العصر الإسلامي في منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية.
الأهمية التاريخية
عُرفت منطقة الحدود الشمالية قديمًا بـ (رمال عالج) كما كانت تعُرف بـ (عالج)، وعُرفت حديثًا بـ (النفود الكبير)
لم تحظَ المنطقة قديمًا بالاستقرار والتحضر بسبب الطبيعة الصحراوية القاحلة، بل كانت حياة التنقل وارتياد مناطق الرعي هي الصفة الغالبة على حياة القبائل التي كانت تعيش وتتنقل في مساحات كبيرة من رمال عالج التي تغطي - بالإضافة إلى الحدود الشمالية - منطقة الجوف. وقد حدثت بين تلك القبائل حروب صنفت من ضمن أيام العرب قبل الإسلام، مثل: أيام زبالة، وذات الشقوق، وأعشاش، وغيرها من الأيام التي ترد في مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام . وكما أن منطقة الحدود الشمالية لها أهمية في التاريخ القديم لكونها ممرًا لطرق التجارة من أنحاء الجزيرة العربية إلى الشام والعراق، فإنها في التاريخ الإسلامي حافظت على تلك الأهمية من خلال عبور طريق الحاج العراقي وما يليه من بلدان المشرق الإسلامي لهذه المنطقة وصولاً إلى الحرمين الشريفين في الحجاز، وقد اشتهرت المنطقة بدرب زبيدة؛ حيث يمر جزء منه عبرها، وترتبط الأحداث التاريخية للمنطقة بهذا الطريق، أما ما عدا ذلك من بقية أجزاء المنطقة فنادرًا ما يذكر.
عُرف درب زبيدة قبل الإسلام باسم طريق (الحيرة - مكة)، وبعد تأسيس الكوفة مكان الحيرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف باسم طريق (الكوفة - مكة)، وفي خلافة هارون الرّشيد اهتمت زوجته زبيدة بعمارة الدرب اهتمامًا فاق اهتمام من سبقوها خدمة للحجاج والمعتمرين؛ ولذلك سُمّي بدرب زبيدة.
وتركز المصادر - خصوصًا الجغرافية منها - على وصف الطريق ومراحله والمحطات التي يقف فيها عابروه للحج والعمرة والتجارة وغيرها، غير أن بعضها نادرًا ما يورد شيئًا من الأحداث التاريخية التي حدثت في بعض محطات الطريق وعلى مدى سنوات التاريخ الإسلامي
عهد النبوة والخلفاء الراشدين
مما ورد في المصادر التاريخية أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه غزا (ذا القصة) وهو موضع على درب زبيدة ويقع في منطقة الحدود الشمالية الحالية بين ذات الشقوق وزبالة، غزاه أبو عبيدة في السنة السادسة للهجرة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
كما أن المصادر التاريخية تذكر أثناء تعدادها للمغازي والسرايا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عيينة بن حصن في سرية إلى ذات الشقوق ، ولكن هذه المصادر لا تذكر السنة التي أرسلت فيها تلك السرية، ولكن إذا علمنا أن عيينة بن حصن لم يسلم إلا قبيل فتح مكة ، فإن هذه السرية تكون قد أرسلت أواخر العام الثامن أو أوائل العام التاسع للهجرة.
وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن حين أسلم الناس، فهجم على بني عدي بن جندب بذات الشقوق، فأغاروا عليهم وأخذوا أموالهم وأحضروها إلى المدينة، فقالت وفود بني العنبر: «أُخذنا يا رسول الله مسلمين غير مشركين»؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذراريهم وبيوتهم
وكان كثير من القبائل تنتشر في شمالي الجزيرة العربية خصوصًا فيما يعرف الآن بمنطقة الحدود الشماليّة، وعقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد بعضها وبعضها الآخر أرسل الصدقات إلى المدينة، ودبَّ الخلاف بين هذه القبائل، وأثناء قدوم سجاح بنت الحارث من العراق مرت بهذه القبائل وتحالفت مع زعماء من ارتدَّ منهم؛ واتفق معها بعضهم على حرب من لم يرتد، وبعد فترة من الزمن عادت القبائل وتحالفت فيما بينها، فاضطرتْ سجاح إلى مغادرة المنطقة جنوبًا باتجاه اليمامة
وعقب انتهاء حروب الردة وجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد رضي الله عنه لفتح العراق، ويقال: إن خالدًا سلك طريق البصرة ويقال: إنه سلك طريق الحيرة الذي يمر بمنطقة الحدود الشمالية
كما أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأن يسلك طريق (مكة- الحيرة) في طريقه إلى حرب الفرس في معركة القادسية
وفي عام 36هـ / 656م سلك الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه طريق (مكة- الكوفة) مرورًا بمنطقة الحدود الشمالية
العهد الإسلامي الوسيط
استمرت أهمية هذا الطريق بين الحجاز والعراق وما يليه من المشرق الإسلامي في عهد الخلافة الأموية، ثم زادت هذه الأهمية بعد انتقال الخلافة إلى بغداد، واهتمت به الدولة الإسلامية وعمر درب زبيدة في العهد العباسي كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ومما تذكره المصادر التاريخية أَنَّ ممن سلك هذا الطريق من أعلام المسلمين وتوقفوا في بعض محطاته الحسين بن علي رضي الله عنهما في سنة 60هـ / 680م أثناء ذهابه إلى العراق وتوقف في بعض المحطات وخصوصًا محطة زبالة الواقعة حاليًا في منطقة الحدود الشمالية .
وفي العام 121هـ / 739م سلك زيد بن الحسين هذا الطريق أثناء خروجه من بغداد باتجاه اليمن
والحدث التاريخي الذي تسهب في ذكره المصادر التاريخية هو الهجمات التي شنها القرامطة على سالكي طريق (مكة - الكوفة) من الحجاج والمعتمرين والتجار وغيرهم؛ حيث كان القرامطة ينطلقون من ساحل الأحساء، فيسطون على قوافل الحجيج عند قدومهم من العراق أو عند عودتهم من مكة والمدينة بعد أداء فريضة الحج.
ومن الحوادث التي ذكرتها المصادر التاريخية في سنة 294هـ / 906م، اعتراض الزعيم القرمطي زكرويه بن مهرويه قوافل الحجيج القادمة من مكة؛ حيث انتشرت فرق القرامطة على طول امتداد الطريق في الجزء الشمالي، وهو من محطة فيد حتى مدينة الكوفة. وفي السابع من شهر المحرم من ذلك العام قدم زكرويه نحو محطة واقصة، ولكنه لم يظفر بقافلة الحجيج، فقتل (العلافة) وأحرق أعلافهم؛ ثم اتجه إلى واقصة وحاصرها لعدة أيام، وهجم على جماعة من بني أسد وهو في طريقه نحو محطة زبالة . ثم تعرض زكرويه للقافلة الثانية ومجموعها من الحجاج الخراسانيين، في محطة العقبة المسماة (عقبة الشيطان) وحاربهم حربًا شديدة ثم خدعهم فتظاهر بالانسحاب ثم تتبعهم بعد ذلك وأوقع بهم وقتل معظمهم. وبعد هذه الواقعة المشينة غادر القرامطة محطة واقصة بعد أن ملؤوا الآبار والبرك بالجيف والتراب والحجارة وفعلوا الشيء نفسه في محطة الثعلبية وغيرها من المناهل على طول الطريق
وكان مَنْ نجا من الحجاج قد بعث برسائل عبر الحمام الزاجل إلى بغداد، كما قاموا بإشعار قافلة ثالثة أخرى يحذرونهم ويدعونهم إلى العدول عن الجادة الرئيسة لطريق الحج والاتجاه نحو واسط والبصرة أو العودة إلى محطة فيد أو المدينة حتى تصلهم جيوش السلطان؛ ولكن القافلة تهاونت بهذا الإنذار وتابعت سيرها لتجد زكرويه القرمطي في انتظارها بالهبير بالقرب من محطة زرود، شمال محطة فيد، وكلتاهما الآن في منطقة حائل، حيث قاتلهم لمدة ثلاثة أيام واستسلموا بعد ذلك لشدة العطش، فقتلهم وجمع القتلى على هيئة تل وبعث للمنهزمين من الحجاج بالأمان وعند عودتهم قتلهم، وكان ضمن ما أخذ من القافلة أموال الدولة الطولونية التي بعثت بها سرًا عبر طريق مكة إلى بغداد، وكانت هذه الأموال ممثلة في سبائك من الذهب والفضة والحلي والجواهر
وبعد إيقاع زكرويه بالقافلة الثالثة بعث طلائعه على طول طريق درب زبيدة خوفًا من العساكر الذين كانوا في طريقهم لنجدة الحاج، وانتظر مزيدًا من القوافل خصوصًا تلك التي فيها جماعة التجار وأصحاب الأموال وبعض رجال الدولة، وفعلاً توجه زكرويه إلى فيد، حيث كانت تحتمي هذه القافلة، وحاصر أهلها ومن فيها من الحجاج بالحصنين اللذين فيها. وحاول زكرويه جاهدًا مع أهل فيد أن يخرجوا الحجاج ويسلموه الحِصْنين إلا أن محاولته ذهبت سدى، ولما يئس غادر المنطقة، وفي المقابل جهز الخليفة المكتفي 289 - 295هـ / 902 - 908م جيشًا في أول شهر ربيع الأول من ذلك العام 294هـ / 907م، حيث تمكن من الاشتباك مع القرامطة في معركة قوية في الثامن من الشهر نفسه على طريق البصرة انتهت بالقضاء على جيش القرامطة، وأخذت جثة زكرويه إلى بغداد وهناك قطع رأسه وبعث به إلى خراسان ليطمئن الناس على زوال الخطر.
وضاعف القرامطة هجماتهم على طريق الحج في عهد الخليفة المقتدر وأضروا بالحجاج؛ ففي عام 312هـ / 924م اعترضوا قوافل الحجيج القادمة إلى الكوفة من مكة، وتقدموا إلى موقع الهبير (القريب من زرود) في جيش كبير ينتظر الحجاج القادمين من موسم حج سنة 311هـ / 923م عند رجوعهم من مكة، وكانت القافلة الأولى التي بادروا بمهاجمتها هي قافلة الحجاج البغداديين، أما القافلة الثانية فقد اعتصمت في محطة فيد عند سماعها بالاعتداء على القافلة الأولى، وبقيت في فيد متحصنة حتى نفد زادها فارتحلت عن فيد، وعندما غادرت القافلة باتجاه الكوفة أوقع بها القرامطة. ثم عاود القرامطة الكرة مرة أخرى بمهاجمة قوافل الحجيج في محطة زبالة وذلك في شهر ذي القعدة من عام 312هـ / 924م، وقد أوقعوا بقافلة معظمها من الحجاج الخراسانيين .
ونتيجة لهجمات القرامطة المتلاحقة على الحجاج وعلى محطات الطريق أصبح الطريق خاليًا ومن دون رعاية وصيانة لمدة تراوح بين 15 و 20 عامًا. ولم يتمكن الحجاج من استخدام الطريق إلا في الحالات التي يحصلون فيها على إذن من القرامطة؛ أما من يجازف من الحجاج باستخدام الطريق فإن حياته تكون معرضة للمخاطر. ففي عام 323هـ / 934م تقدمت قافلة للحجاج في طريقها إلى مكة، وعندما وصلت هذه القافلة إلى القادسية تعرضت إلى هجوم شرس من القرامطة في 12 من ذي القعدة فقتل عدد كبير من الحجاج، وبعد هذه الوقعة توجه القرامطة صوب الكوفة، وقطع الحج في تلك السنة فلم يحج أحد من العراق . وبعد أربعة أعوام عاود الحجاج السفر إلى مكة، ولكن بعد دفع ضريبة إلى القرامطة. ففي سنة 327هـ / 938م تمكن أبو الحسن بن معمر، أحد أعوان القرامطة من فرض ضريبة على الحجاج ما مكنهم من الحج بسلام