العلاقات مع المراكزالحضارية المجاورة بمنطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العلاقات مع المراكزالحضارية المجاورة بمنطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية

العلاقات مع المراكزالحضارية المجاورة بمنطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية.

 
إن علاقة العرب في شمالي الجزيرة العربية مع الآشوريين لم تكن حسنة بشكل عام حيث يهاجم العرب حدود المملكة الآشورية، فيرد هؤلاء بالهجوم العنيف. وتذكر السجلات أن الملك تجلات بلاسر (Tiglath - pileser)   745 - 727 ق.م قد أرغم إحدى ملكات العرب واسمها (زبيبي) تحريفًا عن (زبيبة) على دفع ضريبة. وقد هزم ملكة عربية أخرى تدعى (شمسي) تحريفًا عن (شمس)، وأرغمها على دفع ضريبة مماثلة وكانت من الإبل وكان ذلك في نحو 736 ق.م وكان مع (شمسي) حلف من قبائل كثيرة جميعهم حل عليهم غضب الملك، وجميعهم يسكنون في الأمكنة البعيدة، في الغرب، في البادية  .  وبحسب قراءة موزيل فإن موقع بدنة (Badana)  التي هي جزء من منطقة الحدود الشمالية كان من ضمن المواقع التي دفعت الضريبة، وذكر أنه موضع ورد في كتاب بلينوس وهو قريب من دومة الجندل، ومن ثمود، وهي المنطقة التي دفع أصحابها الضريبة إلى الآشوريين، فإن صحت القراءة فقد تكون بدنة الموضع المعروف حاليًا في منطقة الحدود الشمالية جزءًا من المسرح الذي دارت عليه تلك الأحداث  
 
ويستمر صراع الملكة شمسي مع الآشوريين في عهد الملك سرجون الثاني عام 715 ق.م، فتدفع له الضريبة من الذهب والأحجار الكريمة والخيل والإبل، وذلك عندما أخضعها الملك لسلطانه ومعها مجموعة من القبائل التي تقطن شمال غربي الجزيرة العربية  
 
ويستمر الصراع العربي - الآشوري في عهد الملك سنحاريب الذي هاجم الملكة العربية تلهونة (تلخونو) والأعراب التابعين لها، وحلفاءها من الملوك، وفتح أدوماتو (دومة الجندل) في عام 688 ق.م تقريبًا كما أرغم ابنه الملك أسرحدون الملك العربي (يثع القيداري) على دفع الجزية وعلى الفرار إلى الصحراء وذلك في عام 675 ق.م.
 
ثم بدأ نفوذ الإمبراطورية الآشورية بالانحسار بموت الملك آشور بانيبال (Ashurbanipal) في عام 627 ق.م وتتوالى سقوط المدن الآشورية بدءًا بآشور في عام 614 ق.م ثم نينوى في 612 ق.م وتراجع الجيش الآشوري إلى حران، وسجلت بذلك نهاية الإمبراطورية الآشورية ونهاية الصراع العربي الآشوري.
 
ثم سيطرت الإمبراطورية البابلية على معظم أراضي الإمبراطورية الآشورية بما فيها التخوم العربية الممتدة من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، بل إن الملك نبونيد (Nabonidus) البابلي 555 - 538 ق.م شن حملة على الأراضي العربية وتوغل فيها حيث فتح تيماء وقتل ملكها، ثم سار إلى دادان وخيبر ومواضع غيرها في جزيرة العرب، كما يرد ذكر ذلك في النقش الذي عثر عليه في حران  
 
أقام نبونيد (Nabonidus) في تيماء قرابة عشر سنوات، حيث ورد ذكر ذلك في نص مسماري يصف تيماء بأنها مقر الإقامة الريفي للملك. ويشير نص آخر إلى أنه في العام العاشر من حكم نبونيد (Nabonidus) كان يُنقل الطعام بالجمال من أور إلى قصر الملك الرئيس في تيماء، ونص آخر يشير إلى إرسال رجل ومعه جمل محمل بالقمح من بابل إلى تيماء، ويعتقد أن نبونيد أثناء إقامته في تيماء قد بنى قصر الحمراء، ثم بدأ ببناء سور المدينة  
 
ويؤكد إقامة الملك نبونيد (Nabonidus) النقش الذي عُثر عليه أخيرًا جنوب جبل غنيم   بنحو 25كم في منطقة المشمرخة وقد جاء فيه:
 
 أنا مَرْدان صديق نبونيد ملك بابل.
 
 أتيت مع قائد الجيش كي.
 
 يدخل (يبلغ) إلى فلس خلْف (لمطاردة، لملاحقة، لتعقب) أفراد بادية لَعَقْ  
 
إن تيماء مدينة مهمة من الناحية الاقتصادية لكونها مركزًا مهمًا على الطريق التجارية القديمة، ويشهد على مكانتها الحضارية منشآتها المهمة: وفي مقدمتها السور الذي يحيط بالمدينة القديمة ويصل طوله إلى نحو 10كم، كما يصل ارتفاعه في بعض الأحيان إلى عشرة أمتار، وقد بني من الحجر الطيني وبعض أجزائه من اللَّبِن، وكذلك يوجد قصر (الرضم) وقصر (الحمراء) الذي خصص جزء منه لممارسة الشعائر الدينية، بالإضافة إلى وظيفته السكنية. وتشتهر تيماء ببئرها (هداج)، وهي مطوية بالحجارة، وقد امتازت منذ القدم بوفرة مائها.
 
وعلى الرغم من أن هذه الأحداث تتعلق بمنطقة تبوك ومنطقة الجوف فإن منطقة الحدود الشمالية تبرز أهميتها بموقعها الجغرافي بين بلاد الرافدين مقر الحكم البابلي ومقر الملك الريفي في تيماء حيث كانت تصله المؤن والإمدادات عبر هذه المنطقة.
 
ومع أنه لا توجد أدلة مباشرة على الدور البابلي في منطقة الحدود الشمالية إلا أن النقوش الصفوية التي وجدت في المنطقة، ومنها النقش الموسوم برقم (ج ر غ 4أ) الذي عثر عليه بالقرب من بدنة، تذكر اسم (صلم) وهو معبود اشتهر في منطقة تيماء؛ حيث يذكر شخص اسمه عمرو بن أسد اسم المعبود في آخر نصه الذي سجله عندما وضع حجرًا على قبر لأحد أقربائه، ويقرأ النقش كما يأتي:
 
لعمرو بن أسد ووضع حجرًا على وجم يأمن وعلى فصئيل ذي آل صلم.
 
والوجم قد تعني الحزن الشديد، أو وضع حجارة على قبر، وهو المعنى الذي رجحه يوسف عبدالله لكونه يتلاءم وطبيعة النقوش الصفوية، كما قال باحتمال أن الصفويين هم قوم عاد أو بعضهم  
 
وقد ورد اسم المعبود صلم في مسلة تيماء المشهورة التي نقلها تشارلز هوبر إلى فرنسا والمعروضة في (متحف اللوفر) بباريس، ويشير النص إلى معبود جديد يقدس في تيماء هو صلم هجم وأقام له الكاهن معبدًا ويقرأ النقش كما يأتي:  . 
 
 xxx بسنة 22 xxx.
 
 قدموا في تيماء لصلم ذو محرم وشنجلأ.
 
 واشيمأ آلهة تيماء لصلم ذو.
 
 هجم لذلك سموه في هذا اليوم في تيماء.....
 
كما ورد ذكر صلم في النقش الذي عثر عليه في قصر الحمراء في تيماء، ويحوي عشرة سطور كتبت بالخط الآرامي، تعلوها رسوم لقرص مجنح ونجمة وقمر. ويقرأ النقش كما يأتي:  
 
 ..... مدينة تيماء.
 
 الصورة (أو الإله صلم) من بصجر شهرو، ابن.
 
 ملكي الخادم قد ضحى في منـزل.
 
 صلم الذي هو عظيم كابن سبيل فيها الآن.
 
 أقام هذا العرش أمام.
 
 صلم الذي هو عظيم مثل مقر شنجلا.
 
 وأشيما إلهي تيما.
 
 من أجل حياة روح بصج و.
 
 (؟) تذكاره وذريته فليحفظ الرب.
 
 .. من (؟) روحه.
 
إن ذكر المعبود صلم في النقوش السابقة قد يشير إلى وجود صلات بين تيماء ومنطقة الحدود الشمالية خلال فترة الاحتلال البابلي في تيماء، وقد ينهض حجة على قيام علاقات بين تيماء ومنطقة الحدود الشمالية خلال الفترة التي تلت خروج نبونيد من تيماء، خصوصًا أن تلك الفترة شهدت ظهور وانتشار عبادة صلم وانتشارها بوصفه معبود رشيس في تيماء والمناطق المجاورة لها. هذه الصلات يظهر أثرها جليًا في المعتقدات الدينية والتأثر بأحد الآلهة التي عبدت في تيماء في تلك الفترة وأقيم له معبد في تيماء ولعله كان في قصر الحمراء حيث وجدت النقوش التي تدل عليه.
 
انتهى الاحتلال البابلي في شمالي الجزيرة العربية في عام 543 ق.م عندما غادر نبونيد تيماء، حيث تمكن الفرس بقيادة الملك كورش (Cyrus the Great) من هزيمة البابليين في عام 539 ق.م   وأخذ الملك نبونيد (Nabonidus) أسيرًا بعد عودته إلى بابل التي ضمت إلى الإمبراطورية الفارسية.
 
وقبل الحديث عن الدور الفارسي لا بد لنا من أن نتحدث عن الأدوميين الذين عُرِفوا بالتجارة، وسيطروا على الطريق التجاري القديم القادم عبر الصحراء إلى غزة  .  ويبدو أن الأدوميين لم يشكلوا مملكة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كانت لهم سلسلة من المدن يحكم كل منها شيخ ويربط بين هذه المدن نظام أقرب إلى الحلف وكانت إقامتهم في منطقة شرقي الأردن  .  وقد آل حلف الأدوميين أو دولتهم إلى الزوال في القرن الثاني قبل الميلاد عندما استولى اليهود على أراضيهم على يد (يوحنا المكابي)  
 
ولا تتوافر معلومات عن الدور الفارسي في المنطقة أو العلاقات العربية الفارسية على وجه العموم في تلك الفترة، سوى ما ورد عن مشاركة بعض العرب من شمالي الجزيرة العربية في الغزو الفارسي لبابل، ثم تزويدهم فيما بعد جيش قمبيز (Cambyses) بالماء والرواحل، عندما غزا مصر واستولى عليها عام 525 ق.م 
 
ولقد ذكر الملك دارا الأول (Darius I) أنه أخضع أراضي العرب ضمن الأرضين التي ضمها إلى إمبراطوريته، كما أن هذا الإمبراطور قام بعمل عظيم تجلى في شق قناة تربط بين النيل والبحر الأحمر، وقد غيرت تلك القناة مسار التجارة العالمية، كما شن هجمات ضد الإغريق في آسيا وأوروبا، إلا أن الهزيمة لحقت بجيشه في عام 490 ق.م.
 
حاول خلفاء دارا الأول مواصلة الكفاح ضد الإغريق، وتوسيع حدود الإمبراطورية، إلا أنهم كانوا يتلقون الضربات الواحدة تلو الأخرى، إلى أن جاء الإسكندر الأكبر (Alexander the Great) وألحق سلسلة من الهزائم بجيوش داريوس الثالث (Darius III) بين عامي 334 و 331 ق.م حينما تمكن من إخضاع الإمبراطورية الفارسية إلى حكمه.
 
كان الإسكندر الأكبر أحد أعظم القادة العسكريين الذي عرفهم العالم، إذ استطاع في فترة وجيزة أن يخضع العالم المتحضر إلى حكمه في فترة حياته القصيرة التي بلغت نحو 33 عامًا 356 - 323 ق.م. وبوفاته قُسمت الإمبراطورية التي أنشأها بين قادته. ومن هؤلاء القادة الجنرال أنتيجنوس (Antigonus،382 - 301 ق.م) الذي كان ملكًا على مقدونيا وجزء كبير من آسيا الصغرى، وهاجم مصر وسورية، ومن ضمن جهوده محاولة السيطرة على بلاد العرب ومنها الجزء الشمالي.
 
ويصف لنا ديوديروس (Didorus) الحملة التي جهزها (أنتيجنوس) حينما أرسل أحد قواده (أثينوس) (Athenaeus) إلى بلاد العرب الذين يدعون الأنباط، وزوده بجيش قوامه 4000 جندي، و 600 فارس ليقمع (البربريين). وقد كان للأنباط موسم يلتقون فيه، يبتاعون ويشترون ويذرون أولادهم ونساءهم وممتلكاتهم إلى جوار صخرة. انتظر أثينوس هذا الموسم وهاجم الصخرة في منتصف الليل، وجمع البخور وأموالاً من الفضة ورحل، ثم أخلد مع جنده إلى الراحة وما لبث خصومه أن لحقوا بهم وهاجموا المخيم وقتلوا الجنود النائمين، وهرب نحو 50 من الخيالة، ففشلت الحملة.
 
قام أنتيجنوس بعد فشل هذه الحملة بتجهيز حملة أخرى بقيادة ابنه ديمتروس (Demetrius)، لكن الأنباط اكتشفوا الجيش المهاجم بالمراقبة التي عملوها تحسبًا لذلك، ولما وصل الجيش تفرقوا في الصحراء، وأرسلوا وفدًا لطلب الصلح، وزودوا ديمتروس بالهدايا التي تقبلها ثم رحل  
 
ولم يكن لليونان تأثير كبير في شمالي الجزيرة العربية، بخلاف الجزء الشرقي منها، فقد وجدت كتابات يونانية في جزيرة (فيلكا) التي كان بها حامية يونانية ومعبد. كذلك وجدت تأثيرات في (ثاج) في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، حيث وجد فخار يحمل الطابع الهلينيستي، ويتمثل في الفخار اليوناني الاتيكي ذي الطلاء الأسود  
 
تظهر الصورة التي رسمها ديودر عن الحملة اليونانية على شمالي الجزيرة شعبًا عربيًا يدعى الأنباط، ولأهمية الأثر الذي تركه الأنباط على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شمال غربي الجزيرة العربية، ولكونهم أقاموا دولة عربية مرهوبة الجانب لا تزال شواهدها الحضارية وآثارها المادية باقية حتى الوقت الحاضر، فإنه من المناسب إعطاء لمحة موجزة عن تأثير هذه الدولة على أوجه الحياة المختلفة في شمالي الجزيرة العربية.
 
إن الآثار الشاخصة الباقية في هذه المنطقة قليلة بشكل عام وينطبق الحال كذلك على الآثار النبطية بشكل خاص، إلا إذا عددنا آبار (لينة) في منطقة الحدود الشمالية منجزًا من منجزات الدولة النبطية لتشابه أسلوب الحفر والبناء مع ما وجد في أمكنة أخرى من الدولة النبطية، وكذلك إذا عددنا النقوش النبطية الكثيفة المنتشرة في منطقة شمال غربي الجزيرة شاهدًا على توسع النفوذ النبطي في المنطقة. ولا ريب أن الأنباط قد سيطروا على طريق التجارة الرئيس الذي يصل بين جنوبي الجزيرة وشماليها، وأنه قد وجد عدد من الدروب الفرعية والمحطات التي ترتبط بهذا الدرب وقد تكون بعض الأطلال التي وجدت في المنطقة محطات صغيرة ترتبط بهذا الطريق. ومن الدلائل المهمة على قوة التأثير النبطي في منطقة الدراسة ظهور اسم الإله الوثني (ذو الشرى) الذي كان المعبود الرئيس لدى الأنباط، في النقوش الصفوية المنتشرة في منطقة الحدود الشمالية، ما يعطي مؤشرًا على انتشار الثقافة الدينية النبطية في المنطقة، ومؤشرًا على النفوذ السياسي خصوصًا إذا عرف أن مملكة الأنباط كانت تقوم على طرق التجارة ومنطقة الحدود الشمالية تمر بها هذه الطرق.
 
ب - التأثير النبطي:
 
ظهر الأنباط على المسرح السياسي في شمالي الجزيرة العربية، بوصفهم قوة بسيطة في بادئ الأمر، لا تعدو كونها مجموعة من البدو تعيش في الصحراء، في بلاد ليس فيها أنهار ولا ينابيع وليس من عاداتهم الاشتغال بالزراعة ولا يشربون الخمر ولا يبنون البيوت، ومن يعمل ما يخالف ذلك تكون عقوبته الموت  
 
استقر الأنباط في (البتراء) ثم ما لبثوا أن أقاموا دولة قوية مرهوبة الجانب لها نظام ملكي، وتسيطر على الطرق التجارية المارة بأراضيها، وتحول المجتمع إلى مجتمع مستقر يميل إلى التملك، بل ويعاقب كلُّ من يُفرّط في ممتلكاته، ويكرم كل من يزيد في مدخراته، ويصف (سترابو) ملكهم بالعدل؛ حيث كان يقوم أحيانًا بخدمة الآخرين. كما كان الأنباط يبنون بيوتهم من الحجر ويتمتعون بالسلام ومدنهم غير محصنة بأسوار. هذه الصورة المختلفة للأنباط بعد تحضرهم واستقرارهم رسمها (سترابو) في معرض حديثه عنهم ووصفه لبلادهم  
تمكن العلماء من وضع قائمة بأسماء ملوك الأنباط، وتواريخ حكمهم، ومن أشهرهم (الحارث الرابع) الذي حكم في الفترة من 9 ق.م - 40م. وقد تميزت فترة حكمه بالاستقرار الاقتصادي والسياسي وازدهرت الزراعة وتلقب بلقب (المحب لشعبه)، وما يهم في فترة حكمه أنه قام بالتوسع جنوبًا حتى (مدائن صالح) فكانت المناطق المحصورة بين البتراء ومدائن صالح تخضع لحكم الدولة النبطية. وقد تميزت فترة حكمه بإقامة المنشآت العامة حتى إن معظم المقابر في مدائن صالح بنيت في عهده، ولعل الحارث الرابع كان يرمي إلى توسيع مملكته باتجاه الجنوب خوفًا من التوسع الروماني الذي أحاط بمملكته في الشمال، وأراد أن يوفر ملاذًا آمنًا للتراجع، ولكن ذلك لم يتحقق؛ حيث استولى الرومان على المملكة النبطية عام 106م أثناء فترة حكم (رب ايل الثاني)  
 
برع الأنباط في استخراج المياه وتخزينها، حتى إن أصل التسمية يرجعه بعض العلماء إلى استنباط الماء  .  وفي منطقة صحراوية حيث لا توجد الأنهار ولا البحيرات، كان الاعتماد الرئيس على مياه الأمطار التي تهطل بكميات قليلة، وعلى القدرة على نقلها من أمكنتها البعيدة إلى المدن والمحطات على طول الطريق التجاري وتخزينها، حيث أقيمت الخزانات الضخمة المبنية من الحجر أو المنحوتة بالكامل أو جزئيًا في الحجر والتي وجدت أمثلتها في كل من: الحميمة، وفي مدائن صالح في منطقة جبل أثلب، وفي البتراء، وقد وضعت لهذه الخزانات أسقف حجرية، تستند إلى أعمدة من الحجر. وقد نقلت المياه إلى هذه الخزانات عبر قنوات طويلة مبنية من الحجر وتجلت فيها براعة الهندسة حسب الميول بدقة لضمان جريان الماء، بل وأقيمت لها الجسور أحيانًا، وقد غطيت من الأعلى للحفاظ على ما بها من مياه من التلوث، وقد وصل طول إحدى هذه القنوات في الحميمة إلى 32كم  .  وبالإضافة إلى ذلك تميز الأنباط بحفر الآبار في الصخر، وكما وجدت أمثلة عديدة على ذلك في أمكنة متفرقة، ومنها مدائن صالح، ولعل آبار لينة في منطقة الحدود الشمالية المحفورة في الصخر تعود إلى الفترة النبطية حيث يتشابه أسلوب الحفر مع ما كان يقوم به الأنباط، ويبدو وجه الشبه كبيرًا مع (بئر سيسرا) التي تقع في منطقة الجوف بجوار قلعة (زعبل)، وبداخلها سلم محفور في جانبها يصل إلى الأسفل.
 
وقد عرفت لينة بعذوبة مائها، فقد قال فيها زهير:
 
كـأن  رِيقتَهَا بعَد الكَرَى اغُتِبقَت      من  طيِّب الراح لما يعْدُ أن عتَقا
شَـجَّ  السقاة على ناجودها شبما      من  ماء ليْنةَ لا طرقًا ولا رنِقا  
.
وقد ذكرها ياقوت الحموي بأنها "المنـزل الرابع لقاصد مكة من واسط وهي كثيرة الركي والقلب، ماؤها طيب وبها حوض السلطان ومنه إلى الخل وهي لبني غاضرة، ويقال: إنها ثلاثمئة عين"  .  ولمنطقة الحدود الشمالية أهمية كبرى إبّان فترة مملكة الأنباط، حيث شكل وادي السرحان ممرًا مهمًا للتجارة النبطية التي ازدهرت في الفترة التي بين القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، وتشير نتائج المسح الأثري إلى أن القريات كانت محطة مهمة على الطريق التجاري الواصل من الجنوب إلى الشمال، حيث وجدت كسر من الفخار النبطي الرقيق في كل من قصر (الصعيدي)، وفي (إثرة)  ،  بالإضافة إلى عدد من النقوش النبطية المنتشرة في المنطقة
 
جاءت نهاية المملكة النبطية على أيدي الرومان عندما قام القائد كورنيليوس بالما (Cornelius Palma) في عام 106م بضم المملكة النبطية إلى الولاية الرومانية، ولا نعرف كثيرًا عن كيفية حدوث ذلك، ولكن لم يرد ذكر لمعركة كبرى نتج منها ذلك الفعل ويبدو أنه تم سلميًا  
 
شارك المقالة:
185 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook