العصر الحديث في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصر الحديث في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية

العصر الحديث في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية.

 
إن لتاريخ عسير الحديث سمات ومقومات ودلائل ذات معطيات تشكل في مجملها حلقات متداخلة ومتشابكة، وقد ظهر على مسرح الأحداث عدد من القوى تمثَّلت في الدولة السعودية الأولى، فقوات محمد علي باشا، ثم أشراف الحجاز، فحكام عسير المحليين، فالدولة العثمانية والأدارسة، وأخيرًا الدولة السعودية الحديثة.
 

عسير قبل الدولة السعودية الأولى

 
لم يتطلع العثمانيون إلى الشرق العربي إلا في عهد السلطان سليم الأول الذي تمكن من القضاء على حكم المماليك في الشام ومصر وضم مصر إلى سلطته عام 923هـ / 1517م، فامتد نفوذه حتى شبه الجزيرة العربية، إذ اعترف أمير مكة الشريف بركات له بالسيادة، وتسمى السلطان سليم بخليفة المسلمين  
 
لم تكن هناك سلطة مطلقة لجهة معينة على عسير، وإنما للزعامات القبلية المحلية التي كانت محافظةً على استقلالها، واستمر وضع عسير على هذه الحالة حتى وصول نفوذ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية الأولى في الدرعية إليها، حيث تمكن أتباع الدعوة الإصلاحية من ضمّها، واستمر ذلك الوضع حتى مجيء قوات محمد علي باشا إليها عام 1230هـ / 1815م  . 
 
لذلك لم تخضع عسير لسلطة الدولة العثمانية المباشرة أو غير المباشرة، ولم يكن هناك أي احتكاك عسكري بين الطرفين إلا أواخر عام 1229هـ / 1814م خلال حملات محمد علي باشا للقضاء على الدولة السعودية الأولى.
 
 

عهد الدولة السعودية الأولى 1213 - 1230هـ / 1798 - 1815م

 
بعد أن تمكنت الدولة السعودية الأولى من ضم معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية من نواحيها الوسطى والشرقية والشمالية بدأت ترنو ببصرها إلى النواحي الغربية والجنوبية الغربية، وكانت الانطلاقة الأولى تجاه منطقة بيشة حيث تمكن قائدها ربيع بن زيد من ضمّها  ،  وانضوت تحت لواء حكومة الدرعية عام 1213هـ / 1798م  . 
 
تطلعت الدولة السعودية بعد وصولها إلى بيشة إلى ضم عسير؛ لموقعها الإستراتيجي وأهميتها العسكرية والاقتصادية للحجاز، فبدأت في إرسال الرسائل إلى أمراء منطقة عسير وأهاليها تدعوهم إلى اتباع الدعوة السلفية، وقد استجاب لتلك الدعوة محمد بن عامر وأخوه عبدالوهاب من قبيلة ربيعة ورفيدة، حيث اتجها إلى الدرعية، وتعلما مبادئ الدعوة السلفية، وطلبا من الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود مساعدتهما لنشر الدعوة السلفية بين قبائل عسير.
 
وقد جهز الإمام معهما جيشًا كبيرًا بقيادة ربيع بن زيد مهمته تثبيت دعائم إمارة محمد بن عامر على عسير وكان ذلك عام 1215هـ / 1800م  ،  وقد واصل الجيش زحفه حتى وصل قرية حجلا من قبيلة بني مالك إحدى قبائل عسير، وهناك وفدت عليه معظم قبائل عسير معلنة الولاء والطاعة  ،  ثم واصل الجيش زحفه حتى وصل إلى باحة ربيعة، وبعد أن أكمل مهمته عاد راجعًا إلى نجد، في حين بدأ محمد بن عامر بممارسة دوره الزعامي أميرًا لمنطقة عسير تابعًا للدرعية، وقد امتدت إمارته في حدودها الطبيعية ما بين بللحمر فمحائل شمالاً حتى بلاد قحطان فبني شعبة جنوبًا، وغربًا ما بين سواحل القحمة حتى بلاد بني شهر شرقًا  ،  يدعمه في ذلك بعض علماء الدرعية لتعليم الناس أمور دينهم  . 
 
أدرك الأمير محمد بن عامر أن الأوضاع لا يمكن أن تستقر، وأن القبائل لا يمكن أن تخضع خضوعًا كاملاً دون نـزع السلاح، وقد استجاب معظم أهالي عسير لنداء نـزع السلاح والاحتكام إلى الشريعة، عدا بعض القبائل التي تثاقلت في تنفيذ الأمر إلا أنها ما لبثت أخيرًا أمام إصرار الدولة أن سلمت أسلحتها، وحتى يظهر الجميع أمام حكومة الدرعية بمظهر الجسد الواحد سافر الأمير محمد بن عامر ومعه كبار رجال قبائل عسير عام 1217هـ / 1802م لمقابلة الإمام عبدالعزيز بن محمد وتجديد البيعة له، والالتزام بمجابهة أعدائها وأعداء الدرعية. وفي أعقاب تلك المقابلة جدد الإمام عبدالعزيز الإمارة لمحمد بن عامر على عسير وما يتبعها، وفي طريق عودته والوفد المرافق له إلى عسير، توفي الأمير محمد بن عامر بعد حكم دام قرابة عامين، فخلفه أخوه عبدالوهاب الذي بايعته قبائل عسير، والتفت حوله، فاتخذ من طبب عاصمة له، وأرسلت الدرعية موافقتها على إمارة عبدالوهاب وأمرته بالمسير إلى تهامة وضمها  
 
لم يتوانَ الأمير عبدالوهاب - منذ أن تقلد الإمارة في عسير - في ضم المناطق المجاورة له، وإخضاعها لطاعته، فضم قحطان وشهران وبللسمر وبللحمر وبني شهر وبني عمرو  
 
وفي رمضان عام 1217هـ / 1802م سار الأمير عبدالوهاب برجاله ناحية أبو عريش تنفيذًا لأوامر الدرعية مرورًا بصبيا حيث ضمها إليه، ولما وصل إلى أبو عريش وجد أميرها الشريف حمود أبو مسمار قد حصّنها، فبدأ في حصارها، وأخيرًا تمكن الأمير عبدالوهاب وأتباعه من هزيمة الشريف حمود ودخول أبو عريش، فأعلن الشريف حمود ولاءه للدرعية، فأبقاه عبدالوهاب أميرًا في أبو عريش تابعًا للدرعية، منفذًا أوامرها في حدود إمارته  
 
ولعل الأمير عبدالوهاب قد أدرك أطماع الشريف حمود في بعض المناطق القريبة من إمارته، مثل: صبيا وبيش وبني شعبة، وغيرها؛ لذلك حدد له عبدالوهاب أبو عريش والمناطق التابعة لها، ولم يلزمه فقط باتباع الدعوة السلفية والخضوع للدرعية، وإنما ألزمه كذلك بالتوجه إلى نشر مبادئ الدعوة في أي جزء توجه الدرعية بالذهاب إليه.
 
وفي عام 1220هـ / 1805م، وبناءً على توجيهات الإمام سعود بن عبدالعزيز، انطلقت قوات حاكم عسير إلى مكة المكرمة لمحاربة الشريف غالب الذي هاجم القوات السعودية المرابطة في مكة المكرمة، بعد أن ضمتها عام 1218هـ / 1803م  
 
أدرك الشريف غالب أن أمير عسير وجيشه يشكلون تهديدًا خطيرًا لبقائه في الحجاز، فقرر - بناءً على ذلك - مهاجمة الحامية العسيرية التي تركها عبدالوهاب عند ماء السعدية، فباغتها وقضى عليها، ثم اشتبك مع قوات عبدالوهاب عند (يلملم)، ولم يحقق أيُّ فريق انتصارًا على الفريق الآخر. وفي طريق عودة عبدالوهاب قرر تأديب عرار بن شار أمير بني شعبة لعدم مشاركته في حربه ضد الشريف غالب فهاجم (عرارًا) وأخذ خيول بني شعبة، ولا شك أن هذا الخلاف قد دفع عرار بن شار للتوجه إلى الشريف حمود في أبو عريش طالبًا منه الحماية  ،  فاستغلها الشريف حمود فرصة لصالحه ضد عبدالوهاب، وبدأ يشير على عرار بتصرفات يشوبها التحدي والمضايقة لأمير عسير. عندها صمم عبدالوهاب على طرد عرار من بني شعبة حيث إن بقاءه فيها يمكنه من إخضاع القبائل التهامية المجاورة له، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد اكتشف عبدالوهاب تورط الشريف حمود أبو مسمار (أمير أبو عريش) عندما اطلع على رسائل تأييدية لعرار  
 
كوّن الأمير عبدالوهاب جيشًا كبيرًا من عشرة آلاف مقاتل سار بهم نحو بني شعبة ودخل الدرب بعد أن غادرها عرار الذي لجأ إلى الشريف حمود، وقد نكّل عبدالوهاب ببعض القبائل التي أيدت (عرارًا) في قراراته، وساعدته في هجماته، أما بقية قبائل بني شعبة والشقيق وعتود، فقد سارت إليه، فأخذ أسلحتهم، وأمنهم، وأمَّر عليهم أحد أتباعه   
 
لم يكتفِ عبدالوهاب بذلك النصر، بل قرر أمرين مهمين، أحدهما: الزحف إلى أبو عريش والتخلص من الشريف حمود وعرار. والثاني: ضرورة الاستيلاء على الموانئ اليمنية ذات الأهمية التجارية  ،  فأرسل إلى القبائل الموالية له من محايل وقنا والبحر وألمع لتنضم إلى جيشه، وأخذ كل فريق يعد العدة لمحاربة الفريق الآخر.
 
علمت الدرعية بما آلت إليه الأمور في المنطقة الجنوبية من بلادها، فأرسلت إلى الطرفين، وكلاهما تابع لها، مطالبة بإيقاف القتال حقنًا للدماء، والتوجه إلى الدرعية لحل المشكلات بين الأطراف جميعها، فامتثل الجميع لأوامر الدرعية، وأبقت الأمير عبدالوهاب والشريف حمود (كُلاً على وضعه السابق)، أما عرار بن شار فقد أبقته في الدرعية حتى وفاته  .  وبإلقاء نظرة دقيقة على سياسة الدرعية إزاء عبدالوهاب والشريف حمود نلحظ أنها كانت سياسة إيجاد توازن إستراتيجي في المنطقة.
 
استغل الشريف حمود ذلك الوضع الذي كان لصالحه، فاستقل عن الأمير عبدالوهاب استقلالاً كاملاً حيث تقدم نحو الأراضي اليمنية، وأخضع أجزاء منها باسم الدولة السعودية الأولى من أهمها قبائل وادي مور وبني حسن واللحية وزبيد 
 
وجد الشريف حمود - بعد تلك الانتصارات والتوسع في الأراضي اليمنية الخصبة - في نفسه القوة، إذ زادت موارده المالية، كما بدأ يضيق بتوجيهات الدرعية، ولا ينفذ معظمها، ما دفع الدرعية إلى محاولة اختباره، فوجهت أوامرها إليه بمهاجمة إمام صنعاء، فلم ينفذ تلك الأوامر، فعدّت الدرعية ذلك الصنيع عصيانًا لها  
 
وعليه فقد قررت الدولة ضرب الشريف حمود بعدوه اللدود عبدالوهاب، فوجهت أوامرها إلى عبدالوهاب بتزعم جيوش الدولة السعودية الأولى في حربها ضد الشريف حمود، فوجدها الأمير عبدالوهاب فرصة للانتقام من الشريف حمود، والقضاء عليه، وعلى الرغم من انتصار القوات السعودية على جيش الشريف حمود، إلا أنه تمكن من قتل الأمير عبدالوهاب أمير عسير في هجومٍ مركّزٍ على جناحه، وكان ذلك عام 1224هـ / 1809م في معركة وادي بيش. ولا شك أن الشريف حمود قد أدرك أن بقاء عبدالوهاب على رأس السلطة في عسير سيسبب له كثيرًا من المتاعب، هذا إذا لم يقض على إمارته في أبو عريش؛ لذا فقد كان التخلص منه يعد من وجهة نظر الشريف حمود انتصارًا له.
 
علمت الدرعية بمعركة وادي بيش ونتائجها، ومقتل الأمير عبدالوهاب أبي نقطة، أحد قادتها المخلصين، فأصدرت أوامرها بتعيين ابن عمه طامي بن شعيب أميرًا على عسير، على أن يتولى قيادة الجيوش المحاربة للشريف حمود  ،  وقد أدرك طامي أن للمال مفعولاً قويًا مع الناس، كما أن للمواقع الإستراتيجية - اقتصاديًا - دورًا مهمًا في محاربة عدوه، لهذا قرر طامي الاستيلاء على الموانئ المهمة التابعة للشريف حمود، فسار طامي بقواته في عام 1225هـ / 1810م نحو اللحية والحديدة واستولى عليهما  
 
وفي عام 1226هـ / 1811م أدرك الشريف حمود أنْ لا طاقة له بمقاومة جيوش الدولة السعودية الأولى، فبذل جهودًا كبيرة لدى بعض الوجهاء لإنجاح الوساطات بينه وبين الدولة السعودية، وفعلاً تم الصلح على أن يتنازل هو عن حقوقه في صبيا وبيش والدرب ومعهم قبائل ألمع للإمام سعود بن عبدالعزيز، مع التعهد بدفع ضريبة سنوية من واردات الموانئ اليمنية الواقعة تحت سلطته  
 
 

حكم محمد علي 1230 - 1256هـ / 1815 - 1840م

 
تطورت الأمور السياسية والعسكرية في منطقة عسير السراة وتهامة بسبب نـزول قوات محمد علي باشا في ينبع عام 1226هـ / 1811م للقضاء على الدولة السعودية الأولى، وتركيز الدولة جهودها على مجابهة ذلك الخطر الداهم، وأخذت الأمور تسير في غير صالح الدولة السعودية الأولى، ولم يأتِ عام 1228هـ / 1813م إلا ومعظم الحجاز في قبضة قوات محمد علي باشا  
 
قدّر محمد علي باشا، بعد أن استولى على الحجاز، أهمية جنوب الجزيرة العربية خصوصًا قبائل غامد وزهران، ومنطقة عسير (سراة وتهامة)، لكونها مركزًا لقوات كبيرة وموالية للدولة السعودية، فأرسل حملة قوية للاستيلاء على ميناء القنفذة عام 1229هـ / 1814م، إلا أن الأمير طامي بن شعيب سار بقواته إلى القنفذة، وتمكن من الاستيلاء على آبار الماء بهجوم مكثف، ما اضطر قائد حملة قوات محمد علي باشا إلى الانسحاب، عائدًا إلى جدة، مخلفًا وراءه خسائر فادحة، وغنائم من العتاد والخيام  
 
وقد حاول محمد علي باشا تجنيب قواته تلك الهزيمة القاسية بإرسال فرقة من الخيالة للوقوف في وجه طامي بن شعيب، إلا أنها أيضًا مُنيت بالهزيمة  
 
لم يرض محمد علي باشا بالمواقف الأخيرة لقواته في المناطق الجنوبية، كما أثرت فيه مواقف قبيلتَي غامد وزهران المتصلبة ضد قواته، فقرر إرسال حملة يقودها عابدين بك، للاستيلاء على وادي زهران، وطرد الحامية السعودية الموجودة فيها، وهدم حصن بخروش بن علاس، والقضاء عليه، إلا أن تلك الحملة منيت أيضًا بهزيمة قاسية من قوات غامد وزهران، تدعمهم قوات سعودية يقودها الأمير طامي بن شعيب  
 
وفي عام 1230هـ / 1815م حدثت معركة من أهم المعارك الفاصلة بين قوات محمد علي باشا، وقوات الدولة السعودية الأولى في بسل جنوب الطائف  ،  وانتهت تلك المعركة بهزيمة القوات السعودية  
 
بعد تلك الهزيمة تفرقت جيوش الدولة السعودية كلٌّ إلى منطقته، استعدادًا لمواجهة زحف قوات محمد علي باشا  
 
في تلك الأثناء وصلت أوامر السلطان العثماني إلى محمد علي باشا بضرورة الزحف إلى جنوب الجزيرة العربية، لأهميتها لنجد بوصفها مركز دفاع وإمداد، وللقضاء على قوة طامي بن شعيب وقبائل عسير  
 
انطلق محمد علي بقواته إلى عسير، وفي طريقه تمكن من هزيمة غامد وزهران، ومن قتل بخروش بن علاس، وأرسل رأسه إلى الآستانة  ،  وتمكن كذلك من هزيمة القوات التي قابلته في تبالة وبيشة وخميس مشيط  
 
لم يتوان محمد علي عن تحقيق هدفه الرئيس، وهو القضاء على طامي بن شعيب ورجاله في عسير، وعند وصوله لم تسالمه أي قبيلة، وثبتت مع طامي بن شعيب قبائل عسير السراة. وبعد معارك قوية انهزم طامي فاتجه إلى حصن له في تهامة يسمى مسلية، إلا أنه - أمام ضغط قوات محمد علي التي تتعقبه - لجأ إلى إمارة عدوه اللدود حمود أبي مسمار، ظنًا منه أن لجوءه إلى إمارته سيحميه، إلا أن رجال حمود قبضوا عليه، وسلّموه لرجال محمد علي الذين كانوا يطاردونه  ،  فأرسلوه مع رأس بخروش بن علاس   إلى مصر، حيث صلب هناك، وفي رواية أخرى أنه أرسل إلى مصر ومنها إلى الآستانة حيث لقي حتفه  
 
بهذا يكون الشريف حمود أبو مسمار قدم هدية جليلة لمحمد علي متمثلة في القائد الأمير طامي بن شعيب، وكان لا بد لتلك الهدية من ثمن، حيث طلب الأمير حمود من محمد علي باشا في سنة 1230هـ / 1815م، أن يعطيه منطقة رجال ألمع ودرب بني شعبة التابعة لمنطقة عسير وبيش وجزيرة فرسان.
 
عاد محمد علي من عسير إلى مكة المكرمة مارًا بمحايل فالقنفذة، تاركًا وراءه حامية ينتشر أفرادها في منطقة عسير، مزودة بالأسلحة والمدافع الثقيلة، كل همّ رجالها سلب الأموال وإرهاق الأهالي، ما دفع بالأمير محمد بن أحمد ابن عم الأمير طامي بن شعيب أن يتزعم الثورة في عسير، فبادر بمهاجمة الحامية التابعة لمحمد علي، في طبب وقضى عليها، واستولى على أسلحتها ومدافعها. وبدأ في تأديب القبائل المتمردة على طاعته، واتسم عهده بالشدة والبطش  
 
حاول الأمير محمد بن أحمد الانتقام من الشريف حمود أبي مسمار الذي قبض رجاله على الأمير طامي بن شعيب، وسلّموه لقوات محمد علي، إلا أن قوات الأمير حمود كانت في انتظاره في درب بني شعبة، ودارت معركة بين الطرفين عام 1231هـ / 1816م، انتصر فيها الشريف حمود.
 
ولا شك أن القسوة التي انتهجها الأمير محمد بن أحمد ضد الأهالي قد أعطت نتائجها العكسية، فبعد هزيمته من الشريف حمود أمير أبو عريش عام 1231هـ / 1816م تكالبت القوى الداخلية والخارجية ضده، ثم وجه محمد علي باشا حملة قوية أسندت قيادتها إلى الشريف محمد بن عون أمير مكة المكرمة، حيث تمكن من هزيمة محمد بن أحمد وَأَسْرِهِ هو وابنه (مداوي) وإرسالهما إلى القاهرة  ،  وبذلك تنتهي فترة حكم هذه الأسرة، لتدخل عسير بعد ذلك في فترة فوضى واضطراب قبلية من ناحية، ولتشهد من ناحية أخرى الحملات المتتابعة من قوات محمد علي باشا الذي استاء من ثورة عسير والشريف حمود، فتكونت قوة كبيرة بقيادة سنان آغا تمكنت من احتلال حلي بن يعقوب، وواصلت سيرها حتى الشعبين من قرى رجال ألمع واحتلتها، ثم شعار في السراة، وأرسلت قوة لضم طبب، وتحرك سنان ببعض قواته نحو الملاحة التي كان يرابط فيها الشريف حمود بجزء من جيشه   حيث دارت معركة كبيرة بين الطرفين انتهت بانتصار الشريف حمود، وقتل غالبية رجال حملة سنان آغا  
أدرك محمد علي باشا صلابة قبائل عسير وقوة الشريف حمود، فأرسل قوة كبيرة تمكنت من هزيمة قوات الشريف حمود وعسير في معركة جبل شكر في شهر شعبان 1234هـ / 1819م  
 
لم تنقطع الاتصالات بين عسير ونجد حتى بعد سقوط (الدرعية) ونهاية الدولة السعودية الأولى، ففي عام 1236هـ / 1821م ثارت قبائل عسير ضد قوات محمد علي باشا، وكان هناك اتصال مع الإمام تركي بن عبدالله آل سعود في نجد للقيام بثورة مشتركة ضد قوات محمد علي في كل من عسير ونجد  
 
على أن ثورة عسير ما لبثت أن ضعفت نتيجة لانقسام القبائل بين مؤيد للثورة ومعارض لها، ما دفع بقوات محمد علي إلى إرسال المزيد من الحملات التي حققت في النهاية خضوع عسير لولاية الحجاز.
 
هدأت الأوضاع في المنطقة بعد أن تسلم الشريف محمد بن عون إمارتها وبايعه الأهالي بحكم مركزه الاجتماعي، ومكانة أسرته، ومعرفة القبائل شخصيته، إذ كان هو المتصدر للأمور السياسية والإدارية أثناء قيادة الحملة ضد قوات أحد أبرز زعماء المخلاف السليماني الأمير حمود بن محمد أمير أبو عريش، وقد باشر الشريف محمد بن عون حكم عسير، فوضع حامية في طبب، وعين أخاه الشريف هزاع بن عون نائبًا له في المنطقة  
 
إن هدوء الأحوال بين القبائل العسيرية المنضوية تحت إمارة الشريف محمد بن عون شجعه على غزو وادي الدواسر، فجنَّد قبائل عسير التابعة له واتجه نحو وادي الدواسر مارًا بالسليل، وبينما هو يتفقد جيشه إذ افتقد زعيمًا بارزًا هو سعيد بن مسلط ورجاله من بني مغيد وبعض قبائل عسير السراة ورجال ألمع الذين تأخروا في الوصول، وعلى الرغم من أن سعيدًا هذا هو صهر الشريف هزاع إلا أن الشريف محمد بن عون استشاط غضبًا لهذا التأخر ووبخ سعيدًا أمام الملأ واشتد في توبيخه، فثار الأخير لكرامته وعاد ورجاله إلى عسير، وأعلن الثورة  ،  وعقد مؤتمرًا سريًا في المَجْمَعة   من بلاده بني مغيد عام 1238هـ / 1823م، وتقرر في ذلك المؤتمر الثورة ضد حكم الشريف محمد بن عون، وإخراج الحامية الموجودة في طبب، والدفاع عن بلادهم ضد أي هجوم مع مبايعة سعيد بن مسلط أميرًا عليهم  
 
شرع سعيد في بناء حكمه، والاستعداد لكل الطوارئ، فاتخذ من السقا مقرًا له، وكانت الخطة الأولى هي الهجوم على عساكر المشاة في عسير، وقد نجح رجاله في ذلك حيث قتلوا وجرحوا مجموعة كبيرة منهم، ثم تمكن أهل عسير بعد أيام من إخراج الحامية الموجودة في طبب صلحًا والاستيلاء عليها عام 1238هـ / 1823م  
 
كانت بوادر الثورة عند زعماء عسير موجودة حتى قبل الإهانة التي تلقاها سعيد بن مسلط من الشريف محمد بن عون، لكنها كانت الشرارة التي أشعلت الثورة، ويدل على ذلك الرسالة التي أرسلها علي بن مجثل إلى السيد محمد عقيل العلوي عام 1238هـ / 1823م، أي قبل موقف الشريف من سعيد بن مسلط بعدة أشهر، يخبره فيها بالقبائل المتحالفة معه وهي: عسير وشهران ورفيدة قحطان وبللسمر وبللحمر وبنو شهر وبلقرن وبنو عمرو وأكابر عبيدة وسنحان ويؤكد قائلاً: "أما الباشا فلا نرى الخط عنده وجه، لأنا ما نعلم له عندنا من المطالب شيء، فإن أراد العافية والسكون فيخلينا ويخلي سبيلنا، وإن يدور الفتن ومراده يوازينا عند طوارفنا، فنستعين عليه بقاصم الجبابر فهو يكفي من توكل عليه"  ،  وأيضًا ما أكده محمد علي باشا بأن "طائفة الأروام المتمكنة في الجزائر والسواحل عصت على الدولة العلية وبحسب مأموريتنا مشغولين لتأديبهم، وأثناء ذلك تجاسر أشقياء عسير على تلك الفتنة"  
 
قرر محمد علي باشا بعد علمه بما حصل للحامية في طبب أن يكلف ابنه أحمد يكن باشا محافظ الحجاز بقيادة الجيش، وطلب من الشريف محمد بن عون أمير عسير وأخيه الشريف راجح التعاون معه لتأديب قبائل عسير، وإنه مصمم على ذلك  
 
خرج أحمد باشا محافظ الحجاز ومعه الشريف محمد بن عون باتجاه عسير في جيش كبير في شهر ربيع الآخر 1239هـ / 1824م، وسلكوا طريق العقيق في منطقة الباحة، فبيشة، فخميس مشيط، حتى وصلوا إلى السقا مقر سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل، فخرجا منها ومعهما قرابة ألفي مقاتل من بني مغيد ورجال ألمع "ونـزلا في سفح المكان المسمى (عقبة) - المقصود عقبة ريدة - وهناك اعتصما... وبينما نحن ومعنا خمسة وعشرون فارسًا نكشف أطراف العقبة وأسفلها إذا بالأشقياء المنحوسين يرموننا بالبنادق من الأسفل"  ،  خصوصًا أن أتباع سعيد وعلي قد بنوا المتاريس في أسفل العقبة وأعلاها، واستقر سعيد وعلي في منتصف عقبة ريدة، وأدرك أحمد يكن أن الصعود إلى العقبة أو حتى النـزول إليها تصرف يحيطه كثير من المخاطر؛ لذا فقد انتظر حتى وصول المزيد من القوات، سواء من القنفذة، أو الموجودة في طبب، وقسّم الجيش إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: مهمته الهجوم على علي بن مجثل وأتباعه، والقسم الثاني مهمته الهجوم على سعيد بن مسلط وأتباعه، والقسم الثالث من قوات الترك المشاة، ومهمته الهجوم على القرى المؤيدة لعلي وسعيد.
 
ونتيجة لتفوق قوات محمد علي من الناحية العسكرية النظامية، وتطور الأسلحة، فقد حققت انتصارًا كبيرًا على قوات سعيد بن مسلط، ولم يقفوا عند ذلك الحد، بل تجاوزوه إلى إحراق القرى بأسلوب انتقامي وأحرقوا "ما يتجاوز مئتي قرية، فطلب المقهورون الأمان، فأعطي للجميع"  
 
لقد تصور أتباع محمد علي باشا أنهم بهذا الأسلوب الوحشي في محاربة قبائل عسير؛ من إحراق القرى، وتدمير المزارع، وتشريد الأهالي؛ سيخضعون الناس لسلطانهم، ويقضون على ثورة القبائل واستمرار عصيانهم، وعدم خضوعهم لسلطة محمد علي، فأسلوب القمع الوحشي وتدمير البنى التحتية بقصد الحرب الاقتصادية لا تجدي مع القبائل التي ترفض الخضوع تحت طائل السلاح لأي سلطة يرون فيها أنها أجنبية عنهم مهما كانت النتائج.
 
إن طلب الأمان لم يكن يعني لعسير الخضوع والاستسلام بقدر ما هو - حسب رؤيتها - محاولة لتهدئة الأوضاع وإعادة ترتيب الصفوف والحصول على السلاح بأي ثمن، يؤكد ذلك ما كان يقوم به سعيد بن مسلط؛ فبينما هو يرسل الرسائل موضحًا فيها التزام أهالي عسير بشروط أحمد باشا، كان يقوم بأمور كثيرة توحي باستعداده للمواجهة العسكرية لأي هجوم جديد قد تقوم به قوات أحمد باشا؛ ومن أهم تلك الأمور:
 
 إنشاء القلاع  العسكرية وحصون المراقبة في عسير تحسبًا لأي هجوم عسكري عليه.
 
 ترتيب القوات على المداخل الرئيسة من عسير وإليها.
 
 الاتصال بالإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود الذي تولى الحكم في نجد سنة1240هـ / 1825م بعد انهيار الدولة السعودية الأولى  . 
 
وعلى أي حال، فقد رتب أحمد يكن محافظ الحجاز أموره العسكرية حيال الإمام تركي بن عبدالله إمام نجد، والأمير سعيد بن مسلط أمير عسير، فالموقف من الأول: "حررنا ورقة إلى الدويش... ليغزو جماعة تركي بن عبدالله، وأرسلناها إليه مع كبود وشال كشميري (أنواع من الهدايا) لكن أرى أنه إذا أرسل أمر سام من مولانا إلى الدويش يكون ذلك باعثًا قويًا لسعيه وغيرته"  
 
أما الموقف من أمير عسير فقد كان أحمد يكن يرى أنه من الضروري أن يرسل إليه جيشًا من قسمين: قسم يزحف إلى عسير مارًا ببني شهر، وقسم آخر يزحف من جهة رجال ألمع  
 
سيّر أحمد يكن قواته باتجاه عسير في العشرين من جمادى الآخرة 1240هـ / 1825م، حيث غادر القسم الأول القنفذة إلى بني شهر، بقيادة الشريف محمد بن عون الذي زحف في العشرين من رمضان إلى "بني رفيدة فقتلوا خمسين رجلاً، وأسروا خمسين، وأحرقوا قراهم"  .  أما القسم الثاني فسار إلى رجال ألمع، وقد كان لهذه القوة الكبيرة المزودة بالأسلحة المتطورة أثر كبير في نفوس بعض مشايخ عسير؛ دفعهم إلى طلب العهد والأمان  
 
كما أن محمد علي باشا حرص على تثبيت قواته وتشجيعها، فأرسل إلى أحمد يكن مئة ألف ريال فرنسي، ووعد بالمزيد  
 
وصلت قوات أحمد يكن إلى قلب عسير، حيث أقاموا في (مناظر) عددًا من الأيام، لإراحة الجند، والتعرف أكثر فأكثر إلى القبائل، سواء الموالية أو المعادية لهم، ومن أسباب ذلك أيضًا انتظار ما يصل من الحجاز من إمدادات عسكرية ومادية وغذائية.
 
لم يزرع رجال محمد علي في مواقفهم السابقة من قبائل عسير وغيرهم في الجزيرة العربية أي إيجابيات، أو علاقات ثقة متبادلة خلال إعطائهم الأمان، بل كان الغدر ديدنهم، ما حدا بالقادة والقبائل إلى عدم الاستجابة لنداءات الأمان، أو تصديق ما كان يردده قادة محمد علي من أن هدفهم هو الأمن والاستقرار، فالأحداث السابقة قد برهنت على كذبهم في هذا، بل حتى رسائلهم قد فضحت أساليبهم الملتوية المتمثلة في الغدر والخيانة، إذ أكد محافظ مكة أحمد باشا أن الهدف من إعطائهم الأمان هو القبض على زعماء عسير 
 
لم يكن إخضاع عسير بالأمر الهين أمام أحمد يكن، فقد تمكنت بعض قبائل عسير من قطع طريق تهامة أمام قوات أحمد يكن، وسيطروا على الطرق المهمة، خصوصًا ما بين عتود وعقبة مناظر، فقد كان الأمن مفقودًا وغير مستتب فيما يتعلق بتحركات رجال أحمد يكن في تلك الأنحاء  
 
قرر أحمد يكن إنهاء مقاومة أهل عسير فاتجه بفرقة من جيشه إلى السقا، المركز الرئيس لزعيمي عسير، واتجه بالأخرى إلى ريدة مركز المقاومة للعسيريين، وفعلاً نـزل الجند بعون لأحمد يكن من عقبة العوص بزعامة الشيخ مانع، شيخ طبب، وشرعوا يقاتلون رجال المقاومة، وقد دارت معركة عنيفة، قتل فيها عشرون من العسكر العرب التابعين لأحمد يكن ووقع قائدهم الشيخ مانع في الأسر؛ فتأثرت معنوية العساكر العرب وولوا هاربين باتجاه قوة أحمد يكن في عقبة العوص، عندها أدرك أحمد يكن ضرورة التصرف السريع، وعدم تضييع الوقت، لأنهم أمام قوة لا يستهان بها؛ لذا أرسل ابن شيخ خميس مشيط إلى مناظر لإحضار المدفع الذي كان يوجد هناك إلى عقبة العوص. عندها قرر علي بن مجثل ومن معه من رجال ألمع النـزول من مرتفعات السقا حيث كانوا متحصنين، وانهالوا بالرصاص على قوات أحمد يكن، فأجمع رأي قادته على أفضلية تجميع قواتهم، والهجوم دفعة واحدة، وقد تم لهم ذلك، فسارت القوات باتجاه السودة في آخر ذي القعدة 1240هـ / 1825م  
 
قرر أحمد يكن إخضاع عسير لسلطته مهما كلفه ذلك من ثمن، ولعل الدافع من وراء ذلك هو الظهور أمام محمد علي باشا بمظهر القائد الذي ينفذ أوامر قادته بكل حزم، والذي لا يهزم؛ لأنه لو تقاعس أو انسحب فربما كان جزاؤه المحاسبة والعزل، وفي الطرف الثاني كانت القيادة في عسير أشد حماسًا من أهلها في الدفاع عن بلادهم، وعدم الاستسلام المهين، مهما كانت الخسائر، فالتضحيات في سبيل استقلال أوطانهم تهون.
 
ولما أحس المتحصنون في جبال السودة  من رجال عسير بخطر زحف قوات أحمد يكن نحوهم خرجوا من تحصيناتهم، وأخذوا في إطلاق رصاصهم صوب القوات الزاحفة، ولعل عدم انقطاع الإمدادات إليهم كان سببًا رئيسًا في الإصرار على مقاومة رجال أحمد يكن الذين انسحبوا من دون نظام تحت وابل رصاص رجال عسير، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى شدة هطلان الأمطار التي أفسدت بنادقهم، على الرغم من محاولة أحمد يكن ترتيب الجيش:
 
"فلم يعبؤوا بترتيب الحرب، ولا برئيس العساكر، وجعلوا يسرعون للوصول إلى قرية السودة، حيث يريد الجيش وقاية نفسه، وإني وإن كنت قد (ألحيت) عليهم بالرجوع ومقابلة العدو، وطلبت منهم السير بالتأني، إلا أن ذلك لم يفد شيئًا. وتعقبَنا العدوُّ من الخلف، وقتلوا رجالاً من عساكرنا، ووصلنا إلى قرية السودة، ونـزلنا جميعًا فيها، إلا أنه لخطورة المحل المذكور الذي يجد فيه العدو تقوية، فقد خرجنا من السودة باتجاه العقبة، حيث يقيم الميرالاي الثاني يوسف آغا، وقد وجد العدو الفرصة من رعب عساكرنا، وتشتتها من المطر، فأغار على بعض حمولتنا السائرة في الطريق ونهبها، وقد علم الأشقياء بحالتنا المشتتة من كل الوجوه، وبينما أخذوا يظهرون بيارقهم المنحوسة، وعساكرهم المنحوسة، وينـزلون إلى أسفل، فإنه لم يكن لدى العساكر الموجودة بمعية الميرالاي المومأ إليه، ولا مع العساكر التي وردت مع عبدكم من الجبخانة ما يكفي إلا لمحاربة ساعة، أو ساعتين"  
وهذا يعني مزيدًا من المعاناة للطرفين، فمعاناة أحمد باشا لم تكن بأقل من معاناة رجال عسير، حيث إن الخسائر من الجهتين كانت كبيرة، والقتلى والجرحى يملؤون الطرقات؛ لذا فإن أي بادرة أمل للصلح ما كانت سترفض من الطرفين، فأحمد يكن كان يدرك قلة الذخيرة؛ لأن رجال عسير قد ضيقوا طرق الإمدادات لجيشه، وسيطروا عليها. أما قادة عسير فقد أيقنوا أن أحمد يكن بعد هزيمته قد رتب جيشه، ونظم صفوفه، وبدأ يستعد للحرب ومقابلة جيش عسير مرة أخرى، إضافة إلى أنهم قد حققوا شيئًا كبيرًا بإلحاق هزيمة قاسية بجيش أحمد يكن؛ لذا فإنهم إذا أوفدوا أحد زعمائهم إليه للصلح فإنه لن يرفض، وبذلك يحققون ما يريدون دون مزيد من الحروب والدمار. وقد أرسل قادة عسير أحد مشايخهم فقابل أحمد يكن، وطلب منه العفو عن زعماء عسير، فأعطى لهم الأمان  
 
لم يكن إعطاء الأمان بمطلب أساس لزعماء عسير، فهناك أشياء مهمة من وجهة نظرهم لعل من أبرزها الاعتراف بما لزعماء عسير من القبائل التابعة لهم، وأيضًا التخلص من أطماع الأشراف في عسير حيث طالبوا بأبو عريش ورجال ألمع وبارق وبللحمر وبللسمر، إلا أن أحمد باشا أخبرهم بأن أبو عريش منحت للشريف علي بن حيدر، وبارق لجمعة آغا، وباقي عسير وبللحمر وبللسمر لزعماء عسير.
 
لما أدرك زعماء عسير إصرار أحمد يكن على موقفه من توزيع القبائل قبلوا بالأمر الواقع، وتعهدوا بالدخول تحت الطاعة، وفي المقابل رضي أحمد يكن بعدم إقامة أي شريف من الأشراف في عسير.
 
لم تمض فترة وجيزة حتى وصلت أخبار نقض الصلح إلى أسماع زعماء عسير، فأرسل سعيد بن مسلط إلى الشريف محمد بن عون رسالة يوضح له فيها الصلح الذي تم، ويستفسر عن مدى صحة نقض العهد. وقد جاء فيها:
 
"من سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل إلى الجناب العالي، والمآب الغالي، فرع الشجرة الزكية، الشريف المحترم المكرم الهمام محمد بن عون سلّمه الله وعافاه آمين.. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، لا يخفاك وصول محمد بن مرزوق وربعه من عندكم، ورأينا أن نعجل بأجوبات خطوطكم مع الولد أحمد بن فضيل على أن الصلح تم...، فإن كان الصلح استتم على مظمون (مضمون) ما راح عليه الربع فعرفونا، وإن كنتم خالفتم عنه فعرفونا، والنقا بقا.. كذلك شاع في بلادنا خطوط من الأشراف الشنابرة، وكذلك الوزير جمعة إلى ناس لا يدفعون ولا ينفعون... وأظهروا أن الجنود والجرود مقبلة، تهامة وسراة، وأن هذا الصلح خديعة منكم ومن الباشا"  
 
من الرسالة السابقة نستطيع أن ندرك أن زعماء عسير كانوا مستعدين لأي ظرف طارئ، وكما أنهم يفضلون السلم، فإنهم أيضًا لا يأبهون بالحرب، وهذا حال العربي في حروبه فإنه لا يحب الخيانة أو الضرب من الخلف، كما أن زعماء عسير ركزوا على ضرورة معرفة ما إذا كان الصلح مستمرًا أم لا، وهل ذلك الصلح خدعة كما يشيع بين الناس، فالحرب لا تخيفهم كما يؤكدون في أكثر من موقف.
 
لم تكن إشاعة نقض الصلح إلا صدى لرسالة محمد علي باشا إلى محافظة جدة التي تحمل في طياتها عدم رضاه بما حدث في عسير من هزيمة أعقبها صلح، واستعداد لمواصلة القتال، وتأديب زعماء عسير ورجالها.
 
قويت شوكة أمراء عسير، وذاع صيتهم، وقد أدى هذا إلى أن بعض قبائل الشريف علي بن حيدر أمير أبو عريش طلبوا من زعماء عسير النجدة ضد يام الذين استنجد بهم، فأبدى زعماء عسير رغبتهم في التوسط بين الشريف علي وتلك القبائل التي طلبت النجدة منهم  
 
لقد اتفق الزعيمان العسيريان على أن يخرج الأمير سعيد بن مسلط في قوة كبيرة تجاه أبو عريش لحل ذلك الإشكال، لكن يقال: إن الهدف هو الاستيلاء على أبو عريش، حيث سبق أن طلب زعماء عسير أبو عريش لحكمها، إلا أن أحمد باشا رفض طلبهم ذلك، وهذا ما يؤكده أحمد باشا إذ يقول في رسالة لوالده محمد علي: "سبق أن طلب أبو عريش من ولدكم الباشا، وكان ولدكم الباشا قد رد هذا الطلب قائلاً: إن مولانا هو الذي أعطى أبا عريش للشريف علي بن حيدر"  
 
أدرك زعماء عسير أنهم إذا أقدموا على هذا التصرف دون علم أحمد باشا فإن السلبيات ستفوق الإيجابيات؛ لذا قرروا إرسال اثنين من رجالهم إلى أحمد باشا (محافظ الحجاز) يخبرونه بنواياهم الكامنة في رغبتهم في إرسال رجالهم إلى الشريف علي بن حيدر، إلا أن أحمد باشا "قال للرجلين اللذين حضرا: ليس لعلي وأخيه سعيد أن يقوما بهذا العمل غير المناسب، ثم حررت الورقة اللازمة المحتوية على الأمر بمنع إرسال سعيد إلى تلك الجهة"  
 
هدأت الأمور في عسير، وتلاشت الحملات العسكرية ضدها إلى أن توفي أميرها سعيد بن مسلط في شهر صفر 1242هـ / 1826م، بعد حكم دام قرابة ثلاثة أعوام وتسعة أشهر، وكان يساعده ويشد من أزره ابن عمه علي بن مجثل الذي تولى إمارة عسير بعد سعيد بإجماع قبائل عسير كلها  ،  وكانت فترة حكم سعيد تعد من الفترات المتميزة في تاريخ عسير؛ لما كان يتمتع به من الدين والورع والتقوى 
 
قرر علي بن مجثل أن تبقى إمارته مرهوبة الجانب، وهذا ما دفعه إلى التدخل في إمارة أبو عريش، إذ أرسل قواته لنجدة أهالي صبيا من ظلم حاكم أبو عريش الذي سلم بالأمر الواقع، وعقد صلحًا مع أمير عسير، تنازل بموجبه عن صبيا ومخلافها، واستأذن منه في إعطائه مهلة حتى شهر رجب 1242هـ / 1826م ببقاء بعض رجاله في قلعة رحبان  ،  ليستشير مرجعه في الحجاز أحمد باشا في الصلح، ولكن في حقيقة الأمر أرسل إلى أحمد باشا يطلب منه النجدة ضد أمير عسير، وفعلاً أرسل له قوات كبيرة مسلحة عن طريق ميناء جازان والقنفذة  ،  وقد تقوى علي بن حيدر بتلك القوات فتقدم ناحية ضمد وأدّب بعض الموالين لأمير عسير، ما دفع الأخير أن يسير بقواته إلى صبيا، التي حاصر حاميتها حتى استسلمت وعين حامية من قبله وعاد إلى عسير  
 
عدَّ أحمد باشا ما قام به أمير عسير إهانة له وتحديًا لقواته، فأرسل حملة مزودة بالمدافع تمكنت - بمساندة الشريف علي بن حيدر - من ضرب القلعة ما أدى إلى استسلام الحامية العسيرية فعين الشريف علي حامية ثانية له وعاد إلى أبو عريش.
 
لم ينس الأمير العسيري ما قام به أحمد باشا والشريف علي بن حيدر، فبدأ في إعداد جيشه بشكل قوي، وفي عام 1243هـ / 1827م سار تجاه أبو عريش، وعلم الشريف علي بن حيدر بذلك فخرج بقواته لمجابهة أمير عسير وقبل اصطدام القوتين "سعى بعض رؤساء الطرفين سعيًا جاهدًا للصلح، حيث عقدوا صلحًا تنازل بموجبه أمير أبي عريش علي بن حيدر عن صبيا ومخلافها لأمير عسير، شريطة أن يكف الأخير عن حصار أبو عريش"  
 
لقد حاول محمد علي الرد على تحدي ابن مجثل له وكبح أطماعه في المخلاف السليماني، إلا أن الظروف لم تسمح له بذلك، فقد ثار الأشراف في الحجاز ضده، وتزعم تلك الثورة الشريف يحيى بن سرور الذي أعلن العصيان  ،  ثم تبعه الشريف عبدالمطلب الذي لجأ مع بعض الأشراف الآخرين إلى أمير عسير  ،  حيث أجارهم، ورحب بهم غير مكترث بتهديدات محمد علي له  . 
 
استغل أمير عسير أوضاع قوات محمد علي في الحجاز فسار بقواته إلى تهامة اليمن، واستولى على بلاد المخلاف السليماني حتى صليل، وحاصر قلعة الكلفود المسماة (ودعان) حتى استسلم أهلها، واستولى على كثير من الأموال والأسلحة، وأمّن أهلها، وعين حامية من قبله، ثم عاد إلى عسير  
قرر محمد علي أن يرسل قوة عسكرية لتأديب أهل عسير حتى لا يظهر بمظهر الضعيف أمام حليفه الشريف علي بن حيدر أمير أبو عريش ضد هجمات أمير عسير  ،  إلا أن خطته هذه باءت بالفشل نتيجة للحركة التي تزعمها تركجة بيلمز وزنار آغا ضد خورشيد باشا محافظ مكة المكرمة  ،  إلا أن محمد علي أرسل قوة دفعت تركجة ورجاله إلى الاستيلاء على عدد من البواخر الحربية أبحروا بها إلى السواحل اليمنية، وهناك التقى تركجة مع أمير عسير ووحدوا جهودهم ضد عدوهم المشترك محمد علي باشا، وتم الاتفاق عام 1248هـ / 1832م على شروط كلها لمصلحة أمير عسير ومن أهمها:
 
 دخول تركجة بيلمز ومن معه تحت طاعة أمير عسير.
 
 الانضمام مع الجيش العسيري لمحاصرة أبو عريش.
 
 الاستيلاء على المدن اليمنية باسم أمير عسير بما فيها الحديدة وزبيد والمخا.
 
 تزويد تركجة بيلمز ومن معه بالمال والسلاح  . 
 
تقوى مركز أمير عسير بانضمام تركجة بيلمز ورجاله إليه، وكان هذا دافعًا قويًا للسيطرة على أبو عريش نفسها فبدأ في حصارها، فصالحه أميرها الشريف علي بن حيدر على شروط أقرب ما تكون إلى الاستسلام والتبعية، حيث يصبح من حق أمير عسير وضع حامية عسكرية في قلعتها المسماة (دار النصر)، مع تعهد أمير أبو عريش بترحيل الجنود الأتراك إلى الحجاز، وتعيين الشريف علي بن حيدر نائبًا لأمير عسير في أبو عريش، وعلى الرغم من ذلك فإن أمير عسير استولى على البلاد استيلاءً كليًا دون تعيين الشريف علي نائبًا له في أبو عريش  .  لقد تغلبت المصالح على الشروط في علاقة أمير عسير بتركجة بيلمز، حيث إن الأخير قد شعر في نفسه بالقوة خصوصًا بعد الاستيلاء على الحديدة والمخا وزبيد، فتنكر لأمير عسير واستقل بحكم تلك المناطق، وظلم أهلها، فاستنجدوا بأمير عسير، فأعد قوة عسكرية، اتجهت صوب زبيد واستولت عليها، ثم زحفت نحو المخا فأخذوها عنوة من الأتراك وغنموا أموالاً لا تحصى  ،  وفرَّ تركجة بيلمز ناحية سفينة بريطانية ولجأ إليها  
 
أما الأمير علي بن مجثل فقد اتجه ناحية الحديدة، وكانت بها حامية تابعة لتركجة بيلمز "فاشتبكوا مع الحامية، وأخيرًا استسلمت صلحًا، وارتحلت بحرًا، فدخل أمير عسير الحديدة، ورتب معاقلها، وباشر إدارتها، ونصب أميرًا من قبله على الحديدة وزبيد والمخا هو محمد بن مفرح، كما نصب على الجهات المجاورة للحديدة عمالاً من رجاله، وأبقى مع محمد بن مفرح أربعمئة مقاتل من جنده"  
 
لم يكن اهتمام الأمير علي بن مجثل، خصوصًا في أواخر عهده، منصبًّا فقط على المخلاف السليماني، لكنه كان يتابع تحركات الإمام تركي بن عبدالله ضد قوات محمد علي في نجد؛ لذا عندما طرح الإمام تركي بن عبدالله في رسالة إلى علي بن مجثل خطة لضرب الأتراك في كل من نجد وعسير وافق عليها  ،  فأعد الأمير علي حملة لمساندة الإمام تركي في حربه ضد الأتراك، ولكن الأمير علي مرض قبيل وفاته عام 1249هـ / 1833م  ،  فطلب من خليفته الأمير عائض بن مرعي إرسال تلك الحملة، وفي تلك السنة اغتيل الإمام تركي بن عبدالله على يد ابن أخته الأمير مشاري بن عبدالرحمن بن مشاري آل سعود  
 
وبوفاة أمير عسير علي بن مجثل تنتهي فترة تاريخية مليئة بالأحداث السياسية والتطورات العسكرية على مستوى الجزيرة العربية بشكل عام، وعلى مستوى منطقة عسير والمخلاف السليماني بشكل خاص، لتبدأ فترة متميزة بالاستقرار والتوسع في عهد الأمير عائض بن مرعي.
 
شارك المقالة:
102 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook