السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (3)

الكاتب: المدير -
السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (3)
"السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (3)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

 

فاستكمالًا للحديث السابق.

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» [هَذِهِ اللَّيْلَةَ - رَحِمَهُ اللهُ -]؟ فقال رجل من الأنصار: أنا [يَا رَسُولَ اللهِ!] فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم [لَا تَدَّخِرِيهِ شَيئًا]، فقالت [وَاللهِ] ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء [وَتَعَالَي فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ]، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ - أَوْ عَجِبَ - مِنْ فَعَالِكُمَا»، فأنزل الله: ? وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [الحشر: 9][1].

 

لقد عظَّم الإسلام مكانة المرأة وأشاد بمواقفها النبيلة، وأنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، فتبًّا ثم تبًّا لمن يسعون إلى إظهار الإسلام بغير ذلك، ولبيان وجه إيراد هذه القصة تأمل الفقرات التالية:

(أ) هذا الضيف ليس ضيفًا كغيره، بل ضيفًا مميزًا، فهو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

(ب) هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه أخذ معه هذا الضيف إلى بيته ليقوم بضيافته؛ لينال بذلك رضا الله تعالى، ورضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجاء أن تصيبه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليدخل السرور على نفسه، فإنه من قوم يحبون إكرام الضيف.

 

(ج) أخبر امرأته أن هذا الضيف ضيفٌ مميزٌ لتشاركه في الأجر والفضل والحمد[2].

 

(د) لم يجد الأنصاري رضي الله عنه في بيته من الطعام سوى ما يكفي لصبيته، وفي هذه الحالة البالغ فيها الحرج غايته وجد نفسه مضطرًّا إلى من يعينه ويقف معه لينال هذه الفضائل وقد وجده، فيا ترى من يكون؟

 

(هـ) إنها زوجته الصالحة الكريمة العاقلة الذكية الصابرة الوفية.

 

(و) لو قالت لزوجها: قد اجتمع عليك حقان: حق الضيف وحق الأهل، وعليك أن تقدم أولاهما وهو هنا حق الأهل، لضاق صدره، وعظم حرجه، ولكنها رضي الله عنها لم تقل ذلك، لكرم نفسها وطيب مَعشرها.

 

(ز) من كرم نفسها وحُسن عشرتها بيَّتت النية وعقدت العزم على أن تؤثر على نفسها، فتبيت خميصة البطن في سبيل أن ينال زوجها تلك الفضائل والشرف العظيم، ولتجمله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وضيفه، فهي لم تقل: ما عندي إلا ما يكفيني، بل تجاهلت نفسها وقالت: ما عندي إلا عشاء الصبية.

 

(ح) من ذكائها وخوفها ألا يكون تصرفها صحيحًا في تقديم حق الضيف على حق الصبية، قالت: ذلك لزوجها ليشتركا في القرار، ولتحمل معه نتائجه، وكان بإمكانها أن تتهرب وتقول لزوجها: هذا الموجود أطعمه من شئت وتخلي مسؤوليتها، ولكنها رضي الله عنها لم تفعل ذلك لكرم نفسها وحسن عشرتها، فأنعم بها وأكرم من قدوة صالحة.

 

(ط) من أعظم ما يواجه الشخص فقه الأولويات، وتقديم الواجبات والحقوق بعضها على بعض عند التزاحم، وفي هذه القصة مثال يحتذى، والموفق من وفقه الله، ومَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

 

(ي) في هذه القصة كانت الفكرة النظرية مشتركة بين الزوجين، إلا أن المنفذ لها والحامل لأعبائها ورافع رايتها هي الزوجة المباركة، فاستحقت بذلك تخليد ذكرها، وأن يعجب ربُّها من صنيعها.

 

(ك) لم يقتصرَا رضي الله عنهما في إكرام ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على تهيئة عشائه فقط، بل زادا على ذلك إدخال السرور عليه، وذلك في إظهار أنه لم يلحقهما مشقة في إكرامه، وأن ما قدماه له زائد عن حاجتهما، فأطفآ السراج وجعلا يوهمانه أنهما يأكلان.

 

هذا ما تيسَّر بيانه فيما يتعلق بموضوعنا، وفي القصة فوائد أخرى نذكر أظهرها على سبيل الاختصار:

في هذه القصة بيان مكانته صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، فإن هذين الصحابيين لما قاما بضيافة ضيفه صلى الله عليه وسلم، وأدَّيا عنه الحق الذي عليه، خلَّد الله ذكرهما الحسن في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فيا ترى كم تكون منزلة من قام بدعوته ونشر سنته وذبَّ عن دينه؟!

 

وفيها: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من ضيق العيش وقلة ذات اليد، اختيارًا منه لذلك، فإنه لو شاء لكان غير ذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم آثر الباقية على الفانية والأخرى على الأولى، وفضل أن يكون عبدًا رسولًا.

 

وفيها: فضل أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعظيم صبرهن واختيارهن الله ورسوله على الحياة الدنيا وزينتها.

 

وفيها: أن من الواجبات والفروض ما هو فرض كفاية، فإن حق هذا الضيف سقط عن النبي صلى الله عليه وسلم بقيام هذين الصحابيين به.

 

وفيها: أن سؤال الرجل أن يقوم أحد إخوانه المسلمين بحق وجب عليه لا يستطيعه، ليس من السؤال المذموم.

 

وفيها: أن إكرام الضيف لا يكون بإطعام الطعام فقط، بل يشمل أمورًا أخرى من الترحيب به ومؤانسته بالحديث، وغيرهما مما يختلف فيه الناس من مجتمع لآخر، قال الشاعر:

النَّارُ إِذَا شِبَّتْ فَنَصُّ الكَرَامَةِ

وَالنَّصُّ الآخَرُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُوتِ

 

وفيها: أنه ينبغي أن يظهر المضيف لضيفه ما يجعل الضيف يطمئن أنه لم يشق عليه وإن كان الأمر بعكس ذلك.

 

وفيها: أن الإيثار من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وهو مع الخصاصة أعظم وأجل.

 

وفيها: أن الشخص قد تسمو نفسه إلى اكتساب الفضائل، ولكنه قد يحتاج في بعضها إلى المعين، فإذا وجده فليستمسك به، ولا يفرِّط فيه، فإن وجوده عزيز.

 

وفيها: أن إظهار المرء أفعالًا تخالف الواقع لا يعد من الكذب المذموم إذا كان ذلك لمصلحة تقتضيه.

 

وفيها: فضل الصبر وعظيم جزائه، فصبرهم على الجوع مع قدرتهم على الشِّبع وصبرهم على الألم الذي يعتصر قلوبهم حين يرون صبيانهم يبيتون جياعًا، بل هم الذين ينومونهم، وصبر الزوجة على زوجها الذي جلب لها كل هذه التكاليف، وكل ذلك وهم لا يعلمون أن فعلهم هذا سيكون سببًا لتخليد ذكرهم في أحسن الكتب وعلى لسان خير الرسل، وما عند الله خير وأبقى.

 

وفيها: إثبات صفتين من صفات الله تعالى: التعجب والضحك.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




[1] مختصر صحيح البخاري للشيخ الألباني رحمه الله برقم (1614)، وأخرجه مسلم برقم 2054 بلفظ مختلف.

[2] الحمد: هو المدح والثناء.


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook