العصر الإسلامي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 العصر الإسلامي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

العصر الإسلامي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 

 العهد النبوي 

 
بدا واضحًا رسوخ مكانة مكة المكرمة قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ودورها في حياة القبائل العربية، إذ أصبح يُنظَر إليها على أنها حاضرة مؤهلة لجمع تلك القبائل، واستقطابها لكونها موطن الكعبة المشرفة ومقصد الحجاج. وبالنظر إلى استقرارها السياسي النسبي، إضافة إلى نشاطها الاقتصادي الذي بلغ الأوج وقت ظهور الإسلام، وقد أشركت فيه قريش عددًا من القبائل التي ارتبطت بقوافلها من خلال ما عرف بعقد الإيلاف، إذ تأْمَن القوافل خلال مرورها بأرض تلك القبائل مقابل أن يقوم تجار قريش بحمل بضائعها وسلعها، ثم يردون إليهم رأس مالهم وربحهم  ،  أو أن يُدْفَع للقبائل إتاوات المرور لقاء حق الأمن والحماية 
 
وبجانب ذلك فثمة حقائق تكشف عن تأثير مكة المكرمة في المحيط القبلي المجاور لها وقدرتها على ضبط الجماعات البدوية المجاورة ذات النـزعة إلى الغزو والغارة، يشاركها في ذلك مدينة الطائف معقل ثقيف، وذات الخصائص الجغرافية المختلفة عن مكة المكرمة. وتعد مكة المكرمة والطائف مركزي استقرار وسط تجمعات قبلية يغلب عليها عدم الاستقرار. ولقد غلب على الطائف النشاط الزراعي بينما تفوَّق القرشيون في مضمار التجارة، وهذا التباين في الظروف الجغرافية والإنتاجية مهَّد لقيام تعاون وتكامل بين الطرفين   بعد أن تجاوزا أحداث حرب الفجار. ولعل ما يعبر عن قوة العلاقات بين مركزي الاستقرار الرئيسين في جنوب الحجاز المصاهرات التي ربطت بين عدد من الأسر القرشية والثقفية  ،  وامتلاك بعض أعيان قريش بساتين وأموالاً بالطائف  .  وبجانب قريش بأحلافها ومواليها في مكة المكرمة وثقيف ومن استوطن معها في الطائف كان الطرف الثالث في المعادلة السكانية في منطقة مكة المكرمة - قبيل ظهور الإسلام - تلك التجمعات القبلية التي غلب طابع البداوة والميل إلى التنقل والترحال على كثير من فصائلها، فقد أقامت فصائل منها في منتجعات ومنازل صغيرة يجري الرحيل عنها تبعًا للظروف المحيطة بهذه الأمكنة
 
ومن تلك الفصائل مجموعة من القبائل الكنانية، مثل: بني الحارث، وبني بكر بن عبدمناة، وبني جذيمة، وقبيلة خزاعة، وهذيل  ،  وفروع هوازن كبني نصر، وبني جشم  .  ومع أن علاقات مكة المكرمة بالذات مع بعض فصائل تلك القبائل قد اتسمت بالعداء في بعض الأحيان كما هي العلاقة القرشية مع بني جذيمة   وبني الملوح من ليث البكرية الكنانية، إلا أن قريشًا عملت على محاصرة تأثير تلك العلاقات العدائية، كما عملت على ربط بوادي مكة المكرمة عامة بأحلافها، حفاظًا على أمن الموسم والأسواق وأمن الحرم عامة، ولعل مشاركة جزء من تلك القبائل في حلف مكة المكرمة العسكري المسمى بحلف الأحابيش ما يؤكد ذلك، فبنو الهون بن خزيمة، وبنو الحارث بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة   كانوا جزءًا من ذلك التحالف المشار إليه، كما أن تولي بعض زعماء تلك التجمعات القبلية بعض المسؤوليات المتصلة بموسم الحج كالقلمس الكناني وأولاده من بعده  ،  وحظوة زعماء آخرين عند أهل مكة المكرمة، كان جزءًا من هدف قريش في استمالة أولئك الزعماء وتشجيعًا للقبائل على إظهار التعاون مع التنظيمات الموضوعة للمحافظة على الأمن في طرق الحج والقوافل وفي الموسم ذاته والأسواق المواكبة له. وبالنسبة إلى الطائف فإن تحشّد فروع هوازن المنتشرة في منازلها خارج الطائف مع ثقيف   في حنين يعطي دليلاً على ذلك الترابط الملموس بين البادية والحاضرة في المنطقة
 
وعلى الرغم من أن مكة المكرمة والمنطقة المحيطة بها قد شهدت قبيل ظهور الإسلام إنجازات سياسية واقتصادية تأكد خلالها دور مكة المكرمة المحوري في إقليم الحجاز  ؛  إلا أن ما يؤخذ على تلك المرحلة بناء القيم على أساس المنافع المصلحية، وإقرار السواد الأعظم من المجتمع عددًا من الظواهر الاجتماعية التي عكرت صفو ذلك الاستقرار كشيوع الفواحش والقمار، ووأد الفتيات، وعبادة الأوثان؛ ما جعل المجتمع المكي في حاجة إلى رسالة توحيدية تستوعب الناس جميعًا انطلاقًا من عبادة الإله الواحد والإيمان بالبعث والجزاء في اليوم الآخر، حيث أعانته على تنقية شوائبه، ورأب صدعه، وكانت مدًا له لمواصلة دوره القيادي الذي لعبه منذ فجر التاريخ في حياة المجتمعات المجاورة
 
جاءت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسط هذه الظروف والأوضاع، وكان أول أحداثها نـزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة في غار حراء، حيث بُلِّغ رسول الله - آنذاك - بأول سورة العلق  .  ويمثل هذا الحدث مستهل فصل جديد من فصول تاريخ مكة المكرمة، بل تاريخ الجزيرة العربية والعالم في ذلك الوقت
 
يرتبط الجزء الأول من تاريخ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بموطن ولادته ونشأته، مكة المكرمة، فقد شهدت تلك البقعة المباركة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ونـزول الوحي عليه لأول مرة عندما كان عمره أربعين عامًا. لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا منذ أن كلِّف بالنبوة وحمل أعباء الرسالة. وخلال هذه المدة أخذ صلى الله عليه وسلم يتحرك بدعوته المناهضة للوثنية وعبادة الأصنام، وقد اصطدم في تلك المدة بالعنصر القيادي المؤثر في إدارة مكة المكرمة وتوجيه الرأي العام فيها
 
ولم يكن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم طارئًا على المجتمع المكي، فهو ينتمي إلى أسرة شريفة عريقة في نسبها؛ فجده عبدالمطلب بن هاشم سيد قريش في زمانه، وفي شبابه شارك في بعض الأنشطة التجارية والحربية والاجتماعية، فخرج مع بعض القوافل القرشية إلى الشام، كما شارك في حرب الفجار وحلف الفضول، وتولى الحكم في النـزاع بين عشائر قريش حول من يضع الحجر الأسود مكانه  ،  على النحو المفصل في كتب السيرة النبوية. ومن هنا كان لمحمد صلى الله عليه وسلم رصيد من المشاركات والتجارب تجعلنا نصل إلى حقيقة مؤداها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في ظل الأحداث ولم يكن يعيش في هامش المجتمع ويغيب عن قضاياه مع أن الله حفظه وطهَّره من أرجاس الجاهلية وعبثها  .  ومن ناحية أخرى لم تؤد هذه المشاركات الظاهرة مع ما صاحبها من أخلاق كريمة صادقة إلى قبول الدعوة عند مجموعة الزعماء والأعيان المكيين أولئك الذين وصفوا بالملأ في القرآن الكريم،أ - مكة المكرمة بين الدعوة والزعامة القرشية
 
كانت مكة المكرمة تدار بصورة جماعية من خلال مؤسسة دار الندوة، إذ يجتمع فيها الزعماء المكيون للتشاور وأخذ الرأي وفق أعراف وتقاليد موضوعة منذ أيام قصي بن كلاب  ،  ولعل هذه الإدارة الجماعية للبلدة المكية وتعدد الزعماء والوجوه في المرحلة الواحدة واستقلالية كل عشيرة في كثير من الشؤون جعل مسألة السلطة في مكة المكرمة غير محددة في شخص أو عشيرة
 
ويرى بعض الباحثين أن القائمين على حركة التجارة كانوا الممسكين بزمام السلطة بمكة المكرمة، وأن أوجه النشاط الاجتماعي والعلائقي بين قريش والقوى القبلية والخارجية المختلفة إنما يتم دفعها ورعايتها من قبل القائمين على حركة التجارة المكية  ،  يؤكد ذلك أن القائمين على ذلك النشاط التجاري المتحرك هم أنفسهم شخصيات مؤثرة وفاعلة في المجتمع المكي، وعلى سبيل المثال فإن أبا جهل (عمرو بن هشام) وأبا سفيان بن حرب   هما من قادة القوافل وفي الوقت نفسه تولَّيا قيادة المجتمع المكي في مرحلتين متعاقبتين
 
وقبيل ظهور الإسلام قوي نفوذ بني مخزوم، تلك العشيرة الكبيرة التي برز منها الوليد بن المغيرة وأبوجهل، وهما شخصيتان أثَّرتا في موقف قريش من الدعوة  .  وفي مقابل ذلك تراجع دور بني هاشم، ربما لأسباب مادية واقتصادية، في حين حافظ بنو عمومتهم عشيرة عبدشمس بن عبدمناف على نفوذهم ومكانتهم، وممن كان يمثلهم في المرحلة المكية من تاريخ الدعوة عتبة بن ربيعة وأبوسفيان بن حرب. ومع تبادل أعيان وزعماء العشائر المكية مواقع النفوذ والتأثير المتناسبة مع الثروة والمال إلا أن هناك ثوابت ترعاها الزعامة في مقدمتها الدفاع عن الوثنية وطقوسها لا عن قناعة داخلية بها، ولكن باعتبارها من موروثات الآباء والأجداد، وباعتبار أن أي تغيير في دين قريش يقتضي صرف العرب عن عبادة الأوثان المنصوبة حول الكعبة المشرفة، ما يعني فوات مصالح مادية كثيرة جراء قدوم حجاج العرب إلى مكة المكرمة والأسواق المحيطة بها
 
وإن وجد في مجتمع مكة المكرمة - آنذاك - من يعتنق ملَّة إبراهيم عليه السلام كزيد بن عمرو بن نفيل وآخرين مالوا إلى الأديان الكتابية مثل ورقة بن نوفل  ،  وعثمان بن الحويرث، لكن أيًا منهم لم يشكل أي تهديد جدي لنفوذ الزعامة السيادي باستثناء ابن الحويريث الذي أراد حكم مكة المكرمة باسم ملوك الروم  .  كما لم يقم أي منهم بدعوة منظمة وسط مجتمع مكة المكرمة آنذاك
 
لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته علانية بإنذار عشيرته بني هاشم، وقبل ذلك كان قد سبق إلى الإسلام مجموعة من الصحابة من عشائر مكة المكرمة المختلفة، وقد جاء إعلان الدعوة ليقرِّب المواجهة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدعوته، وبين الزعامة، ذلك أن إعلان الدعوة اقتضى مواجهة المكيين كافة بمن فيهم الزعماء بحقيقة التوحيد، وفساد الشرك وتقديس الأصنام، وغير ذلك من مظاهر العبودية لغير الله مما تقوم عليه الحياة الدينية في مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام  ،  إضافة إلى ذلك فإن انتشار تلك الدعوة بين عشائر مكة المكرمة يعني أن الدعوة قد دخلت موقع التأثير والاستقطاب منافسة للكيانات العشائرية وجاذبة جزءًا من القاعدة الاجتماعية للزعماء، هذا إلى جانب مخاوف سياسية واقتصادية تثير شجون الزعامة وتُصعِّد مخاوفها من انتشار الدعوة داخل مكة المكرمة
 
ومن الطبيعي أن المواجهة التي شهدتها مكة المكرمة بين الدعوة والممسكين بمواقع النفوذ والتأثير لا تعني ذلك التقاطع الحاد في هذه المرحلة بين الجانبين. لقد طرقت الدعوة أبواب الزعماء المكيين   إلا أنهم رفضوها وأَبَوْا الدينونة بها، وبالمقابل أخذ الاتجاه العدائي المقاوم للدعوة يسيطر على الجو السياسي والاجتماعي في مكة المكرمة ويهيمن على أنشطة الزعامة كافة، وتجلت مدافعة الدعوة ومناهضتها من قبل الزعامة في صور وأساليب شتى، وجاء جزء كبير منها في شكل أعمال منسقة ومدروسة
 
لقد شهد تاريخ الرسالة الإسلامية في المرحلة المكية مجموعة من الأحداث المفصلة في مصادر السيرة النبوية، نتيجة لأساليب الزعامة الاضطهادية ضد أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأحداث ما شكل محطات مهمة في تاريخ الرسالة في مرحلتها المكية، ومن ذلك ما سيأتي ذكره لاحقًا
 

 انتشار الإسلام خارج مكة المكرمة

 
1 - الهجرة إلى الحبشة:
 
أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة في السنة الخامسة للبعثة النبوية   حتى يجعل الله لهم فرجًا ومخرجًا مما هم فيه، وتلت هذه الهجرة هجرة ثانية إلى تلك البلاد نفسها زاد فيها عدد المهاجرين على الثمانين  .  وكان من الطبيعي أن تثير هذه الهجرة سخط الزعامة المكية التي سعت لاسترداد هؤلاء المهاجرين وإعادتهم إلى مكة المكرمة، بإرسال عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة   سفيرين إلى ملك الحبشة لذلك الغرض، لكنها لم تنجح في ذلك. هذه الاتصالات المكية مع الحبشة بجانب البعثة المرسلة إلى الأحبار الكتابيين في المدينة المنورة بهدف السؤال عن محمد صلى الله عليه وسلم وامتحانه بأسئلة يعرفون جوابها  .  كل ذلك يبين لنا كيف أصبحت مكة المكرمة ترسل مبعوثيها وسفراءها لا من أجل خدمة مصالحها وقوافلها بصورة مباشرة، وإنما من أجل محاصرة الرسالة الإسلامية وإعاقة انتشارها؛ فوصول الدعوة إلى الحبشة يؤثر في صلاتها التجارية بهذه البلاد
 
2 - الذهاب إلى الطائف:
 
أصبح من خطط النبي صلى الله عليه وسلم البحث عن قبيلة أو بلدة تهيئ له المجال لنشر الدعوة بعيدًا عن الضغوط والمعوقات. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنوات يتتبع الحجاج في منازلهم في المواسم في مجنة وعكاظ ومنى يطلب منهم النصرة والإيواء  .  وعندما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن الزعامة المكية تقف حائلاً دون انتشار الدعوة في مكة المكرمة بل تحاول قمعها وإيقافها، أصبح من الضروري البحث عن بلدة أو قبيلة يتوافر فيها الأمن والمنعة للدعوة، وقد جاءت وفاة عمه أبي طالب سنده العشائري، ثم وفاة زوجته خديجة بنت خويلد سنده الأسري والعاطفي  ،  لتزيد من محاولات النبي صلى الله عليه وسلم البحث عن قبيلة أو بلدة توفر هذين المطلبين الضروريين
 
حاول النبي صلى الله عليه وسلم نقل الدعوة إلى الطائف، فذهب إليها لذلك الغرض، فلقي من سادتها ما لاقى من الابتلاء والشدة فرجع إلى مكة المكرمة مهمومًا. وهكذا اتخذت الطائف بزعامتها الموقف العدائي نفسه الذي وقفته زعامة مكة المكرمة  .  وفي هذه الظروف جاءه - كما ورد في الحديث المتفق على صحته - جبريل وهو بقرن الثعالب   ومعه مَلَك الجبال الذي عرض عليه أن يطبق على قومه الأخشبين (وهما أبوقبيس ويقابله قعيقعان)، وهنا تجلَّى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يهتدي قومه وألا تطالهم عقوبة تستأصلهم عندما قال: " بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا "
 
لقد جاءت نتائج رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف متوافقة مع مقتضيات العلاقة الوثيقة بين ثقيف وقريش التي عززتها الصلات الاجتماعية بين القبيلتين، ودخول القرشيين في مجال الاستثمار الزراعي بالطائف
 
لقد كان هناك بالطائف من يتحدث عن قرب ظهور نبي من العرب، وهذا ما تذكره المصادر عن أمية بن أبي الصلت الثقفي، ويروى أنه اجتمع برسول الله في مكة المكرمة، ورأى أن ينظر في أمره ثم خرج إلى الشام ثم مات دون أن يسلم  .  وإضافة إلى ذلك فثمة بعض الشخصيات المرموقة في الطائف رشحها المكيون والطائفيون على السواء للنبوة 
 
واصل النبي صلى الله عليه وسلم جهده في سبيل البحث عمَّن يوفر له المنعة والحماية في موسم الحج حيث يفد إلى مكة المكرمة بعض ممثلي القبائل العربية. ولقد التقى النبي صلى الله عليه وسلم بمجموعة من أولئك الممثلين الوافدين إلى مكة المكرمة الذين تأثروا بدعاية قريش ضد الدعوة، فأعرضوا عن قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وطرح آخرون مطالب وشروطًا، منها أن يكون لهم الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها مطالب غير متسقة مع طبيعة الرسالة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يريد من ينصره على أساس الإيمان والتصديق به لا على أساس اقتسام السيادة ورجاء التغلب على العرب، ما يعني السير في اتجاه الاحتراب القبلي والمغامرات الطائشة، وهو ما كان سائدًا في العصر الجاهلي
 

الهجرة إلى المدينة المنورة

 
نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسب طائفة من عرب الأوس والخزرج من أهل يثرب (المدينة المنورة لاحقًا). وقد جاءت بيعة العقبة الأولى، ثم إرسال مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، ثم جاءت بيعة العقبة الثانية   لتمهد السبيل أمام انتقال الدعوة إلى مكان آمن متحرر من ضغوط قريش ونفوذها المزعج، فقد توافرت في المدينة المنورة بعد هذه البيعة الشروط الموضوعية التي تؤهلها لأن تكون دار الهجرة
 
سعت قريش إلى عرقلة هجرة المسلمين من مكة المكرمة، وعقد الزعماء المكيون اجتماعًا في منتداهم الرئيس دار الندوة وقرروا التخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله قبل أن يهاجر، على أن يتولى ذلك مجموعة من شباب قريش موزعين على القبائل ليتفرق دمه فيها  ،  لكن الله أنجى نبيه من كيدهم لينتقل بعد ذلك إلى دار هجرته - المدينة المنورة - بصحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه رضي الله عنه بعد خطوات ومواقف مفصلة في مصادر السيرة النبوية
 
تعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى المدينة المنورة حدثًا مفصليًا جاء منهيًا صفحات المرحلة المكية في تاريخ الرسالة الإسلامية. وبكل تأكيد لم تكن الهجرة من حيث كونها حدثًا تاريخيًا لتغيِّر في ذات الرسالة الإسلامية ومضامينها الأساسية، وإنما كانت إجراءً في سبيل التمكين والنصرة  .  وعند النظر والتأمل في أبرز نتائج أحداث المرحلة المكية ومحصلتها نجد الآتي
 
 خلال مسيرة ثلاثة عشر عامًا كسبت الدعوة مجموعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم من ذوي الفضل والسابقة يتوزعون على سائر عشائر قريش، وقد نالهم تربية وإعداد من النبي صلى الله عليه وسلم ليكونوا النواة الأولى لأمة الإسلام الناشئة، وقد خرج هؤلاء من معركة الصراع غير المتكافئ مع الزعامة المكية وأدواتها من سفهاء، ومضللين، محتسبين عند الله ما نالهم من المحنة والأذى مصرِّين على مواصلة السير خلف قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
 
 لقد كانت تلك المرحلة بالنسبة إلى الدعوة مرحلة تأسيسية ركزت فيها الدعوة على مبادئ التوحيد وعقيدة البعث والجزاء، ودحض شبه   المشركين ودعاويهم، كما تعكس ذلك سور القرآن الكريم النازلة في مكة المكرمة. ووصف هذه المرحلة بـ (التأسيسية) لا يعني قصر ذلك التأسيس على مجرد بناء الأفراد وإعدادهم، وإنما يشمل ترسيخ المفاهيم الأساسية والإطار الديني توطيدًا لنشر الأحكام والتشريعات المنظمة للمجتمع والحياة
 
 حققت الزعامة المكية انتصارًا ظاهريًا على الرسالة الإسلامية بضغوطها وحملاتها الدعائية، وأعاقت نمو الإسلام في مكة المكرمة ووسط قبائل كنانة النازلة حول مكة المكرمة، لكن هذا الانتصار الظاهري لا يعني أن الجولة قد انتهت، فهناك جولات دارت لاحقًا بين ممثلي الوثنية وممثلي التوحيد برسالته الداعية لبناء أمة متماسكة مفتوحة لجميع القبائل والأعراق
 
 ذهبت المدينة المنورة بشرف نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيوائه مع أصحابه لتكون عاصمة الإسلام الأولى ومنطلق بعوثه ومغازيه، لكن مكة المكرمة ظلت في فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها يقول: " إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"  ،  وكذلك كان صحابته المهاجرون يتشوقون وهم في مهجرهم الجديد إلى مكة المكرمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ذلك التشوق: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"   وقد جاء تشريع تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة بُعَيْد الهجرة   ليذكِّر بالأهمية الكبرى لتلك البقعة المقدسة ولأول بيت وضع للناس على أساس التوحيد.
 

مكة المكرمة بعد الهجرة

 
أخفقت زعامة مكة المكرمة في خطتها الرامية إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وترتب على هجرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة قيام دولة إسلامية وليدة في شمال مكة المكرمة على مقربة من طرق قوافل قريش، ثم شرع الله للمسلمين الجهاد، فأخذ المسلمون في تسيير السرايا والغزوات إلى هذه القوافل، وكانت أولى تلك السرايا سرية حمزة بن عبدالمطلب لسيف البحر التي تَعرَّضت لقافلة قرشية يقودها أبوجهل  .  ولم تكتف سرايا المسلمين بالتعرض فقط لقوافل قريش الذاهبة والآتية من الشام بل إنها امتدت حتى نخلة بين مكة المكرمة والطائف في رجب من السنة الثانية للهجرة، إذ تعرضت سرية عبدالله بن جحش لقافلة قرشية تحمل أدمًا وزبيبًا وتجارة لأهل مكة المكرمة  .  وتَعرَّض المسلمون على هذا النحو لقوافل مكة المكرمة وهو تَعرُّض مسوغ باعتبار أن الزعامة المكية ومن سار على نهجها هي البادئة بالظلم والعدوان، فقد ظلمت المسلمين المهاجرين بمحاولة فتنتهم في دينهم، كما تعرضت لممتلكات بعض أولئك المهاجرين ولأموالهم، وقد شكل تنامي محاولات المسلمين تهديد قوافل مكة المكرمة تحديًا للزعامة المكية وعاملاً مقربًا للصراع المسلح، ثم جاءت محاولة المسلمين التعرض لقافلة أبي سفيان الآتية من الشام قبيل بدر، لتجعل من خروج قريش لنجدة عيرها أمرًا لا مفر منه. وكان أبوسفيان قد بعث إلى مكة المكرمة يدعو أهلها إلى نجدته قبل أن يغير طريق القافلة. أعدت قريش حملة قوية لإنقاذ العير، ولما بلغتهم أنباء نجاة العير رأى بعض أعيان مكة المكرمة العودة والرجوع إلى بلدتهم، إلا أن أبا جهل وقف ضد هذا الاتجاه، وأراد المضي إلى بدر والإقامة فيها ثلاثة أيام ليسمع العرب بهم ولتحقق قريش الهيبة والصيت الذائع  ،  وهو ما جاءت بنقيضه نتائج غزوة بدر  في رمضان من السنة الثانية للهجرة. وسوف نتجاوز أحداث الغزوة وتفصيلاتها - التي سترد في تاريخ المدينة المنورة في هذه الموسوعة - إلى النتائج التي أسفرت عنها تلك الغزوة، وتمس الوضع الداخلي لمكة المكرمة، فقد قتل مجموعة من زعمائها وفي مقدمتهم أبوجهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف. وبناء على ذلك، وجد فراغ مؤقت في السلطة المكية نتيجة غياب كبار الزعماء ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي في مكة المكرمة
 
تبدلت ظروف مجتمع مكة المكرمة إثر موقعة بدر إذ وقع عليه خبر المعركة وقوع الصاعقة لهول المصاب وعظم الكارثة التي دخلت البيوت والأسر، وفقد كثير من الآباء والأبناء، وأسر عدد منهم فتحول المجتمع المكي إلى مجتمع مقهور يحتاج إلى قيادة منقذة تنتشله من مستنقع القهر، وتوحد عشائره حول قضية الحرب لحيازة الثأر
 
برز في مجتمع مكة المكرمة قيادة جديدة لم تكن بعيدة في سياستها واتجاهاتها عن الزعامة الأولى، يمثل هذه القيادة أبوسفيان بن حرب ومجموعة من أعوانه. أفادت الصدمة السابقة في بدر الزعامة الجديدة بشكل غير مباشر، حيث اتحدت عشائر قريش خلف تلك الزعامة لتدير الصراع مع المسلمين، ذلك الصراع الذي أضحى هدفًا مجمعًا عليه
 
أول خطوة اتخذتها الزعامة لضبط الوضع الداخلي هي دعوة الناس إلى التحكم في عواطفهم وانفعالاتهم، إذ نهى أبوسفيان عن البكاء على القتلى والنياحة عليهم وقول الشعر في رثائهم لئلا يشمت بهم المسلمون - كما يقول - ولئلا يذهب الغيظ الذي يحفزهم على طلب الثأر  ،  كما نهت الزعامة الجديدة أفراد القبيلة عن التعجل في طلب مفاداة الأسرى  .  وهيمن النشاط الحربي على بقية الأنشطة، فقد قامت الزعامة المكية بتنفيذ عدد من الأعمال الحربية موجهة ضد خصمها الرئيس الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة المنورة أهمها غزوتا أحد والخندق
 
وتعد غزوة الخندق في شوال من العام الخامس للهجرة خاتمة حروب قريش الهجومية، وبعدها أصبح هدف الزعامة المكية المحافظة على مكة المكرمة والدفاع عنها، تجلى ذلك في وقوف زعامة مكة المكرمة ضد محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته العمرة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة على الرغم من أنه أكد نوايا المسلمين السلمية  .  لقد نـزل المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية قرب مكة المكرمة، وبعد مفاوضات عُقِدَ ما عُرِفَ بصلح الحديبية الذي تضمن وضع الحرب بين الطرفين مدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون هذا العام فلا يدخلون مكة المكرمة على أن يتم ذلك في العام السابع. وفي ذي القعدة من العام السابع قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى مكة المكرمة معتمرين بموجب شروط الصلح المذكور، وفي غضون ذلك كان أهل مكة المكرمة يتحدثون عن أن محمدًا وأصحابه في عسر وجهد وشدة، لهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة في الطواف لإظهار القوة
 
حاولت قريش بعث نشاطها التجاري باعتبار أن صلح الحديبية يضمن الأمن لقوافلها، فخرج أبوسفيان إلى الشام ومعه سلع لأهل مكة المكرمة يريد تسويقها، وخلال رحلته تلك كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى هرقل ملك الروم  ،  وخرج آخرون من أعيان مكة المكرمة للتجارة  .  ولكن آمال الزعامة المكية في بعث ذلك النشاط اصطدمت بمعوقات كثيرة ومنها أن الحروب والغزوات كانت قد أنهكت مكة المكرمة وأضعفتها، ثم إن سوق المدينة المنورة أضحت سوقًا جاذبة للقبائل الحجازية بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما دخل المسلمون ميدان الرحلات التجارية ومن ثم لم يعد تجار مكة المكرمة وحدهم في الساحة، في حين تفككت أحلاف قريش وانتهى ولاء بعض القبائل لها، كسب المسلمون قبائل ومراكز جديدة أقفل بعضها أبوابه أمام تجار قريش، كما فعل ثمامة بن أثال الحنفي أحد أعيان اليمامة، إذ منع حمل الحبوب من اليمامة إلى مكة المكرمة، حتى كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليه يطلب منه رفع ذلك المنع
 
 
شارك المقالة:
57 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook