العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

العصور الحجرية في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
لا شك أن الموقع الجغرافي الذي تمتاز به منطقة الباحة  ،  كونها تشتمل على مظاهر طبوغرافية متعددة، ومنها: السهول الساحلية، والمناطق الجبلية، والسهول الشرقية التي تتخللها الواحات والأودية والتلال والحرات  ،  قد وفر لها خصائص متميزة جعلتها ملائمة للاستيطان البشري منذ فترات زمنية موغلة في القدم، وعلاوة على التنوع الطبيعي والبيئي، فإن الظروف المناخية التي سادت المنطقة في عصر ما قبل التاريخ وتمثلت في نـزول كميات غزيرة من الأمطار، ووجود غطاء نباتي كثيف، أدت إلى وجود أنواع مختلفة من الحيوانات البرية، كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على إيجاد بيئات ملائمة لطبيعة معيشة الجماعات البشرية واستقرارها في المنطقة بصورة عامة  
 
وبحكم طبيعة نمط معيشة الجماعات البشرية في عصر ما قبل التاريخ - ذلك النمط الذي يغلب عليه التنقل المتواصل، واستغلال الموارد الطبيعية المتوافرة في بيئاتهم، وتتبع أمكنة تساقط الأمطار، وقطعان الحيوانات البرية - فقد جعلت طبيعة المعيشة مناطق تجوال هذه الجماعات أوسع، ولهذا فمن المرجح أن المنطقة الجغرافية الممتدة من جنوب الطائف وتهامة الباحة، وعسير، ومرتفعات السروات، ونجودها الشرقية، وصولاً إلى مناطق الأودية الشرقية ببيشة وتثليث ونجران، ووادي الدواسر كانت تشكل مسرحًا لنشاط متواصل للجماعات البشرية التي كانت تبحث بصورة مستمرة عمّا يسد حاجاتها ويؤمن لها حياتها، ويلبي متطلباتها، ولو بقدر يسير، وذلك من خلال اعتمادها على الصيد، وجمع قُوتِها من الموارد الطبيعية المتاحة، في ظروف بيئية قاسية. وقد استخدمت تلك الجماعات الأدوات الحجرية المتعددة الأغراض في تحقيق غاياتها  .  وهناك دلالات تشير إلى مرحلة الصيد المبكر في هذه المنطقة، إذ عثر في المنطقة التابعة لمحافظة العقيق على فخ أو مرصد للصيد يُعتقد أنه يرجع في تاريخه إلى مرحلة الصيد المبكرة  
 
أ - العصر الحجري القديم:
 
يمثل العصر الحجري القديم أقدم الفترات الحضارية التي عرفتها الجماعات البشرية حسب ما دلت على ذلك البقايا الأثرية التي وجدت خارج نطاق الجزيرة العربية  .  ومن أبرز حضارات هذا العصر حضارة العصر الحجري القديم الأسفل وتمثلها الحضارة الألدوانية والحضارة الآشولية، وحضارة العصر الحجري القديم الأوسط المعروفة بـ "الموستيرية"، وحضارة العصر الحجري القديم الأعلى  .  غير أن المسوحات الأثرية لا تقدم لنا معلومات وافية عن النشاط الإنساني، والاستقرار البشري في هذه المنطقة خلال هذا العصر، ولهذا فمن الصعب إعطاء صورة واضحة عن النشاط البشري في المنطقة مدار البحث بسبب غياب الأدلة الأثرية، وربما يعزى السبب الرئيس في غياب الشواهد الأثرية إلى الظروف المناخية التي دمرت آثار النشاط السكاني في المنطقة، علاوة على أن برنامج المسح الأثري في منطقة الباحة لم يشمل جميع أجزائها  ،  على الرغم من أنه عثر في منطقة العقيق على كهف يعتقد أنه كان يستخدمه الصيادون، ويؤرخ له بأواخر العصر الحجري القديم  
 
ونظرًا لقلة المسوح الأثرية في منطقة الباحة عدا عن القيام بالحفريات الأثرية التي يمكن من خلالها معرفة التطور التاريخي للمنطقة في المراحل المبكرة من استيطان الإنسان فيها؛ إلا أنه يمكن تصور ذلك التطور التاريخي من خلال ما كُشف عنه من آثار المناطق المجاورة لها، وأهمية موقع منطقة الباحة الجغرافي بين تلك المناطق، وقربها من منطقة مكة المكرمة التي أثبتت الدراسات الأثرية قدم استيطان الإنسان بها، لذلك ينظر إلى منطقة الباحة في إطار السياق التاريخي لهذه المناطق ذات الطبيعة المتشابهة.
 
وقد وجدت دلالات أثرية واضحة وكثيفة في المنطقة الجغرافية التي تعد الباحة أحد أبعادها الجغرافية، وهي تشير إلى أن الاستقرار البشري في هذه المنطقة موغلٌ في القدم. ومن أبرز هذه الدلالات وجود عشرات المواقع الأثرية المنتشرة في بيئات مختلفة من المنطقة الجنوبية والغربية من المملكة العربية السعودية، حيث كشفت المسوحات الأثرية التي تمت في منطقة عسير عن وجود موقع ينتمي إلى فترة تسبق العصر الآشولي، ويوجد هذا الموقع على ضفاف وادي تثليث، حيث يحتوي الموقع على مجموعة من الأدوات تضم بعض المكاشط والرقائق والقطع المدببة التي لا تتوافق مع خصائص الأدوات الآشولية المعروفة  
 
وعثر - أيضًا - في شعيب دحضة بمنطقة نجران على موقع يعود إلى الفترة نفسها، فقد وجدت مجموعة من الأدوات المصنوعة من حجر البلور الصخري، وقد بدا بعضها وكأنه منتزع منه رقيقتان أو ثلاث، في حين بعضها الآخر يتكون من رقائق خام  .  ونظرًا إلى اختلاف نمط الأدوات التي وجدت في هذين الموقعين من المنطقة الجنوبية الغربية عن أدوات الحضارة الآشولية، والحضارة الألدوانية فمن المحتمل أنها تمثل مرحلة انتقالية بين الحضارتين.
 
أمَّا أدوات الحضارة الآشولية فقد وجدت بشكل واضح جليّ، في مواقع مختلفة من المنطقة الجنوبية الغربية   إذ تمّ العثور في منطقة عسير على عدد من المواقع التي تحتوي على أدوات من العصر الآشولي، وتتمثل في: الأدوات ثنائية الوجه، وثلاثية السطوح مستدقة الطرف (الرمحية)، إلى جانب الأدوات المستديرة، والسواطير، والسكاكين، والقواطع، والفؤوس اليدوية، والنوى الحجرية. ومن أبرز المواقع التي تعود إلى فترة العصر الآشولي: في عسير ظهران الجنوب، ووادي تثليث، وخميس مشيط، وفي مرتفعات عسير، وفي جنوب البرك وشمال الشقيق  .  ووجدت في منطقة نجران مواقع تنتمي إلى العصر الآشولي في كل من: الربع الخالي، وفي منطقة آبار حمى  .  كما يعد ساحل البحر الأحمر في جازان من أفضل المواقع التي تعطينا معلومات حول حضارة العصر الآشولي خصوصًا في شرق أبي عريش  
 
وتعد منطقة مكة من أبرز المناطق التي تحتوي على مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأسفل، حيث أظهرت المسوحات الأثرية التي تمت في هذه المنطقة عددًا كبيرًا من المواقع الأثرية التي ترجع إلى فترات حضارة العصر الآشولي، وقد تركزت غالبية هذه المواقع في ثلاث مناطق جغرافية، هي:
 
 السفوح الجبلية قرب مصب وادي فاطمة.
 
 المنطقة الجبلية المطلَّة على بحرة.
 
 مدينة جدة وما حولها  . 
 
كما وجدت أدوات حجرية  تنتمي إلى الحضارة الآشولية بالقرب من الليث فوق مصاطب مرتفعة بالقرب من ساحل البحر الأحمر  
 
وانتشرت في المناطق السابقة حضارة العصر الحجري القديم الأوسط (الموستيري) فوجدت في منطقة آبار حمى بمنطقة نجران  ،  وفي ظهران الجنوب بمنطقة عسير  ،  وفي وادي فاطمة، وحول جدة بمنطقة مكة المكرمة  
 
وبالنظر إلى انتشار حضارات العصر الحجري القديم في المناطق التي تتصل جغرافيًا بمنطقة الباحة، أو في المناطق القريبة منها، فإن في ذلك دلالة على أن منطقة الباحة لم تكن بمعزل عن هذه المناطق فيما يتعلق بالملامح الحضارية للعصر الحجري القديم الأسفل، والعصر الحجري القديم الأوسط، وإن كان لم يمثل حضارات هذه الفترة في منطقة الباحة سوى نـزر يسير من المواد التي تجعلنا نطمئن إلى وجود نشاط إنساني فيها شأنها في ذلك شأن بقية المناطق التي تشكل معها منطقة جغرافية واحدة. 
 
ب - العصر الحجري الحديث:
 
تمثل مظاهر حضارة العصر الحجري الحديث ثورة في مجال النشاط الإنساني، وقد ظهر ذلك في تحقيق عدد من التطورات التي لم تقتصر على تطور الصناعات الحجرية بل رافق ذلك ظهور عدد من المؤشرات الحضارية، ومنها: ظهور المنشآت المعمارية، واستئناس الحيوانات، كما تحول الإنسان بصورة تدريجية من حياة الصيد وجمع الطعام إلى حياة الاستقرار والزراعة والرعي، وأصبح الإنسان منتجًا للغذاء ولم يعد عالة على بيئته كما كان الأمر في الماضي، يضاف إلى ذلك نضوج حسه الفني  .  وتعد هذه التطورات هي الخطوات الأولى التي نتج منها تشكل المجتمعات، وبداية الإنتاج الزراعي والرعوي، وظهور الحرف، وقيام التنظيمات السياسية والاقتصادية. وقد برزت مظاهر حضارة هذا العصر في جنوب غرب المملكة بصورة متميزة، وانتشرت بشكل أوسع من مظاهر الحضارات السابقة  
 
وقد امتازت الصناعات الحجرية في هذا العصر بعدد من الميزات لعل من أبرزها: دقتها واختلاف وظائفها وتنوع أشكالها، وقد ظهر عدد من المواقع التي وضحت فيها ملامح حضارة العصر الحجري الحديث بالنسبة إلى جنوب غرب المملكة العربية السعودية، ومنها وجود المنشآت العمرانية في منطقة بئر حمى شمال نجران  ،  وفي الحافة الغربية من الربع الخالي عثر على بعض الملتقطات السطحية  ،  وفي تثليث وجدت آثار استيطان على نطاق واسع. فقد عثر على عدد من المواقع التي تحتوي على أدوات حجرية تنتمي إلى هذه الحقبة الزمنية؛ وفي موقع العسران بمحافظة سراة عبيدة بمنطقة عسير عثر على آثار لمستوطنات وهي مجموعة من القرى أو المنشآت التي تربو على أكثر من 30 منشأة دائرية، بعضها بسيط في تركيبه، في حين بعضها الآخر يعكس تركيبًا معقدًا  .  وتنتشر المنشآت الحجرية المختلفة في جميع أنحاء جنوب غرب المملكة العربية السعودية، وبخاصة في المناطق القريبة من الباحة، مثل: بلقرن، وبيشة، والنماص  
 
إن انتشار أدوات العصر الحجري الحديث في المنطقة الجنوبية الغربية، وبخاصة في المنطقة القريبة من منطقة الباحة تجعلنا نفترض أنها كانت مسرحًا لحضارة العصر الحجري الحديث التي طال أمدها في الجزيرة العربية، ثم شهدت المنطقة بشكل عام تحولات حضارية تاريخية يصعب علينا تحديدها ولا تتعدى معرفتنا لهذه الفترة منتصف الألف الثاني قبل الميلاد  
 
شارك المقالة:
50 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook