العلم سبيل التحرر

الكاتب: المدير -
العلم سبيل التحرر
"محاضرة علمية: العلم سبيل التحرر

 

مقدمة:

في ذِكرى هذه المناسبة الخاصَّة بـ يوم العلم التي مرَّتْ علينا في غُضون هذه الأيام؛ إذْ مَنَّ الله علينا بها على أنَّها (أي هذه المناسبة) ثوراتٌ تحرريَّة ونقطةُ تحوُّلٍ وحدود فاصلة رائدة في مَجال الإصلاح الثَّقافيِّ والإرث التوعوي؛ ففي عزِّ الإسلام نمَتْ أخاديدُ العلم بالفهم والبصيرةِ، وتنوَّرتْ أهدابُه بمَطالع الكمال والسَّريرة، لاحَتْ في آفاقِها معرفةٌ تَرنو بأكتافها وهي تَحنو بذِكريات العُظماء في التاريخ، الذين سطَّروا أمجادَ الحضارة والقيَمِ، ورفعوا شعاراتِ الإصلاح والشِّيم؛ لتصحوا المفاهيمُ مِن جهالات الصمِّ واللَّوم، وهذا الذي جعَلني أمتطي قلَمي وأحتسي مِدادَه على موائد الكِرام؛ لأقدِّمَ بعضًا مِن هذه النماذج الحيَّة، قَطَفْتُ مِن حدائقها بعضَ العَبَرات مِن وَحْيِ هذا التاريخ الذي يَجمعنا، وإنَّما نحن جميعًا كصفحة مِن دفاتر الماضي السحيق، تُقطع وتُطوى من سجلَّاته وفي كل يومٍ موردٌ جديدٌ.

 

منابِرُ الهدى أداةٌ لإخلاص العِلم والتمسُّك بالقيَم:

إنَّ هذه المناسبة هي الفِطرةُ التي تربطنا مباشرةً بهلال يومِ وفاة العلَّامة المصلِح عبدالحميد بن باديس رحمه الله رائدِ النَّهضةِ في أرض الجزائر المباركة، ومؤسِّس جمعيَّة علماء المسلمين الجزائريِّين؛ فهو المربِّي للنَّشْء، والمقوِّمُ للأخلاق، والمهذِّبُ للنفوس، والمحافظ على الأصول، والمتفتِّحُ على العصر، والدَّاعي إلى الاهتداء بنور العلم والمعرفة، والمدافع عن الهُوِيَّة الوطنيَّة وعن الوطن.

 

فكان لِزامًا علينا أن نحيي ذِكراه؛ بل إنَّ إحياء هذه المناسبات التي تتكرَّر في كلِّ موسم، لهي ذِكريات جليلة يتَجَدَّد العَهدُ ويتَعدَّد القَصدُ فيهما، والتي بَذَل مِن خلالها العلَّامةُ عبدُالحميد بن باديس مَجهوداتٍ جبَّارةً، وكفيلةً ببِناء المواطِنِ الصَّالح والمعلِّمِ المربِّي للأجيال الصَّاعدة، فكان له الدَّور الرئيس لبِناء الشخصيَّةِ الوطنية الجزائريَّة في كلِّ المجالات النهضوية؛ ولذلك عُدَّ الشيخ الجليل عبدالحميد بن باديس رحمة الله عليه رائدَ النَّهضةِ الجزائرية بلا منازِع.

 

ويصدق هذا قول الله تعالى: ? وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ? [آل عمران: 79].

? روى ابن ماجه في سننه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ ممَّا يَلحَقُ المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعدَ موته، عِلمًا عَلَّمه ونشَره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السَّبيل بناه، أو نَهرًا أجراه، أو صدَقةً أخرجها مِن ماله في صحَّته وحياتِه، يلحَقُه مِن بعد موته)).

 

قال ابنُ الجوزيِّ في صيد الخاطر (ص/ 138): لقيتُ مشايخَ أحوالُهم مختلفةٌ، يتفاوتون في مَقاديرهم في العلم، وكان أنفعُهم لي في صُحبةٍ: العاملَ منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه.

 

• ولقيتُ جماعةً مِن أهل الحديث يَحفظون ويَعرفون؛ ولكنَّهم كانوا يتسامحون في غِيبةٍ يُخرجونها مَخرج جرحٍ وتعديلٍ، ويأخذون على قراءة الحديثِ أجرًا، ويُسرعون بالجواب لئلَّا ينكسِرَ الجاه، وإن وقع خَطأ!

• ولقيت أبا منصور الجواليقي، فكان كثيرَ الصَّمت، شديدَ التحرِّي فيما يقول، متقِنًا مُحقِّقًا، ورُبَّما سُئل في المسألة الظَّاهرة، التي يبادِرُ بجَوابها بعضُ غِلْمانه، فيتوقَّف فيها حتى يتيقَّن.

 

ولهذا يقول الأندلسيُّ رحمه الله في قَصيدته الماتِعةِ النَّافعة التي أرسلها إلى ابنه:

فُقُوتُ الرُّوحِ أرْوَحُ للمعاني
وليس بأنْ طعِمتَ ولا شرِبتَ
جعلتَ المالَ فوقِ العلم جَهلًا
لعَمرُك في القضيَّةِ ما عدَلْتا
وبينَهُما بنصِّ الوحيِّ بَيْنٌ
ستَعْلَمُهُ إذا طَهَ قرَأتَ

 

وهذه وصيَّةٌ أخرى لطلبَةِ العلم مِن عند العلَّامةِ الجزائريِّ ابن باديس رحمه الله: اتَّقوا اللهَ، ارحموا عبادَ الله، اخدموا العلمَ بتعلُّمه ونشْرِه، وتحمَّلوا كلَّ بلاءٍ ومشقَّةٍ في سبيله، وليَهُنْ عليكم كلُّ عزيزٍ، ولْتَهُنْ عليكم أرواحُكم مِن أجله، أمَّا الأمور الحكوميَّة وما يتَّصل بها، فدَعُوها لأهلها، وإيَّاكم أن تتعرَّضوا لها بشيءٍ؛ [ابن باديس الآثار (?/ ???)].

 

العلم سبيل تحرير النُّقول وتنوير العقول:

إنَّ هذه الآثار الباديسيَّة الطيِّبة والفكرِ الرَّاقي لهي فَضْلٌ على الأمَّة الجزائرية؛ كإيمانِه بهذه المكنوناتِ الحثيثة، التي استدرَجَ فيها أكبرَ الإمبراطوريات في عصرِه وقضى على كيانها بسِلاح العلمِ والعقل، وواكب الأحداثَ بجَميل حِكمتِه وفلسفتِه التي لامسَتِ الواقعَ، فجاء على إثْرها هذا النُّورُ الذي شَعَّتْ قناديلُه على أرجاءِ المعمورة؛ فالكُشوفُ التي تتجلَّى فورَ رفعِ غِطاء الحقيقة، لا تتوهَّج بإحسانٍ منها ليرى نورَها البشَرُ فحَسْب، كما أنَّ البصيرة أحيانًا تعجِز عن فَهْم فحوى هذا الإطلاق الإيمانيِّ في جُنحِ الظلام المنبثِق مِن خباياها، الذي هو زِرٌّ يكتم أنفاسَ شِعَبِها، تضفي مِن خلاله أجملَ الصُّور طلعةً وبهاءً، يراها القلبُ الأكثر إلهامًا، فلا تَحجبُ رؤياه طِلاءُ الأجفان.

 

قال يحيى بنُ مُعاذ:

• العلماءُ أرحم بأمَّة محمدٍ مِن آبائهم وأمَّهاتهم.

 

قالوا له:

• كيف ذلك؟ العالم أرحَمُ بتلميذه مِن الأب والأمِّ بابنيهما؟!

قال:

• إليكم الجَوابَ: الآباء والأمَّهات يَحْفَظون أولادَهم مِن نار الدنيا، يخافون عليهم المرَضَ، يخافون عليهم الحريقَ، يخافون عليهم الفقرَ؛ ولكنَّ العلماء يَحفظون أتباعَهم مِن نار الآخرة، فتنتهي فضائلُ الأبوَّة في الدنيا، لكنَّ فضائل طلب العلم تَستمرُّ إلى أبد الآبدين.

 

مختارات أنتقيها مِن واقعٍ تخَمَّر بجَمال العلم والأدب:

إنَّ العالَم الإسلاميَّ اليومَ في أمَسِّ الحاجة للوقوف على أهمِّ محطَّة في تغيير نموذج الاهتداء لحياته، التي إنَّما أُنشئتْ لتأخذ قِسطًا وفيرًا لتحقيق الغاية المنشودَة له ولغيره مِن أبناء الصَّحوة الإسلاميَّة، لا سيَّما إذا تعلَّق الأمر بأمَّة سُمِّيتْ في تاريخها المجيد بأمَّة اقرأ؛ امتثالًا لقول الباري جلَّ في عُلاه إذ خاطَب نبيَّه على لسان أمينِ وحيِه فقال له: ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ? [العلق: 1].

 

وبنُـزول هذه السورة المكِّيَّة والكلمة الفارقة في تاريخ البشريَّةِ كلِّها، سطَعتْ من خلالها نجمةُ الإسلام، وحَلَّقتْ بسيرة سيِّد الخلق والأنام، محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فكانت لحظةً مثاليَّة خارقةً، طارحة ضلالات التميُّع المختلِّ، وإيهامات التنطُّع المنحلِّ، ومخلَّفات الاستدمار المحتَلِّ، في فترة مِن الفترات التي انقطع فيها حبلُ الأمَّةِ الجزائرية بتاريخها العتيد، الذي كان يَحملُ صروحَ الدعامة ومثالَ القوامةِ لها.

 

فلم تَتَخَلَّ عن مبادئها التي ورثَتْها عن أجدادها، ولم تتنصَّل مِن أصولها التي حمَلتْها على عاتقها، مهما بلَغها مِن مكاره أخَّرتْها عن تبوُّء مَكانتها بين الأمم وفي سبيل طلَب العلم.

قال تعالى: ? وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ? [آل عمران: 7].

بل إنَّ كلمة اقرأ غيَّرتْ مَجرى الإنسانيَّة، وكان شيئًا مختلِفًا بعدها، تأتينا مِن خلالها الأخبارُ تتوالى مِن هنا وهناك، وآخر المستجدَّات.

 

ومِن أعجب ما مرَرتُ عليه لما شُيِّد في إحدى الدول الأوربيَّة - فنلندا - تمثالٌ لإنسانٍ يغرق، وهو يَحمل كتابًا في يديه وأخمصيه، وكان يَحمل بعضَ الكلمات في صفحةٍ مكتوب عليها:

• اقرأ حتى وإن كنتَ تغرق.

قلت: سبحان الله! هذا فِكْرٌ جديد ومنطِقٌ آخرُ وصَل إليه هؤلاء، يبعث الإنسانَ مِن هلاكٍ وَشيك إلى حياة أُخرى لا تُقاس بما عَمَرَهُ ابنُ آدم على ظهر أرضها! وهي جملة، حتى وإن لم يصِحَّ سياقُها في هذا العالم الواقعي، فإنَّها دليل واضِح ومَلموس على شُمول فضائلها بين الأمم، وعموم النُّهوض بها لتتفتَّح أكاليل الورى بالهِمَم، وأمَّا عندنا فلا يصلُحُ هذا القول ولا نَستطيعُ استيعابَه، وبالكاد يخاطِبُ بعضنا بعضًا فيقول لصاحبه:

• اقرأ حتى لا تغرق.

 

قال أحدهم يُنشِد هذه الأبيات:

اللهُ يعلمُ ما قلَّبْتُ سيرتَهم
يومًا وأخْطَأ دَمْعُ العَيْنِ مجراهُ
استَرْشَدَ الغَرْبُ بالماضي فَأَرْشَدَهُ
ونحن كانَ لنا ماضٍ نَسيناهُ

 

أيها السادة المبارَكون، علينا أن نعود إلى ماضينا؛ كي نستَلهِم قِيَمَ العِلم والإيمان مِن سيرة العلَّامة ابنِ باديس، ونستلهِمَ منه الدَّرسَ والعِبرةَ، ونستنطِقَ مواقفَ أئمَّة الهدى ومشايخ الإسلام؛ فشيخُ الأصالة وشمس المعرفة (عبدالحميد بن باديس) زرَع ثقافةَ الوسطيَّة، وحملها لترقية ثقافة الإصلاح في أوساط المجتمع، فكان حافزًا معنويًّا لِمن استأنس بالقراءة، واستلهمَ مِن حديثه الإثراء، وجعل منها روحًا تفيض بملء الإيمان وطلبِ العلا؛ ففي أعماق الفراغ المتبدِّد هناك ملاذٌ آمِنٌ للفكْرِ المتجدِّد، والفاصل الزَّمَنيُّ بين خِطاب الأمس واليوم، تَحَدٍّ جديدٌ للمتأمِّل بين واقِع يَفرض عليك التغييرَ والمعالجةَ الفوريَّة؛ نتيجةَ تحاليل ومختبراتٍ لَفَظَها العقلُ بداعي التقادم الزمنيِّ.

 

بيد أنَّ العودة إلى محطَّات القراءة وشغَفِ الكتابِ يتطلَّبُ التمسُّكَ بالثوابت النفسيَّة التي ترعى شؤون البشَر، وتكفل لهم حياةً أخرى وبرزخًا آخَرَ، وعالمًا مزدوجًا يَسبَح في ملكاتها، وينهض بالرُّوح وينطلِقُ بها إلى بَرِّ الأمان؛ حيث يصعد الكَلِم الطيِّب والعمل الصَّالح يرفعه.

 

رحِم الله أيَّامَ الأعلام (ابن باديس والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي) رحمةً واسعةً، فكلامهم كلُّه دواء وعبَر، وبحار ونَهَر، ينهل مِن مَنبعه مَن هو في أعين الناس قليل فلا يزيده إلَّا بهاء ونورًا، ومَن يجهل حقوقَ هذه الأعلام، ففي قلبه شائبةٌ لا يَصلُح الناس برأيِه، فكلُّ كلامٍ له حادثة، وكلُّ فِقهٍ له نازلة، وكلٌّ له بنايته الفكرية ورؤيته الحكيمة.

 

خاتمة:

وفي الختام أوجِّه رسالةَ تعظيم السَّلام لصنيع هؤلاء الأعلام التي ما زالت مناراتُهم العلميَّة مصابيح الدُّجى، تُطعمنا وتغذينا بأدبيَّاتها وفِكْرها، ناصحةً لنا ومرافِعةً عن الكلمة الطيِّبة لتصدَع بالحقِّ بها.

فجزاهم المولى خيرَ الجزاء، وأنجَز لهم وعْدَهم بخَيْر المقصد والوفاء، وحفِظَنا اللهُ وإيَّاكم مِن فِتَن عظمَتْ فيها الأهواءُ.


"
شارك المقالة:
24 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook