الزاد والعدة في زمان الغربة (1)

الكاتب: المدير -
الزاد والعدة في زمان الغربة (1)
"الزاد والعدة في زمان الغربة (1)




رجل أراد السفر ليبلغ مكانًا بعيدًا، سمِع أنه مِن أجمل ما يكون؛ ففيه ما يسحَر العيونَ، وما يسُرُّ القلوب، لكن السفر هذا به جهدٌ ومعاناة ومشقة، فهل من العقل أن يسافر دون الزاد والعدة؟!

 

قطعًا لا، فلا بد وأن يأخذ معه ما يُعينه على سفره، ويُهوِّن عليه الصعاب التي مِن الممكن أن تُواجهه، وهكذا نحن جميعًا لا بد لنا وأن نعلم أننا في هذه الدنيا مسافرون، الجميع مسافر، لكن هذا السفر ليس باليوم ولا بالاثنين؛ إنما هو طيلة حياتنا، وعلينا أن نعلم أن الطريق شاقٌّ، ولا بد لنا من الزاد والعدة، لا سيما في زمان الغربة الذي نعيشه الآن ما بين فتن الشهوات والشبهات، وإن القلب ليتخبَّطُ ويضطرب، ونعوذ بالله من أن تتخطَّفه الفتنة، فيهوي ويشقَى صاحبه، ونعوذ بالله من أن يمر العمر دون أن نقطع هذا الطريق في غير مرضاة الله تعالى، ونعوذ بالله أن تكون العوائق حائلًا بيننا وبين الجنة؛ التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

الآن أصحبكم في رحلة ليست بالأبدان؛ إنما بالقلوب والعقول، نعدُّ فيها الزاد معًا؛ حتى نمهِّد طريقًا للجنة.

 

الزاد الأول: التمسُّك بالكتاب والسُّنة، وهما وصية النبي صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به، لن تضلُّوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنتي))، والقرآن والسُّنة لا أقول: إنهما صالحان لكل زمان ومكان، لا والله، بل الزمان والمكان لا يطيبانِ إلا بوجودهما.

 

والسؤال هنا: هل تمسَّكنا بالقرآن؟

هل نخضع لأوامر القرآن حقًّا؟

 

أقول وبكل أسف: أصبح القرآن فقط نُزيِّن به الغُرَف، فالقرآن الآن يُتلَى في افتتاح المحلات الجديدة، القرآن الآن مهجورٌ - يا أحبتي - لا يُقرأ إلا في رمضان، وما دام القرآن وراء ظهورِنا نُعرِض عنه، فوالله لن نتقدَّم خطوة للأمام، نحن نريد القرآن تطبيقًا عمليًّا في حياتنا حتى نسود.

 

أيها الغرباء، يا مَن تُعانون الغربةَ في الدين، أو الغربة بين الأهل والأحباب، أقبِلوا على كتاب الله تعالى؛ فبين ثنايا صفحاتِه عالم آخر من الاطمئنان، عالم آخر من السعادة، اتَّخِذوا القرآن منهاجًا ودليلًا يُنير لكم ظلمات الطريق، ويؤنسوحشة قلوبكم، قال الله عز وجل: ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ? [طه: 123].

 

كيف يكون التمسك بالقرآن؟

1- المداومة على تلاوته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)).

وهذا والله فضلٌ عظيم، لا يتركه عاقل أراد النجاة في الدنيا والآخرة.

 

2- العمل بالقرآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضع به آخرين))، فهل يرفع الله قومًا يتلونه فقط ولا يعملون بما جاء فيه؟!

 

لا والله، لن نرتفع إلا بالعمل به، وبتطبيقه في كل جوانب الحياة، ومَن أراد النجاة فعليه أن يجعل هواه تبعًا لأحكام الله وللقرآن، فإذا دعَتْك نفسُك التي بين جنبَيْك لأمرٍ يخالف القرآن، فلا تُجِبْها، وعنِّفها عنفًا شديدًا، وامضِ حيث أمرك الله، فالله تعالى الذي خلقك هو أعلم بما يَصلحُ لك، وبما يُصلِح أمورَ حياتك، ودَعْ عنك مَن يقولون: العقل قبل النص! وإن أمور الحياة تغيَّرت عن الزمنِ الذي نزل فيه القرآن، والعقل هو الذي يحكم، وهو الذي صنع الطائرات، ووصل إلى الفضاء.

وأنا أقول: إذا كان هذا العقل المخلوق وصل لكل هذا الإبداع، فكيف بعظمةِ الخالق؟ أليس هذا العقل هو مِن صنع الخالق؟ فالخالق أحقُّ بالتشريع، وما العقل إلا تابعٌ لِمَا شرعه الخالق، وإن أدرك العقل ما جاء في القرآن، فبها ونعمَتْ، وإن لم يُدرِك، فعليه السمع والطاعة.

 

3- تعلُّمه وتعليمه وحفظه:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وغَشِيَتهم الرحمة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكَرَهم الله فيمَن عنده)).

فهذه والله بشريات لأهل القرآن الذين يجتمعون على دراسته، يتعلمونه ويعلِّمونه، فهم والله حقًّا مَن أضاءت حياتهم بنور القرآن، طابت جلساتُهم وطابت أوقاتهم بذكر الله، وذكَرَهم الله فيمن عنده؛ فالتَحِقُوا يا أحبةُ بتلك الحلقات، ولا تبخلوا على أنفسكم بهذا الفضل الكبير، لا تحتجُّوا بضيقِ الوقت؛ فمَن أراد شيئًا، كان أحرص الناس عليه، ومَن علِم شرف ما يريد، هان عليه ما يبذل، فلنقتطع جزءًا من راحتنا أو من نومنا للقرآن.

 

ضَعُوا الآن خطةً لحفظه، ابدَأْ من اليوم ولو بـ 4 آيات يوميًّا، إذًا بإذن الله تختمه في 4 سنوات، لا تستصعب الأمر، تأتي الهمة على قدر العزيمة، والعون مِن الله على قدر همتك، فَأَرِ اللهَ منك الصدق والإخلاص، واسأَلْه العون، وابدَأ الآن ولا تَعجِزْ، ومَن حقق تلك الأمور الثلاثة، يكون اتَّبع القرآن، ومَن اتَّبع القرآن فلا يستقيم أبدًا حتى يتَّبِع السُّنة؛ فالقرآن والسنة بينهما رابطٌ وثيق، وعَلاقة لا تنفكُّ أبدًا، فجاءت السُّنة بأمر القرآن:

1- لتُفصِّل ما جاء به مجملًا، قال الله عز وجل: ? وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ? [البقرة: 43]، فهنا جاء الأمر إجمالًا، فمِن أين عرَفنا عدد الصلوات، وكيفية أدائها، وعدد ركعاتها؟ إنها السُّنة، جاءت تُفصِّل كيفية إقامة الصلاة.

 

2- تُبيِّن ما كان مُبهمًا مِن ألفاظ القرآن، قال الله عز وجل: ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? [يونس: 26]، فكلمة (زيادة) مُبهمة لا نعرف معناها، فجاءت السُّنة تبين معناها، وأن المراد بها النظرُ إلى وجه الله سبحانه وتعالى.

 

3- تخصيص ما جاء عامًّا، قال الله تعالى: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ? [المائدة: 3]، فلفظ (الميتة) هنا عامٌّ، يدخل فيه كل ميتة، وعلى ذلك فالسمك والجراد، والكبد والطحال - حرامٌ، فجاءت السُّنة أخرجت واستَثْنَت ميتة البحر بالحل دون الحرمة؛ فَعَنِ ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُحِلَّتْ لنا مَيْتتانِ، ودمانِ؛ فأما الميتتانِ: فالحوت والجراد، وأما الدمان، فالكَبِد والطحال))، وفي لفظٍ: ((أُحِلَّتْ لنا ميتتانِ: الحوت والجراد)).

 

4- تقيد مطلق القرآن؛ مثال قوله تعالى: ? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ? [المائدة: 38]، فجاءَتِ السُّنة تُحدِّد وتُعيِّن مقدار القطع وأنه إلى المَفْصِل.

 

5- تُفيد حكمًا جديدًا؛ أي: إن السُّنة تضيف أحكامًا جديدة لم يأتِ بها القرآنُ؛ كتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتِها، وبين المرأة وخالتها، وغيرها من الأحكام.

 

ومِن هذا يتَّضح أنه لا يمكن الاستغناء عن سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحتى في أمور العبادة فشرط في قَبولها أن تكون على هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام أقوله لكل مَن سوَّلت له نفسه أن يردد ما يسمعه مِن بعض أهل الأهواء، الذين ظهروا يقولون: لا داعي للسُّنة، ويهدمون كتب السنة، ويطعنون فيها، ويدَّعون أنها غير ثابتة وغير صحيحة، ويسقطونها بالكلية، ويقولون: يكفي القرآن!

وهؤلاء في حقيقة الأمر إنما يَسْعَون لهدمِ دين الإسلام؛ فالدين قائم على القرآن والسنة، ولا نجاة للعبد إلا إذا آمَن بالله جل وعلا، واتَّبع النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى بوابة دخول الإسلام، وهي نطق الشهادتين، وهي أول ركن مِن أركان الإسلام، (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، لا يفصل بين شهادة التوحيد وبين شهادة الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ومَن اتَّبع السُّنة فعليه أن يجتنب البدعة، والبدعة أخطر من المعاصي؛ لأنها غالبًا تكون خفيَّة، ويظن صاحبها أنه على خير؛ لذلك قال الإمام سفيان الثوري: إن البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يُتاب منها، والمعصية يتاب منها.

والبدعة لها تعريفات كثيرة؛ منها:

كل مخالفة لهَدْي النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: هي طريقة مخترعة في الدين، تضاهي الطريقة الشرعية، ويظن صاحبها أنها تقرِّبه إلى الله.

 

أنواع البدع:

منها ما هو مكفِّر وما هو غير مكفر، ومنها ما هو حقيقي وما هو إضافي، ومنها ما هو في العقائد وما هو في العبادات:

فمثلًا بدعة الشيعة كسبِّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ورميها بالزنا، والقول بتحريف القرآن، ونفي صفات الله، هي بدع مُكفِّرة.

ومن البدع غير المكفرة بدعةُ صيام ليلة (27 رجب)، وتخصيصها بشيء من العبادة، وكذلك تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام الليل، أو تخصيص أذكار بوقت معين وكيفية معيَّنة لم يُحدِّدها الشرع ويعينها.

وهذه البدع غير المكفِّرة هي التي يقع فيها كثير من الناس، فمثلًا تأتي على رجل تقول له: لا تُخصِّص وِرْدًا مِن الأذكار يوميًّا بعد صلاة الظهر مثلًا بهذا العدد الذي عيَّنته أنت، فهذا لم يَرِدْ في الشريعة!

فسيقول لك: الذِّكر مشروع، وأنتم تحرِّمون الحلال، وتضيِّقون على الناس، وأنا لا أنوي إلا الخير.

فنقول: لا تكفي النيةُ وحدها، بل يجب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة العبادة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ما ترك خيرًا إلا وبلَّغه، أأنت أحرص من النبي صلى الله عليه وسلم؟! فالذكر منه ما هو مقيَّد وما هو غير مقيد، فعلينا أن نتَّبع ما جاء مقيدًا كما ورد، ولا نخترع نحن أمورًا في الدين وإن كان أصلها مباحًا، إلا أن أصل وجودِها في الدين لا يكفي، بل يجب أن تكون طريقة العبادة شرَعَها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

 

بقي سؤال: كيف أكون متبعًا للسُّنة؟

1- العمل بالسنة ظاهرًا وباطنًا، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، فالصحابة رضوان الله عليهم هم أكثر الناس حرصًا على سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.

أما اليوم، فالكثير من الناس - إلا مَن رحم ربي - يتركون السُّنة؛ لأنها سُنة! فمِنهم مَن يكتفي بالفرائض فقط، وهذا الذي لا يعرف مِن الدين إلا الفرائض فقط، ولم يتزوَّد مِن السنة، فهو مُعرَّض للفتن الخطَّافة.

فهذا الذي لا يصلي إلا الفرائض، وربما قصَّر في أدائها، فمِن أين يجبُرُ النقص إن لم يكن له نوافل؟ هذا الذي لا يعمل مِن الصالحات إلا الواجب، أقول له: أقبِلْ على النوافل ولا تتركها؛ فإن القلب إن لم ينشغل بكثرة الأعمال الصالحة، فهو عرضة للفتن والانشغال بالباطل.

 

2- التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ الأحاديث، قال صلى الله عليه وسلم: ((نضَّر الله امرأً سمِع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمِعها))، فهذا دعاء لك مِن النبي صلى الله عليه وسلم بنضرة الوجه إذا حفِظْت عنه ونقلت لغيرك ما سمِعتَه، فاحرِصوا - أحبابي - على حفظ الأحاديث والعلوم الشرعية، وتبليغها بين الناس، واركبوا سفينة السُّنة؛ فهي والله سفينة نجاة في زمان الغربة، كما قال الإمام مالك: (السُّنة سفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومَن تخلف عنها غرِق).

 

تمسَّكوا بالكتاب والسنة، وعَضُّوا عليهما بالنواجذ، واعلموا أن أمر هذه الأمة لن يصلُح إلا بما صلَح به أولها، وكان أولها رفع راية الشرع في ظلال القرآن والسنة، وأسأل الله أن يشرح صدورنا إلى الحق، وأن يردَّنا إليه ردًّا جميلًا، وأن يقيَنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 

انتهينا من الزاد الأول

وما زال للحديث بقية

نستكمل فيه الزاد والعدة في زمان الغربة

المرة القادمة إن شاء الله


"
شارك المقالة:
20 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook