العلماء وفقه الواقع

الكاتب: المدير -
العلماء وفقه الواقع
"العلماء وفقه الواقع




فرقٌ كبير بين ثلاثةٍ يتحدَّثون في واقع أمة الإسلام، (والثلاثة على علم بالشريعة):

أحدهم: لا يريد فهم واقعِه الذي يعيشه، ومع ذلك يتكلم فيه وينظِّر!

وآخر: يحاول فهم الواقع، لكن الخطأ في فهمه ملازمٌ له؛ لقلة المعطَيات لديه، ولضعف التصوُّرات عنده.

وثالث: يحاول فهمه فيُصِيب في أغلب تنظيراته أو كلها؛ لتوافر المعطيات الكاملة لديه، ولتصورِه الصحيح للقضايا.

 

فأما الأول: فلا خير في كلامه، بل شرُّه مستطير، وإفساده أكثر من إصلاحه، ويسيء للإسلام ومنهجه القويم من حيث لا يدري، أو يدري! ولو سكت لقلَّ الخلاف.

وأما الثاني: ففي خيرِه دَخَن.

فأما خيره: فمحاولتُه الفهمَ.

 

وأما دخنه: فخطؤه الناتج عن عدم تصور صحيح، ولو سكت لقلَّ الخلاف أيضًا.

وأما الثالث: فهو خيرهم وأفضلهم، وحقيقٌ به أن يتكلم، وحقيق بمن دونه أن يُنصِت له.

 

إن من متطلبات الداعية الناجح والمفتي والحاكم: معرفتَه بالواقع داخليًّا وخارجيًّا، معرفةً دقيقة جدًّا؛ لكي يُصدِر حكمًا صحيحًا؛ فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّرِه.




وهذا ما يُعرَف بـفقه الواقع، أو فقه الأحوال المعاصرة، داخليًّا وخارجيًّا، وما يجب على الشخص تجاه واقعه الذي يعيشه، كلٌّ بحسب طاقته وقدرته.

 

والله عز وجل يقول: ? وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ? [الأنعام: 55]، واستبانةُ سبيل المجرمين متوقِّفة على فهم مخطَّطاتهم وأهدافهم، والسبل التي يتَّخِذونها للوصول إلى تلك الأهداف.

 

والقرآن الكريم فصَّل كثيرًا في بيان مخططات أعداء الإسلام وسُبُل مواجهتهم، بما فيه غاية الكفاية لمن أنعم نظره، ودقَّ تأمله، وربط واقعه بوقائعِ مَن سبقه، وأنزَل الآيات على الواقع تشخيصًا وعلاجًا.

 

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العمليَّة تدلُّ على أنه كان واسع النظر، عميق الفهم لأحوال العالم المحيط به، فها هو صلى الله عليه وسلم في العام الخامس من البعثة، يأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، بعيدًا عن الجزيرة العربية بكاملها، بما فيها المدينة، وبعيدًا عن الشام ودولتَي فارس والروم؛ وذلك لأن بالحبشة ملكًا لا يُظلَم عنده أحدٌ، ولأن ثمة عَلاقة قرب بين المسلمين والنصارى، قال تعالى: ? لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ? [المائدة: 82].

 

وفي الصحيحين من حديث الصدِّيقة عائشةَ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((ألم تَرَي أن قومك لَمَّا بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟))، فقلت: يا رسول الله، ألا تردُّها على قواعد إبراهيم؟ قال: ((لولا حِدْثانُ قومِك بالكفر، لفعلتُ)).

 

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية، لأَمرتُ بالبيت فهُدِم، فأدخَلت فيه ما أُخرِج منه، وألزقتُه بالأرض، وجعلتُ له بابين، بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، فبلَغت به أساس إبراهيم)).

 

فمراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لواقع قومه منعَتْه من هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم.

وحكى لنا القرآن الكريم نتيجةَ حرب فارس والروم (وهما دولتان كافرتان)، وموقف المسلمين منها؛ حيث تابعوها واهتموا بها، وحزنوا أولًا لهزيمة الروم، ثم وعَدَهم الله بنصر الروم على فارس، ففرِحوا بهذا النصر الذي هو مِن الله عز وجل، قال تعالى: ? الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ? [الروم: 1 - 6]، وهذا من أدلِّ الدلائل على اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بواقع العالم المحيط بهم.

 

وكان عمر رضي الله عنه يقول: لست بالخِبِّ، ولا يخدعني الخبُّ، وذلك لا يكون إلا بفهمه لمن حوله أفرادًا ومجتمعات، وكل السلف كانوا على هذا المنوال، حتى في الفتوى، وفتاوى ابن عباس رضي الله عنه شاهدةٌ على ذلك؛ فحينما جاءه قاتل امرأة وسأله: ألقاتلِ المؤمن توبةٌ؟ قال: نعم، وأرشده إلى برِّ أمه، وجاءه آخر وسأل السؤال نفسه، وقد رأى ابن عباس الشرَّ في عينَيْه، فأجابه بأنه لا توبة له، والوقائع كثيرةٌ تُثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعاملون مع واقعهم الذي يعيشونه، على مستوى الفرد والجماعة.

 

وفقه المقاصد أصلًا قائمٌ على تحقيقِ مقاصد الشريعة وَفْق متطلبات العصر ووقائع الأحوال، وفي ذلك دليلٌ على عظمة التشريع الإسلامي، وأنه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، بل لا يصلُح الزمانُ والمكان إلا بتطبيقه.

 

وإلا فبالله خبِّرني كيف يكون صالحًا لكل زمان ومكان، وهو لا يقدر على التعامل مع الواقع تعاملًا مَرِنًا، يصل مِن خلاله إلى مراد الله تعالى مِن عباده؟!

 

يقول سيد رحمه الله:

إن الإسلام نظامٌ للإنسان، نظام واقعيٌّ إيجابي يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيِّرة في شتى البقاع وشتى الأزمان وشتى الأحوال، إنه نظامٌ واقعي إيجابي يلتقط الإنسانَ من واقعه الذي هو فيه، ومِن موقفه الذي هو عليه؛ ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، في غير إنكارٍ لفطرته أو تنكُّرٍ، وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال، وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف، إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء، ولا على التظرف المائع، ولا على المثالية الفارغة، ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته.

 

وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا المضمار - وهو من أفضل ما قيل -: ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحُكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فَهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقةِ ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط بها علمًا.

 

والنوع الثاني: فَهْم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكم الله الذي حكَم به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

 

وقال رحمه الله: الفقيه مَن يُطبِّق بين الواجب والواقع، فلكلِّ زمان حكمٌ، والناس بزمانهم أشبهُ منهم بآبائهم.

 

وما أفقهَ شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث حكى عنه الإمام القيِّم ابنُ القيم رحمه الله فقال: وسمِعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه - يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمنِ التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكَرَ عليهم مَن كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلت له: إنما حرَّم الله الخمر؛ لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدُّهم الخمرُ عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدَعْهم، وهذا هو الفرق بين الواقعيينَ وما أقلَّهم، والسطحيين وما أكثرَهم.

 

ويُوضِّح ابن القيم رحمه الله هذا المعنى، فيقول: فإذا رأيت أهل الفجورِ والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارُك عليهم مِن عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتَهم منه إلى ما هو أحبُّ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كرَمْيِ النُّشَّاب، وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسَّاق قد اجتمعوا على لهوٍ ولعب، أو سماع مُكاءٍ وتصدية، فإنْ نقلتَهم عنه إلى طاعة الله، فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لِما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخفتَ مِن نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسِّحر، فدَعْه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

 

وقال رحمه الله: شرَعَ النبي صلى الله عليه وسلم لأمتِه إيجابَ إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره مِن المعروف ما يحبُّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكَرُ منه، وأبغَضُ إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكارُه، وإن كان الله يُبغِضه ويمقُتُ أهله.

 

ولا يتمكن المسلم من ذلك إلا إذا كان فقيهًا بواقعه، بصيرًا بما يجب عليه فيه.

ولا يَظُننَّ أحدٌ أن في ذلك تمييعًا لأصول الشريعة وتضييعًا لأحكامها؛ لكونه يتعامل مع واقع متغير؛ ففي الإسلام ثوابتُ ومتغيرات، وكلٌّ قد حدَّده الشرع الحنيف، والأحكامُ الناتجة عن فقه الواقع متعلِّقة بالمتغيرات لا بالثوابت، ثم إن هذا ليس متروكًا لأي أحد يتصرف كيفما شاء، بل هذا موكول لعلماء الشريعة، وَفْق أصول ومناهجَ مأخوذة من منطوق القرآن والسُّنة، ومفهومهما الصحيح.

 

قال الألباني رحمه الله:

لا يجوز أن يُنكِر أحد من طلاب العلم ضرورةَ هذا الفقه بالواقع؛ لأنه لا يمكن الوصول إلى تحقيق الضالَّة المنشودة بإجماع المسلمين، ألا وهي التخلص من الاستعمار الكافر للبلاد الإسلامية، أو على الأقل بعضها، إلا بأن نعرف ما يتآمرون به، أو ما يجتمعون عليه؛ لنحذَره ونُحذِّر منه؛ حتى لا يستمر استعمارهم واستعبادهم للعالم الإسلامي.

 

فبالله إن لم تكن عارفًا بالواقع معرفةً كافية، وليس عندك تصوُّرٌ كامل وصحيح لقضايا الأمة، فإياك ثم إياك والحديثَ فيه من الناحية الشرعية؛ لئلا تزيد الطينَ بِلَّةً، والمسلمين فُرقة!

 

والسكوت في حقك شرفٌ لك، وحفظ لمكانتك، ونزعٌ لفتيل الاختلاف والفُرقة، (ولو سكَتَ مَن لا يدري، لاستراح وأراح، وقلَّ الخطأ، وكثُر الصواب)؛ كما قال الحافظ المزي رحمه الله، وقد أحسَنَ مَن انتهى إلى ما عَلِم.

 

وميل بعض الناس لعدم معرفة واقعه وفهمه فهمًا جيدًا - نابعٌ غالبًا من خوفه من تغيير قناعاته التي تربَّى عليها، وقد تكون صحيحة في زمنٍ ما، خاطئةً في زمن آخر، فلكلِّ زمن حُكمُه.

 

وهذا الخوف: إما أن يكون خوفًا من إعمالِ فكره وعقله الذي وهبه الله إياه، والحال أنه قد عوَّده الركود والبلادة!

أو خوفًا من مخالفةِ شيخ أو طائفة، يحبُّهم ويُحِبُّونه، فيتغيَّرون عليه! أو ربما لاعتقادِه أنهم مصِيبون دائمًا، أو خوفًا من لوم الجهلاء أنه متلوِّن ومتغير بحسب الوقائع، (وفي الحقيقة: هو يساير الأحداث والمستجدَّات)، فيكتفي بقناعاته السابقة، مُعرِضًا عما سواها!

 

وهذا حريٌّ به أن يكون حِلْسَ بيتِه، فلا يقتحم على الناس عقولَهم فيسرقها؛ لئلا يزيد المريض عِلة، فكفى بالناس جهلًا وفُرقة واختلافًا ما هم فيه.

 

والعاقل المنصِف: مَن لا يضُرُّه تغييرُ قناعاته التي عاش عليها رَدَحًا من الزمن، إذا تبيَّن له فسادُها بعد صلاحها؛ لتغيُّر الواقع والأحداث، والشواهدُ على ذلك مِن فعل السلف كثيرة؛ فهذا الإمام المطَّلِبي محمد بن إدريس الشافعيُّ رحمه الله له مذهبٌ قديم وجديد.

 

والعاقل: لا يضره مخالفةُ شخص كائنًا مَن كان؛ لأنه يعلم أن العصمة ماتت بموت النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يضره كلام الناس فيه، ولا لوم الجهلاء، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.




والله من وراء القصد


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook