العمارة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العمارة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

العمارة في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
أ - عمارة المساجد:
 
نالت عمارة المساجد والجوامع في منطقة الباحة أهمية خاصة، حيث يوجد مسجد جامع في كل قرية من قرى المنطقة، ويخضع حجم المسجد في الغالب للكثافة السكانية بالقرية. أما بقعة المسجد فتختار غالبًا في مكان يتوسط القرية، ويشيد المسجد من الحجارة المحلية على هيئة مداميك، كما تستخدم الدعائم الخشبية في عملية التسقيف، أما الجدران فتليّس بمادة الجص من الداخل.
 
ويلحق بالمسجد ساحة تعرف باسم (الصوح) تتخذ لاجتماع المصلّين عند استماعهم للأحاديث وقراءة القرآن الكريم؛ وفي أحد جوانب هذا الفناء توجد الميضأة (مكان الوضوء). كما يلحق بالفناء مئذنة يصعد إلى أعلاها المؤذن في أوقات الصلوات من خلال سلم حجري  
 
وقد اشتملت الحواضر الإسلامية القديمة بالمنطقة على مساجد وجوامع تاريخية؛ وكشفت الأعمال الأثرية الأخيرة عن نموذجين من العمارة المبكرة لمساجد المنطقة، هما:
 
1 - مسجد عشم:
 
يقع مسجد عشم في الجانب الجنوبي الغربي من المحلة السكنية الكبرى، ويشتمل ذلك المسجد على حجر تأسيسي يشير إلى أن عمارته كانت في سنة414هـ/1023م على يد الأمير يعلى بن عبدالله بن عويد. وهو مسجد كبير المساحة، وفي وسطه ساحة مكشوفة، وله مئذنة رباعية الشكل تقع أساساتها في الزاوية الجنوبية الشرقية منه  .  وقد وجدت بقايا وآثار لثلاثة صفوف من أساطين أعمدة رواق القبلة (بيت الصلاة)،  كما عُثر على صف واحد من أساطين الرواق الخلفي. ويظهر في منتصف الجدار الشمالي الشرقي للمسجد (جدار القبلة) تجويف لمحراب المسجد، في حين يشتمل الجداران: الجنوبي والغربي على المدخلين. 
 
2 - مسجد الخُلُف:
 
يُعَد جامع الخلف من أفضل النماذج المعمارية الإسلامية الباقية على أراضي منطقة الباحة، على الرغم مما أصاب بنيته المعمارية من تهالك وتساقط. وتعكس عمارته نموذجًا من نماذج العمارة المبكرة للمسجد الجامع ليس في منطقة الباحة فحسب، بل في سائر جنوبي المملكة العربية السعودية وغربيها
 
ويقع المسجد في الناحية الشمالية الغربية من الحي السكني الرئيس للقرية، وتبلغ مساحته الإجمالية نحو 324م  . ويشتمل المسجد على صحن مكشوف تتمركز في وسطه بركة ماء، ويدلف إلى الصحن من الخارج من خلال مدخلين رئيسين؛ وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من صحن المسجد توجد بقايا مئذنة. ويتقدم الجزء الأمامي للمسجد بيت الصلاة (ظلة/رواق القبلة)، وتشتمل على بقايا لقواعد أعمدة السقف،  وتتصدر جدار القبلة كتلة المحراب، وبجانبه توجد بقايا من كتلة المنبر  
 
ويمتاز جامع الخلف باحتوائه على تسقيفات وتغطيات مقببة ومسطحة، فضلاً عن وجود منشآت مائية - مثل البركة والسبيل - ملحقة بعمارة المسجد، إلى جانب احتوائه على أكثر من ملحق معماري يمثل فيما يبدو ما يعرف بالمنـزلة (المنـزالة) التي تخصص عادة لاستقبال الضيوف الغرباء وعابري السبيل؛ أو أنها كانت مكانًا للتعليم (معلامة أو مكتبًا)؛ ومهما يكن من وظيفة لهذه الملاحق، فإنها تُعَد من سمات عمارة المساجد في المنطقة  
 
ب - عمارة القرى والأبراج:
 
تمتاز عمارة مباني منطقة الباحة، سواء كانت مدنية أو حربية، بأنها تتسع من أسفل وتضيق من أعلى؛ أي أن الكتلة المعمارية أيًّا كانت، تأخذ في الانقباض للداخل كلما ارتفعت إلى الأعلى، وربما كان ذلك أسلوبًا بنائيًا قُصِدَ منه إضفاء القوة والمنعة والتماسك على الوحدة المعمارية. وتتضح هذه السمة المعمارية في أغلب مباني المنطقة، إلا أنها تبرز بصورة واضحة ومطلقة في عمارة الأبراج (الحصون) الدفاعية سواء منها الملحقة بالمباني السكنية أو الواقعة على الحدود القبلية، وتبرز هذه السمة أيضًا في عمارة مآذن المساجد كما هو موجود في مئذنة مسجد قرية الخلف الأثرية  
 
وفي هذا الجانب يذكر الجغرافي ابن المجاور ما نصه:
 
"وجميع هذه الأعمال (يقصد أعمال سراة الباحة) قرى متقاربة بعضها من بعض في الكبر والصغر، وكل قرية منها مقيمة بأهلها، وقد بُني في كلّ قرية قصر من حجر وجص، وكلٌّ من هؤلاء ساكن في القرية له مخزن في القصر يخزن فيه جميع ما يكون له من حوزه وملكه، وما يؤخذ منه إلاّ قوتُ يومٍ بيوم. ويكون أهل القرية محتاطين بالقصر من أربع ترابيعه"   
 
يتجلى هذا الوصف الدقيق المبكر للقرية السروية (الجبلية) في منطقة الباحة، وهذا الوصف عامة لم يتغير إلى درجة كبيرة وجذرية في الواقع المعاش حتى الوقت الراهن  ؛  فالقرى المحصنة بالمنطقة تتكون في الغالب من بيوت صغيرة المساحة، تتصف عمارتها بقوة البناء، وتنتشر غالبًا على قمم الجبال وفي المنحدرات الجبلية وسفوحها. وتتخلل هذه القرى أبراج محصنة تتخذ الشكل الدائري (الأسطواني) أو الشكل المربع؛ كما توجد هذه النوعية من الأبراج (الحصون) الدفاعية بصورة مستقلة ومن دون ارتباط بالنسيج المعماري للقرية، وذلك على امتداد ضفاف الأودية والشعاب، ويندر وجود مواد أثرية كالفخار ونحوه على أسطح مواقع هذه الأبراج (الحصون)  
 
ويبدو أن منطقة الباحة عرفت هذا النمط المعماري (الحربي) المتمثل في عمارة الأبراج المحصنة (الحصون أو القصبات) الدفاعية منذ العصور السابقة لظهور الإسلام، فقد كشف في شرق المحلة السكنية الصغرى بمستوطنة عشم عن أساسات أبنية يصل ارتفاع بعضها إلى متر واحد بنيت على جبلين صغيرين، ويظهر من البقايا المعمارية لها أنها كانت بقايا لأبراج (حصون) مراقبة. وإلى الجنوب الغربي من هذين الجبلين تمتد مساحة عليها بقايا أبنية من الأحجار، تتميز باتساع أفنيتها والمساحات المحيطة بها، ويعتقد أنها كانت ثكنات تتصل ببرجي المراقبة المذكورين. ومن فوق هذه الأبراج يمكن للمرء كشف كل ما حول قرية عشم لمسافات بعيدة، وبخاصة القادم عن طريق مسارات طرق الحج الشمالية والغربية  
 
ويتكوّن الحصن في منطقة الباحة غالبًا من بناء مجوف فارع الطول غير مسقوف، يصل ارتفاعه إلى نحو 20م في السهل، ونحو 10م في الجبل؛ وترتكز كتلته المعمارية كلها على قاعدة مربعة أو مستطيلة، وتكون مساحته عادة أكبر من مساحة القصبة وأعظم حجمًا. وتكثر في بلاد غامد وزهران الحصون المشيدة من الحجر مع الطين، وتلحق في كل جهة منها أوتاد حجرية يقف عليها المراقبون الذين يتحولون إلى مدافعين حال وقوع الهجوم. ويعتني أصحاب الحصون بحصونهم عناية كبيرة، ويحرصون على تزيين مظهرها الخارجي بمادة الجص والحجارة البيضاء (الكوارتز الحليبي/المرمر أو المرو) خصوصًا الواجهات والأجزاء الواقعة فوق الفتحات، مثل: الأبواب والنوافذ.
 
وتبنى الحصون البرجية الخاصة والعامة في المراكز الحضرية الكبرى، ومنها: مدن الظفير  ورغدان  والمندق والمخواة، وفي بعض القرى المجاورة للمراكز آنفة الذكر. وتختلف أحجام القصور ونوعياتها من مكان إلى آخر، ومن أسرة إلى أخرى، حسب الإمكانات والقدرات المادية  
 
ج - عمارة الأسواق الدورية:
 
تتعدد الأسباب سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية لإقامة السوق التجارية الدورية (الأسبوعية)، فربما تكون الحاجة المعيشية عند أفراد المجتمع في المنطقة إلى مقايضة السلع والبضائع فيما بينهم هي الحافز الرئيس لإقامة السوق الدورية (الأسبوعية)، أو أن يكون الداعي إلى إقامتها هو مجرد استجابة لحاجات المجتمع بغية الحصول على سلع وبضائع مجلوبة من خارج الإطار الجغرافي للمجتمع مقابل عرض ما يفيض عن حاجة المجتمع المحلي  .  ومهما يكن من أسباب، ففكرة تأسيس السوق الدورية تمتلك تأصيلاً تاريخيًا حضاريًا في المجتمعات العربية القديمة، وأسواق العرب المشهورة خير دليل على استمرارية فكرة إقامة السوق الدورية حتى الوقت الحاضر.
 
شهدت منطقة الباحة، خصوصًا قطاعها التهامي، قبل ظهور الإسلام إقامة سوق حُباشَة التاريخية المشهورة، وهي من الأسواق الجاهلية التي اعتاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ارتيادها في متاجرته للسيدة خديجة - رضي الله عنها - قبيل صدعه بما أمره به رب العالمين بسنوات معدودة  
 
ويبدو أن سكان منطقة الباحة (وأهل السراة بشكل عام) كانوا سباقين إلى إقامة السوق الدورية الأسبوعية، وأنها كانت متجذرة في معاملاتهم الاقتصادية؛ فأقدم المعلومات المتوافرة التي تعالج هذه الجزئية الاقتصادية تعود إلى النصف الأول من القرن السابع الهجري/القرن الثالث عشر الميلادي؛ فيذكر ابن المجاور - أثناء حديثه عن الطريق بين صعدة والطائف ووصفِه بعضَ محطات الدرب الواقعة في منطقة الباحة - ما يأتي: "وهو سوق يقوم يوم الجمعة، وهو سوق يلتئم (هكذا) فيه الخلق ليلة الجمعة"  .  ويظهر من ذلك الدورُ الفاعل لمرور طرق الحج من خلال أراضي المنطقة في صياغة وظيفة محطة الطريق وتعددها؛ فكثير من محطات طرق الحج كانت أسواقًا تجارية يتم فيها البيع والشراء وتبادل السلع والبضائع عن طريق المقايضة.
 
ولم تزل ظاهرة إقامة السوق التجارية، وبخاصة تلك الأسواق الدورية التي تقام في يومٍ محدد من أيام الأسبوع، قائمة في منطقة الباحة، شأنها في ذلك شأن كل المناطق في جنوب المملكة وغربها. وقد جرت العادة على قيام كل قبيلة بإقامة سوقٍ تجارية خاصة بها في يومٍ معلوم من أيام الأسبوع، وغالبًا ما تقام هذه السوق إما داخل أكبر قرية تتبعها أو في محيطها الجغرافي. وإلى جانب المصالح المادية والعوائد المكتسبة من إقامة السوق، تُعَدُّ السوق الأسبوعية أيضًا ملتقىً اجتماعيًا يتوافد الناس إليها - أفرادًا وجماعات - من جميع نواحي المنطقة؛ وهذا يبرز بلا شك أهمية السوق ودورها في ربط أواصر أفراد القبيلة الواحدة  
 
وتدلّ الآثار والبقايا المعمارية في موقع مستوطنة عشم على قيام السوق التجارية في وسط المحلة السكنية الكبرى.  وتتكون سوق عشم من صفين متقابلين من الحوانيت التجارية ذات المساحات المتقاربة يفصل بينهما شارع يراوح عرضه بين 6 و 7م. ومعظم هذه الحوانيت تنقسم إلى جزأين، أحدهما خلفي والآخر أمامي، ويبدو أن الأول يستخدم لتخزين البضائع، والثاني لعرض السلع داخلها. كما توجد بالقرب من السوق في الاتجاهين الشرقي والغربي ساحات مكشوفة ربما بيعت فيها الماشية وبعض البضائع والسلع التي لا تحتاج إلى عرضها في حوانيت خاصة  
 
ولم يزل أهل السراة يقيمون أسواقهم الدورية خلال أيام الأسبوع داخل المدن أو حولها ومن الأمثلة على ذلك: المندق، والرومي، والنقعة، والكرادسة، وآل نعمة، والأطاولة، وبرحرح؛ وعلى الشاكلة نفسها يقيم أهل تهامة ومن جاورهم أسواقهم الأسبوعية في عدد من حواضرهم، مثل: الحجرة، وقلوة، والشعراء، والجرداء، والمخواة.
 
شارك المقالة:
43 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook