا تعني سهولة العقيدة، بقدر ما تعني يسر التشريع ورفقه بالناس. وقد روي عن أبي محجن الثقفي مرفوعًا: إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر [10].

 

من أبرز شروط الأحكام التكليفية ألا يكون فيها تكليف بما فيه حرج. ويُعرّف الحرج بأنه: منع وقوع أو عدم بقاء ما أوقع مشقة زائدة عن المعتاد على بدن العبد أو نفسه أو عليهما معًا في الدنيا والآخرة أو فيهما معًا، حالاً أو مآلاً، غير معارض بما هو أشد منه أو بما يتعلق به حق للغير مساو له أو أكثر منه[11].

وذلك بألا يكون فيها تكليف بالمستحيل وأن تكون معلومة أو في حكم المعلومة وأن يكون التكليف فيه طاعة وعمل صالح [12]

 

فمفهوم رفع الحرج، مفهوم إنساني بالدرجة الأولى، فاليسر في التشريع الإسلامي متجه إلى إزالة المشقة على العبد، سواء كانت مشقة بدنية أو نفسية، فلا مجال لتعذيب النفس، ولا حرمانها حرمانًا يؤدي لهلاكها، أو عدم إشباع رغباتها الغريزية بطريق شرعي، فمثلاً: الشهوة الجنسية تشبع بالزواج، وشهوة المال تشبع بالسعي لطلب الرزق، واحترام الملكية الفردية، التي هي محصلة كد الفرد في دنياه أو ورثه من ذويه. وبالتالي فإن أي حكم فيه مشقة أو يتسبب في تعب آني أو سابق أو مستقبل للعبد مرفوع كما تقر مبادئ الشريعة الإسلامية.

 

ومن أبرز القواعد الخاصة برفع الحرج: أن الحرج مرفوع شرعًا، وأن المشقة (في الأمر أو الحياة) تجلب التيسير مثل: السفر والمرض والإكراه والنسيان والجهل وعموم البلوى والنقص في الأهلية، وأن الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات [13] كما أن القدرة على الفعل شرط التكليف، فلا تكليف بممتنع...، والقدرة لا تكن إلا مع الفعل، وأفعال العباد مخلوقة لله، فعند التكليف لا قدرة للمكلف على الفعل فهو مستحيل منه... (إذن) القدرة هي مناط التكليف، وهي عبارة عن سلامة الأسباب والآلات وهي تتقدم العمل قطعًا[14].

 

وقد سلك الشارع الحكيم في سبيل ذلك ثلاثة سبل:

الأول: هو رفع الحرج ابتداءً، بعدم وضع تكاليف ليست في طاقة الإنسان سواء كان ذلك بمنع التكليف بما لا يطاق أو بعدم التكليف، ما لم يكن أصلاً، أو بإعفائنا من أحكام شديدة وقاسية كانت على الأمم السابقة.

الثاني: رفع الحرج الطارئ لوجود أعذار طارئة صيّرت الحكم الذي كان مقدرًا للإنسان الطبيعي غير موجود بعد طروء العذر مثل: الرخصة في السفر والمرض. فالمسافر يجد عنتًا في سفره، فيجوز له الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية؛ والمريض يعاني الألم، فيجوز له الفطر في رمضان والصلاة جالسًا... إلخ.

فالتشريع مرن، يتعامل مع مختلف حالات الضعف الإنساني، ويتواكب مع المستجد منها وفقًا لقواعد الاجتهاد، وتهدف عينُ الشارع الحكيم دائمًا إلى التيسير، وتسعى إلى رحمة الفرد في سائر شؤون العبادة.

الثالث: رفع الحرج بتدارك ما وقع منه، أي أن حالة المشقة قد حصلت، ولكن الشارع أوجد مخرجًا منها.

فالفرد العاصي، مرتكب الموبقات والكبائر، مفتوح أمامه باب التوبة حتى وقت ما قبل غرغرة الموت، وإذا تاب توبة صادقة، فهو مغفور الذنب، لأن الإسلام يجبّ ما قبله. وهناك الكفارات المختلفة التي يمحو الله بها خطايا العبد في الدنيا، مثل: كفارات النذور والجماع في نهار رمضان [15].

 

فمنزلة رفع الحرج تأتي في المرتبة الثانية في ترتيب المصالح في الإسلام، إنها في مرتبة الحاجيات، وهي مرتبة تالية للضرورات، وسابقة على التحسينيات، والحاجيات هي التي يحتاج إليها الناس، من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى المشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وقد لوحظ أن جميع أقسام التشريع يبدو فيها مظهر رفع الحرج [16]، حتى في الترجيح بين المفاسد، فإن الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، أو الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف أو يختار أهو الضررين؛ هذه القواعد التي تفيض بها كتب الفقهاء والأصوليين تفضي إلى مفهوم واحد: إن الإنسان يختار الأخف ضررًا ومفسدة وفي نفس الوقت إبعاد الضرر مقدم - شرعًا - على جلب المصلحة [17].

وهذه الأحكام تتجه إلى المسلمين المكلفين بشكل عام، وبالتالي فإن التراحم البشري مكون أصيل من مكونات المنظور الإسلامي الشرعي، وهذا المكون نابع من سنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) التي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، والسنة هي كل قول أو فعل أو تقرير من الرسول.

 

ونستطيع أن نبلور مقومات التصور الإسلامي في بعدها الإنساني في نقاط عدة:

• آصرة التجمع الكبرى بين أفراد هذا الكائن (الإنسان المسلم) هي العقيدة...، وجميع الأواصر أو الوشائج الأخرى بما في ذلك رابطة الدم واللغة والجنس والجوار والمصالح الاقتصادية وسائر الأواصر، تصبح معطلة أو ملغاة وهذا ما يميز الحضارة الإسلامية عن الحضارات السابقة التي اعتمدت أواصر دنيوية للجمع بين أفرادها.

• الإسلام يُبقي في حس المسلم شعوره بالأخوة الإنسانية، فيما يتعلق بالمشاعر والمعاملة الشخصية والعدل والقسط والبر ببني آدم جميعًا، بل بالأحياء جميعًا [18].

• الإنسان ذو فاعلية إيجابية في مصيره كله - وفقًا للمشيئة الإلهية - فاعلية في نفسه، وفاعلية فيما حوله، ومن حوله [19].

• يكاد البر (الخير) في المنظور الإسلامي يشمل الأخلاق الحسنة بشكل عام، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس [20].

فمن حسُنَت أخلاقه، فهذا شخص بار خيّر، لأن حسن الخلق يشمل: الرحمة والمودة والعطف والصدق والأمانة والشجاعة...، وكلها صفات البر، ويزداد الأمر وضوحًا بتعريف الإثم فهو: ما يكره المسلم أن يطّلع الناس عليه. وهذا مفهوم غاية في البساطة والعمق، بسيط لأن كل مسلم يستطيع فهمه؛ عميق لأنه يربط الإثم بالجانب القلبي الذي هو مفتاح النية والعمل.

 

• ارتباطًا بالنقطة السابقة، فإن البعد القلبي أساس في العلاقة بين الناس، فمتى خلت القلوب من المشاعر السوداء صلحت الجوارح. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[21].

 

فقد أورد الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق ثلاثةَ نواهٍ: لا تباغضوا (عدم الكراهية)، لا تحاسدوا (الحسد تمني زوال النعمة)، لا تدابروا (الخصام والمقاطعة)، وكلها تتصل بأمراض القلوب، ولو تعمقنا أكثر لوجدنا أنها المشاعر الأكثر عداء والأشد دفعًا للعدوان والقطيعة بين البشر، كما أن ترتيبها على هذا النحو يدل على التدرج، فإن كراهية الشخص لبعض الآخرين، تنتج التطلع لما في أيديهم ومن ثم تمني زوال هذه النعم، وقد يكون الحاسد أغنى من المحسود، ولكنها ضعة النفس البشرية المحبة للاستئثار، ثم تتولد المقاطعة والتدابر؛ فالكراهية والحسد أمران لا يُكتمان، فسرعان ما يظهران في الوجه وفلتات اللسان. وقد ختم الحديث بدعم الرابطة بين أبناء المجتمع المسلم: كونوا عباد الله إخوانًا ، ولا تحل القطيعة بين مسلمين أكثر من ثلاثة أيام.

 

إن المجتمع المسلم لا تسوده هذا المشاعر البغيضة، ولكنه لا ينفيها، بل يعالج أسبابها، ومظاهرها. وليس الأمر خاص بالمسلمين فحسب، بل يمتد إلى باقي المجتمعات غير المسلمة، التي يتعامل معها المسلم، ولكن البداية الحقيقية لنضج مشاعر المحبة والتراحم والصلة الطيبة تكون في المجتمع الملتزم بتعاليم الإسلام وأخلاقه، وإذا اعتاد المرء على هذه الروابط والعلاقات الإنسانية الطيبة، سيكون هذا ديدنه في سائر تعاملاته مع غير المسلمين، داخل المجتمع المسلم أو خارجه.

فالمسلم - وفقًا للتصور الإسلامي - ليس فردًا خاملاً، بل فعَّال، وفاعليته في تطبيق القيم الإسلامية الرفيعة، فهي مسؤولية فردية، يثاب عليها، ومسؤولية جماعية واجبة، وكل هذا يتم في إطار وشيجة العقيدة التي تجمع المسلمين في المجتمع الواحد، وأيضًا تربط المسلم بمحيطه الإنساني الفسيح.




[1] انظر: ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص 163- 167.

[2] انظر: أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي ن القاهرة، دون طبعة، دون تاريخ، ص364-366.

[3] فقه السنة، سيد سابق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1418هـ، 1997م، ج1، ص8.

[4] سورة الجمعة، الآية (2).

[5] يونس، الآية (57).

[6] أصول الفقه، أبو زهرة، ص362.

[7] نفسه، ص377.

[8] الأشباه والنظائر، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، د ت، ص84.

[9] لسان العرب، ج15، مادة حنف.

[10] الأشباه والنظائر، رواه ابن مردويه مرفوعًا.

[11] رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. يعقوب عبد الوهاب الباحسين، نشر: اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، بغداد، العراق، 1400هـ، 1980م، ص670.

[12] المدخل إلى علم أصول الفقه، محمد معروف الدواليبي، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1385هـ، 1965 م، ص415.

[13] المرجع السابق، ص449.

[14] أصول الفقه، محمد الخضري، دار القلم، بيروت، ط1، 1407هـ، 1987م، ص77، 78.

[15] انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص 670

[16] منهج فقه الموازنات في الشرع الإسلامي (دراسة أصولية )، د. حسن سالم الدوسي، بجث في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، العدد (46) 1422هـ - 2001م، ص 387.

[17] البحث السابق، ص410، وفي ميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد: إذا كانت المفاسد أعظم من المصلحة اجتنبنا المفسدة، دون اهتمام بفوات المصلحة، وإذا تساوت المصلحة والمفسدة يلزم تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة. ص416، 417.

[18] مقومات التصور الإسلامي، سيد قطب، دار الشروق، ط1، 1406هـ، 1986م، ص362، 363 (النقطتان الأولى والثانية).

[19] السابق، ص366.

[20] صحيح مسلم، تصحيح ضبط: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1972م، الجزء الرابع،ص 1982. وجاءت روايته عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.

[21] صحيح مسلم، ج4، ص1983.


"
شارك المقالة:
35 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook