العصور القديمة في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العصور القديمة في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية

العصور القديمة في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية.

 
إن الموقع الجغرافي لمنطقة تبوك قد أهلها لأن تؤدي دورًا كبيرًا على مسرح الأحداث التاريخية أثناء فترة الألف الأولى قبل الميلاد؛ وذلك لأنها تقع على أهم الطرق التجارية البرية القديمة الممتدة من جنوبي الجزيرة العربية إلى سوريا ومصر والعراق، وتتحكم في منافذها، فقد كانت منطقة تبوك وما زالت بوابة الجزيرة العربية إلى مناطق حضارات الشرق الأدنى القديم في الشمال، فبوساطة هذه الطرق وعن طريق هذه البوابة، كانت تنقل عبر هذه المنطقة أهم السلع التجارية في العالم القديم ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة، وهي تجارة البخور والتوابل التي كانت تلقى رواجًا كبيرًا في أسواق حضارات وادي النيل، وبلاد الشام، والرافدين، وكذلك بلاد اليونان والرومان، حيث استخدمت المواد العطرية في هذه الدول المتحضرة في أغراض كثيرة، مثل: الأدوية، والعقاقير، وتحنيط الموتى، وكان حرق البخور جزءًا من الطقوس الدينية، فكان يحرق في المناسبات المختلفة، مثل: الأفراح والأعياد، وفي المنازل والقصور، وفي المعابد والمآتم ومراسم الجنائز.
 
وبالإضافة إلى ما تنتجه بلاد العرب الجنوبية من هذه المواد، فقد كان يَرِد إليها ما تنتجه الهند من البخور والتوابل أيضًا، وما يتجمع في أسواقها من بضائع الصين وشرق إفريقية من الحرير والعاج، وريش النعام، وجلود النمور. كل هذه البضائع كانت تتكدس في يد العرب، وكانوا ينقلونها إلى أسواق العالم القديم، في مصر وسوريا والعراق، على ظهور الجمال، في قوافل كبيرة قد تزيد القافلة على ألفي جمل، يصاحبها عدد كبير من الجَمَّالين والأدلاء والحراس والخدم  ،  عبر الطرق البرية الممتدة من جنوبي الجزيرة العربية إلى شماليها؛ حيث تجد طريقها عبر بوابة منطقة تبوك إلى مراكز الحضارات القديمة في مصر وما يليها، من بلاد اليونان والرومان، وإلى سوريا والعراق وبلاد فارس. وقد نشأت على طول طرق التجارة البرية التي تسلكها القوافل في ذهابها وإيابها مراكز تجارية ومحطات تستريح فيها القافلة من عناء السفر، وتتزود منها بالمؤن من ماء وغذاء، وعادة ما يكون هناك تبادل للسلع وبيع وشراء؛ ما يعني قيام حركة تجارية ونشاط اقتصادي واسع في هذه المراكز والمحطات، خصوصًا الواحات الغنية بالمياه والمنتوجات الزراعية؛ ما أدى إلى ازدهار عدد من المدن والقرى الواقعة على هذه الطرق، وساعد على قيام مراكز حضارية وسياسية كبيرة لا تقل عن مثيلاتها في مناطق الشرق الأدنى القديم. وقد اشتملت منطقة تبوك على شبكة كبيرة من هذه الطرق التجارية، وازدهر فيها عدد من القرى والمدن والمراكز الحضارية.
 
ومن خلال ما تركه سكان هذه القرى والمدن من آثار يمكن معرفة بعض جوانب التاريخ القديم للمنطقة، فالآثار المادية الباقية والنقوش العربية القديمة، تعدان، كما هو معروف، من أهم مصادر تاريخ الجزيرة العربية القديم. وتزخر منطقة تبوك بعدد من المواقع الأثرية القديمة  ،  مثل: تيماء وقريَّة والبدع، فضلاً عن مواقع أخرى لا تشتمل على بقايا عمرانية، ولكنها تزخر بالكتابات العربية القديمة المسجلة على الحجارة والواجهات الصخرية، غير أن هذه الكتابات المكتشفة تخلو من ذكر اسم مدينة تبوك، المركز الإداري للمنطقة حاليًا  .  وقد حاول بعض الكتّاب الربط بينها وبين الاسم تباوا (Thapaua) الوارد في جغرافية بطليموس  ،  غير أن هذا الاحتمال ضعيف جدًا وليس هناك ما يؤيده، والحقيقة أن اسم تبوك لم يبرز إلى التاريخ إلا إثر غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة والمشار إليها في القرآن الكريم باسم ساعة العسرة  .  وعندما أشار إليها الرحالة الأوروبيون وأولهم الفنلندي جورج أوغست والين في عام 1264هـ / 1848م، عندما كانت تبوك قرية صغيرة، لا يزيد سكانها على ستين بيتًا، في حين يقول الإنجليزي تشارلز داوتي الذي مر بها عام 1293هـ / 1876م: إن بها أربعين أسرة تسكن حول القلعة  ،  وربما تناقص هذا العدد فيما بعد بسبب سوء الأحوال الأمنية، إن لم تكن قد هجرت القرية كليًا إلا من حراس القلعة، حسبما ذكر فيلبي نقلاً عن الفرنسي تشارلز هوبر الذي زار تبوك بعد مضي سبع سنوات من زيارة داوتي. وفي عام 1328هـ / 1910م وبعد مد سكة حديد الحجاز الذي يمر بتبوك، قدر كاروثرز سكانها بنحو 200 نسمة  .  وكانت هذه القلعة قد بنيت على طريق الحج الشامي في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني عام 967هـ / 1559م، ثم جددت في عهد السلطان محمد الرابع سنة 1064هـ / 1653م، وذلك حسب النص المدون على باب القلعة  
 
وبهذا يتضح أن مدينة تبوك لم تكن سوى قرية صغيرة قبل توحيد المملكة العربية السعودية، مع أنها كانت مستوطنة قديمة فيما يبدو؛ لوجود العين المعروفة عند أهل تبوك بعين السكر، وهي التي دار حولها ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله للرجلين اللذين أدخلا فيها سهمين ليكثر ماؤها: "ما زلتما تبوكان منذ اليوم"، أي تحركانها. وقيل: إنه من هذه اللفظة تبوكان جاء اسم تبوك  
 
لا يوجد في تبوك المدينة أي آثار ظاهرة تدل على قيام استيطان بشري قديم في موضعها الحالي سوى العين،  مع أنه لا بد أنها كانت جزءًا من مملكة الأنباط، غير أن المدينة الرئيسة في تلك الناحية، فيما يبدو أثناء تلك الفترة، كانت تقع على بعد 75كم شمال غرب مدينة تبوك الحديثة، في الموقع المسمى حاليًا قريَّة التي ربما تكون هي المذكورة في جغرافية بطليموس باسم تباوا. وبذلك فإن تاريخ مدينة تبوك القديم يظل مجهولاً، وكل ما يعرف من تاريخها القديم يرجع إلى فترة متأخرة وهي المعروفة بالفترة البيزنطية؛ حيث كانت تبوك في هذه الفترة القريبة من ظهور الإسلام جزءًا من ديار قبائل بني كلب وعاملة ولخم وجذام، وكان فيها للبيزنطيين مركز عسكري متقدم  ،  وربما كان مقر هذا المركز في قُصيّر تمرة الواقع على بعد بضعة كيلومترات جنوبي تبوك  ،  وهذا ما يؤكد أنها كانت تقع خلال هذه الفترة التاريخية تحت النفوذ البيزنطي.
 
هذا فيما يتعلق بتاريخ تبوك المدينة في العصور القديمة، لكن فيما يتعلق بتاريخ منطقة تبوك كلها فالأمر يختلف كليًا، فكما ذكرت أعلاه أن هذه المنطقة قد أدت دورًا تاريخيًا بارزًا خلال فترة الألف الأولى قبل الميلاد أو ما اصطلح عليه مؤخرًا بفترة الممالك العربية.
 
ونعرض هنا تاريخ هذه المنطقة في عصورها القديمة بدءًا من عصور ما قبل التاريخ حتى ظهور الإسلام، فالثابت تاريخيًا أن منطقة تبوك استوطنت منذ العصور الحجرية، وذلك من واقع الأبحاث الأثرية التي كشفت عن عدد من المواقع تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، مثل: قريَّة، ووادي الأخضر، وجبل اللوز،  وتيماء، وغيرها، حيث اعتمد الإنسان خلال هذه العصور على الأدوات الحجرية البسيطة في حياته اليومية للدفاع عن نفسه، وفي صيد الحيوانات للحصول على قوته اليومي... وما إلى ذلك. ومما لا شك فيه أن منطقة تبوك كانت مسرحًا لأنشطة بشرية خلال عصور ما قبل التاريخ، كما تشير إلى ذلك تقارير المسوحات الأثرية التي كشفت عن عدد من المواقع تعود إلى مختلف العصور الحجرية  
 
وخلال فترة الألف الثاني قبل الميلاد، تعرضت المنطقة - فيما يبدو - إلى بعض التطور الملموس الذي تقتضيه فترة التطور التاريخي؛ حيث قامت تجمعات سكنية، وبرزت إلى مسرح التاريخ مدن وقرى، مثل: مدين، وقريَّة، وتيماء، زاولت أنشطة اقتصادية متنوعة من رعي، وزراعة، وتجارة، ونحوها، وقد أدت مدين وقريَّة خلال هذه الفترة دورًا بارزًا في الأحداث التاريخية، وتحدثت التوراة عن مدين وسكانها، فورد في سفر التكوين أن مديان هو أحد أبناء إبراهيم عليه السلام من زوجته قطورة الكنعانية، وأن أولاد مديان هم: عيفة، عفر، حنوك، ابيداع، ألدعه  
 
وجاء في التوراة أن تجارًا مدينيين هم الذين أخرجوا يوسف عليه السلام من البئر وباعوه في مصر  .  كما تحدثت التوراة في سفر الخروج عن فرار موسى عليه السلام من فرعون، وأنه نـزل أرض مدين، وجلس عند البئر، وأنجد بنتي كاهن مدين رعوئيل من ظلم الرعاة، واستقى لهما، وسقى الغنم، فزوجه أبوهما ابنته صفورة. ويلاحظ أن التوراة أطلقت اسم رعوئيل على والد البنتين، ثم ذكرته باسم يثرون، وكان ذلك في نحو القرن الثالث قبل الميلاد. كما تحدثت التوراة في مواضع أخرى من أسفارها عن الحروب والصراعات العسكرية التي دارت بين بني إسرائيل وأهل مدين وملوكها  
 
وما ورد في التوراة يوضح جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاشتها مدين خلال فترة الألف الثانية قبل الميلاد. والقرآن الكريم، وهو كتابٌ لا يأتيه الباطل أبدًا، لأنه قول الحق تبارك وتعالى، ورد في كثير من آياته عددٌ من المدن والأمم، وما وصلت إليه من رقي وحضارة مادية، ورغد في العيش، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا ليُعجزوا الله عندما كذبوا رسلهم وأنبياءهم. فها هم قوم عاد، ومدينتهم إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد. وها هي مدينة الحجر التي عاش أهلها في جنات وعيون، وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيم، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين، وغير هؤلاء ممن عاشوا في نعيم، وأهلكهم الله بذنوبهم. ويلاحظ أن مدين وسكانها، ورد ذكرها في القرآن الكريم، ومن ذلك أن الله - جل وعلا - أرسل إليهم رجلاً منهم، وهو النبي شعيب عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، والالتزام بالأمانة في المكيالِ والميزانِ، ولما لم يستجيبوا لدعوته عاقبهم الله بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كما أخبر الله - عز وجل - عن موسى عليه السلام أنه جاء إلى مدين، وأقام فيها سنين وصار له أهل منها. كل ذلك يدل على أن أهل مدين قد مارسوا التجارة في حياتهم الاقتصادية، كما زاولوا مهنة الرعي؛ ما أدى إلى زيادة كثافتهم السكانية؛  وهذا يدل على أنهم كانوا في رغدٍ من العيش.
 
أما دعوة شعيب عليه السلام لأصحاب الأيكة، ففيها اختلاف بين المفسرين، فمنهم مَنْ قال: إنهم أمة أخرى غير مدين  ثم إن العذاب الذي وقع على أهل مدين وهو الصيحة والرجفة، غير الذي وقع على أصحاب الأيكة، وهو عذاب يوم الظلة، ولكن مؤلف كتاب (أضواء البيان في توضيح القرآن بالقرآن)  وهذا الكلام ذكر الله تعالى عنه أنه قاله لأهل مدين. أما العذاب فهو واحد، فبعدما أظلتهم السحابة واجتمعوا تحت ظلها هربًا من الحر الشديد؛ أصيبوا بلهب ووهج، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة  .  وسواء كان أهل مدين وأهل الأيكة أمة واحدة أو أمتين، فإن أرض مدين المعروفة في منطقة تبوك اليوم تشتمل على عدد من المواقع التاريخية القديمة اكتشف في بعضها آثار تعود إلى فترة ما قبل الألف الأولى قبل الميلاد. ويعد الموقع المسمى قرية المدينة المندثرة شمال غرب تبوك،  أبرز هذه المواقع وأهمها، وليس من المستبعد أن تكون الأيكة هي الاسم القديم لهذا الموقع.
شارك المقالة:
70 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook