العهد الراشدي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد الراشدي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

العهد الراشدي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
 
جاءت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صدمة لأهل المدينة المنورة، يروى عن أنس بن مالك أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة المنورة كل شيء  ،  وبلغ الاندهاش حدّهُ عند عمر، وأنه أخذ يخطب ويتكلم في الناس ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله عز وجل المنافقين، وفي رواية أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ولكن ربه أرسل إليه، كما أرسل إلى موسى عليه السلام فمكث أربعين ليلة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه من منـزله بالسنح (من أحياء المدينة المنورة في منطقة العوالي) فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قبله ثم خرج إلى الناس وعمر يكلم الناس،  وقال: من كان يعبد الله عز وجل فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا فقد مات  .  لقد كان عمر رضي الله عنه يتحدث من واقع اندهاش وذهول عاطفي وما أن تلا أبو بكر الآيات حتى أيقن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات وتراجع عن أقواله التي بدّدها الصديق بعلمه وعقليته الفذة 
 
وكان التساؤل الأبرز بعد أن تلقى مجتمع المدينة المنورة تلك الصدمة هو: من يتولى قيادة المسلمين في حاضرة الإسلام الأولى خلفًا للرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة (في الشمال الغربي من المسجد النبوي)، ثم لحق بهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح ورهط من المهاجرين لما علموا باجتماعهم، وتكلم أبو بكر رضي الله عنه في هذا الاجتماع فأثنى على الأنصار بما هم أهل له وذكّرهم أن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ فهم أوسط العرب نسبًا ودارًا ثم قال لهم: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يقصد عمر بن الخطاب وأبا عبيدة عامر بن الجراح، فقال عمر رضي الله عنه: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه عمر وأبو عبيدة ثم بايعه الأنصار ثم تمت بيعة أبي بكر الصديق في المسجد النبوي، ثم بايعه من لم يبايعه في السقيفة، وكان عمر رضي الله عنه قد خطب في المسلمين بالمسجد النبوي ومما قاله: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، فإن يكُ محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به بما هدى الله وإن أبا بكر صاحب رسول الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، فإنه أولى الناس بأموركم فقوموا فبايعوه  .  وهكذا توضح لنا هذه الروايات التي أخرجها غير واحد من أئمة الحديث والسنة صورة ما جرى في المدينة المنورة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
وواضح أن الأنصار رضي الله عنهم عندما كانوا يتشاورون في أمر اختيار أمير للبلدة (المدينة) خاصة، وللمسلمين عامة، قد نظروا من زاوية كونهم أصحاب الدار وسكان المدينة المنورة الأصليين، أما المهاجرون فقد وضعوا في اعتبارهم بعدًا آخر له أهميته الجوهرية وهو استمرار ولاء العرب لهذا الكيان الذي أسسه محمد صلى الله عليه وسلم، والعرب إنما ترى أن قريشًا هم أهل القيادة والسؤدد، ولهذا قال أبو بكر للأنصار رضي الله عنهم: (لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش)  .  وهكذا شهدت المدينة المنورة إنجاز نظام الخلافة الراشدة وكان مجتمعها قاعدة هذا النظام الراشد ومحل صفوته التي تضم أهل الفقه في دين الله، ولقد برز أمام قيادة المدينة المنورة الجديدة تحدٍّ كبير تمثل في ردة معظم العرب خارج المدينة المنورة فيما عدا أهل مكة المكرمة والطائف، وتعرض أمن المدينة المنورة للخطر من أولئك المرتدين، لهذا جعل أبو بكر الصديق على أنقاب المدينة المنورة رجالاً يحرسونها، منهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود  .  وفي ظل هذه الظروف الصعبة، أزمع المرتدون غزو المدينة المنورة حيث تجمعوا في ذي القصة والأبرق (مواضع قريبة من المدينة)، وقد ظن هؤلاء أن بأهل المدينة المنورة وهنًا، ولهذا أغاروا بالفعل على المدينة المنورة، فخرج أبو بكر ومعه النعمان بن مقرن، وعبد الله بن مقرن، وصدوا ذلك الهجوم. ونـزل أبو بكر بذي القصة، ليخيف تلك الجموع ما زاد ثبات أهل المدينة المنورة وقوى عزائمهم، ولما قدم أسامة بن زيد من الشام - وكان أبو بكر قد بعثه إنفاذًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - خـرج أبو بـكر لتتبع المرتدين  ،  وقد بقي أمام المدينة المنورة مواجهة حركات الردة في منابتها بقواها المتمردة، وهي لا تشكل فقط تهديدًا لأمن المدينة المنورة وإنما للأمن والنظام في الجزيرة العربية ككل، واستفحالها يؤذن بانتكاسة حضارية للعرب وعودة لدوامة الصراعات القبلية التي لم تخلف سوى البؤس والدمار في أرض الجزيرة العربية.
 
لقد تصدت المدينة المنورة حاملة مشعل الهداية المحمدية لتلك الانتكاسة الحضارية، وأسهم الأنصار والمهاجرون في دفع حركات الردة، وبرز دور الأنصار رضي الله عنهم واضحًا في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وغيرها من المعارك الموجهة ضد المرتدين، وقد استشهد في هذه المعركة وحدها ما يقرب من ستين وثلاثمئة رجل من أهل المدينة  
 
ظل أبو بكر رضي الله عنه يدير مجتمع المدينة المنورة ويتولى رئاسة الدولة الإسلامية حتى توفاه الله في جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة، وقبيل وفاته أوصى بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه 13-23هـ / 634 - 644م  .  وفي عهد عمر رضي الله عنه أصبحت المدينة المنورة عاصمة لدولة عظيمة الاتساع والامتداد نتيجة لحركة الفتوحات الإسلامية، فقد نازلت الفتوحات الإسلامية القوتين الرئيستين في شرق المتوسط وجنوبه، وفتحت مدنًا كبيرة كالمدائن ودمشق وبيت المقدس التي خرج عمر لاستلامها. وعندما تأزمت أوضاع المسـلمين في جبهة العراق سـنة 14هـ / 635م أزمع عمر الخروج بنفسه، فخرج من المدينة المنورة ونـزل عند ماء يقال له (صرار) عازمًا على غزو العراق بنفسه، واستخلف على المدينة المنورة علي بن أبي طالب واستصحب معه عثمان وسادات الصحابة رضي الله عنهم، ثم استشار القوم فأشار عليه عبد الرحمن بن عوف بالبقاء داخل المدينة المنورة على أن يرسل إلى العراق من يقود المسلمين هناك، فبعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه  
 
وكان قطار الفتوحات يمضي، والمدينة المنورة تستقبل الغنائم والثروات التي حازها المسلمون وكان ذلك مدعاة لترتيب أسماء الناس في صحائف على حسب القرابة من رسول الله والسبق والبلاء في الإسلام ومن ثم توزيع أعطيات مقررة عليهم، فكان عطاء من شهد بدرًا من المهاجرين والأنصار 5000 درهم  ،  وأعطى أبناء المهاجرين والبدريين الذين أسهموا في الغزوات 3000 درهم إلا الحسن والحسين رضي الله عنهما، إذ فرض لهما 5000 ألحقهما بأبيهما لمكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويلاحظ اختلاف اجتهاد عمر رضي الله عنه عن اجتهاد أبي بكر فيما يخص طريقة توزيع المال على الناس، إذ إن أبا بكر كان يقول: إن هذا المعاش الأسوة فيه خير من الأثرة، ويقول عن المهاجرين والأنصار: أجر أولئك على الله، أما عمر فكان يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه  ،  وكان عمر يعطي أهل المدينة المنورة بنفسه وكذلك القبائل القريبة منها  .  ولقد أسهمت تلك الأعطيات في ارتفاع المستوى الاقتصادي والمعيشي في مجتمع المدينة المنورة من غير أن تبدو لذلك آثار سلبية ملحوظة في عهد عمر رضي الله عنه، بحكم أن جزءًا من تلك الأموال المعطاة كثيرًا ما يتصرف بها في وجوه الخير والبر، كما أن حزم عمر وهيبته من عوامل بقاء ذلك المجتمع على صورته الأولى وحفظه من المؤثرات السلبية.
 
وواجهت المدينة المنورة في عهد عمر أزمة اقتصادية حادة عانى خلالها سكان المدينة المنورة وما حولها من البوادي والأرياف من الجوع والقحط بسبب انحباس المطــر ســنة 18هـ / 639م، وكانت الريـح تسفي ترابًا كالرماد فسمي ذلك العام بعام الرمادة، وقد اشتد الجوع بالناس والبهائم حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس  ،  وتأثرت البوادي والأرياف حول المدينة المنورة بهذه الأزمة بشكل كبير، فقد تلفت مواشيها واضمحلت زراعتها البسيطة، لهذا جفلت وفرت جموعهم إلى المدينة المنورة، فأنفق عليهم عمر من حواصل بيت المال ما فيه من الأطعمة والأموال   واسترفد ولاة الأقاليم المفتوحة وأمر رجالاً يقومون عليهم ويقسمون عليهم الطعام، وقد أضاف ذات مرة عشرة آلاف، أما عيالاتهم وذراريهم فبلغوا خمسين ألفًا  ،  وألزم عمر نفسه بمتابعة الناس في هذه الأزمة الاقتصادية التي استمرت تسعة أشهر ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة وانشمر الناس عن المدينة المنورة إلى أمكنتهم  
 
ظلت المدينة المنورة تعيش في ظل إدارة عمر بن الخطاب وبإشرافه، وفي نهاية العام الثالث والعشرين للهجرة تعرض ذلك الخليفة العادل للطعن من قبل مولى المغيرة بن شعبة أبي لؤلؤة وهو يؤدي الصلاة إمامًا بالمسلمين بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل عمر إلى بيته جريحًا، فسأل: من قتلني؟ فأخبروه، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، وأوصى بأن تكون الخلافة بعده في ستة من الصحابة المهاجرين وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن عوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. وقد تشاور هؤلاء الستة في هذه المسألة وتولى أمر الشورى عبد الرحمن بن عوف، وكانت نتيجتها اختيار عثمان بن عفان خلفًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه  
 
وكان أسلوب عثمان بن عفان رضي الله عنه يختلف في إدارته لمجتمع المدينة المنورة، وللأقاليم الإسلامية الأخرى عن منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سيرها على مبادئ الإسلام وسننه إلا أن فارق الخصائص بين الرجلين جعل هناك تغايرًا بينهما في كثير من التطبيقات والممارسات.
 
استقبلت المدينة المنورة خليفتها الجديد بعد أن أمست ثكلى حزينة جراء قتل الخليفة الثاني، حتى كأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ  .  يقول ابن عباس: إنه ما مر بملأ إلا وهم يبكون وكأنما فقدوا اليوم أبكار أولادهم  
 
ولقد شهدت مرحلة الخليفة عثمان بن عفان تفاعل مجموعة المؤثرات التي تغيرت معها صورة حياة الناس الاجتماعية واتسعت الرفاهية التي لم تكن موجودة في عهد عمر رضي الله عنه، ومع انتشار القبائل في الأقاليم والأمصار وانتشار الرخاء وظهور قوى محلية نشطة في بعض المدن الإسلامية أرادت التعبير عن ذاتها ومصالحها، ظهرت بوادر الفتنة والاعتراض على بعض سياسات عثمان رضي الله عنه وبعض ولاته من أقاربه، وشهدت المدينة المنورة في أواخر عهد عثمان قدوم أهل الفتنة والتمرد من مصر والكوفة والبصرة، وقد ناقشهم عثمان رضي الله عنه وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا الطاعة ولا يفارقوا جماعة   ثم غادروا باتجاه بلدانهم، لكنهم ما لبثوا أن رجعوا إلى المدينة المنورة مثيرين بعض المزاعم والافتراءات ثم حوصر عثمان في داره بالمدينة المنورة من قبل أهل الفتنة، أكثر من شهر وقيل عشرين يومًا وقيل أربعين يومًا وقيل غير ذلك  .  وقد دافع عنه مجموعة من أبناء الصحابة بطلب من آبائهم منهم: الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير وكان أمير الدار، وعبد الله بن عمر. وقد دعاهم عثمان إلى العودة إلى منازلهم وترك المدافعة عنه  ،  أما أولئك المحاصرون لعثمان فقد تسوروا عليه داره فقتلوه رضي الله عنه في ذي الحجة سنة 35هـ / 655م ويمـثل ذلك انتـهاكًا لحـرمة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وتجرؤًا على سفك دم الخليفة، في موسم مبارك إذ تزامنت تلك الحوادث مع موسم الحج  .  وقد حلت بالمدينة المنورة كارثة عنيفة بسفك دم الخليفة بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم في تحدٍّ سافر لقيم الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وترك أولئك العصاة المتمردون جروحًا غائرة في جسم الأمة بفتح أبواب الفتنة، وفي ظل هذه الأجواء المضطربة التي شهدتها المدينة المنورة، بويع بالخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وقد خرج علي رضي الله عنه، فبايعه الناس من المهاجرين والأنصار وغيرهم  .  وروى ابن سعد أن البيعة لعلي إنما كانت في اليوم الثاني من مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبايعه جميع الصحابة، ممن كان بالمدينة المنورة  .  وقد رأى علي رضي الله عنه الخروج إلى العراق لمواجهة المشكلات التي نشأت في دولته، وكان خروجه من المدينة المنورة في آخر شهر ربيع الآخر سـنة 36هـ / 656م  .  ولم يكن خـروج علي بن أبي طالب من المدينة المنورة بصفته خليفة المسلمين للإقامة في الكوفة حدثًا عاديًا، فهو يمثل بداية إنهاء دور المدينة المنورة السياسي كعاصمة مركزية للدولة الإسلامية   بعد أن انطلقت منها، لتصبح المدينة المنورة منذ ذلك الحدث ولاية من ولايات الدولة الإسلامية، وممن تولاها في عهد علي بن أبي طالب في رواية ابن خياط تمام بن العباس وسهل بن حنيف ثم أبو أيوب الأنصاري  
 
تميز عهد الراشدين بأن الخليفة كان يعايش مجتمع المدينة المنورة ويحتك بأفراده ويباشر حل مشكلاته ويقبل التعقيب والمراجعة  ،  وبالإضافة إلى القيادة السياسية كان الخليفة يتولى الصلاة بالناس في المسجد النبوي والقيادة الروحية والثقافية للأمة مع خوف من الله ووعي ديني عميق، إضافة إلى أن هؤلاء الخلفاء كانوا على درجة من الزهد والتقشف وترسم السنة والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
 
لقد كان ذلك العهد معبّرًا عن المنهج الإسلامي في مجال الإدارة والحكم؛ ذلك المنهج الذي يعطي مجالاً كبيرًا للاجتهاد في الجانب السياسي والإداري تبعًا للظروف والمتغيرات والمصالح المتوخاة.
 
ومن أبرز الإنجازات الحضارية التي شهدتها طيبة في عهد الراشدين رضي الله عنهم جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق، وجمع الناس على مصحف واحد وتعميمه على أنحاء العالم الإسلامي في عهد عثمان رضي الله عنه، ويمثل ذلك خطوة رائعة جنبت الأمة شرورًا كثيرة جراء الاختلاف في كتاب الله، فقد شهدت المدينة المنورة عملية جمع القرآن الكريم من اللخاف والعسب   وصــدور الرجال عام 12هـ / 633م لاستشهاد عدد من القراء حفّاظ القرآن في معركة اليمامة  ،  حيث أمر الصديق زيد بن ثابت الأنصاري بالقيام بهذه المهمة إذ لم يكن القرآن الكريم مجموعًا في كتاب؛ ويحتمل أن ذلك عائد إلى ما كان يُتَرَقّبُ من ورود النّسْخ لبعض الأحكام أو تلاوتها، فلما انقضى نـزوله بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ألهم الله ذلك أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فإنه هو الذي أشار على أبي بكر بجمع القرآن بعد معركة اليمامة، وجاء ذلك وفاء لوعد الله الصادق بضمان حفظه، وفي عهد عثمان بن عفان أفزع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختلاف المسلمين في قراءة القرآن الكريم، فدعا عثمان أن يدرك هذه الأمة لئلا يختلفوا في الكتاب، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوا الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر رضي الله عنه في مصاحف أرسلت إلى الأمصار  
 
وفي عهد الراشدين كانت المدينة المنورة كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم منبع الحركة الفكرية والثقافية في الدولة الإسلامية، وأهم مراكز تلك الحركة؛ فهي دار السنة ومجمع الصحابة ومنها انتشر العلم الشرعي إلى بقية المدن والأمصار بخروج عدد من الصحابة منها، وكان القرآن الكريم تلاوة وتدبرًا وحفظًا محور النشاط العلمي في المدينة المنورة آنذاك، إلى جانب ذلك كانت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتم مع احتياط وتوثق خشية أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب والتحريف، وقد حمل عمر رضي الله عنه الناس على التروي فيما يروون، ولما عرف عن بعض الصحابة إتقانًا وحفظًا سمح لهم بالتحديث والرواية   وقد يحدث أن يطلب من الراوي شاهدًا ليؤكد روايته  
 
ولقد كان المسجد النبوي وبيوت الصحابة من أمكنة التعليم والرواية الرئيسة في ذلك العهد، ودور المدينة المنورة الريادي في الجوانب العلمية بحكم وجود أعداد كبيرة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا غرابة أن ينظر الفقهاء إلى عمل أهل المدينة المنورة كأحد المصادر التي تؤخذ بعين الاعتبار عند تأصيل الأحكام الشرعية  
 
وقد واصل المسجد النبوي دوره التاريخي الخالد في التعليم والدعوة ونشر الفقه في الدين في عهد الخلفاء الراشدين محافظًا بذلك على دوره المتأصل منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان مركز الأنشطة العلمية والتربوية والسياسية، إلى جانب كونه مركزًا لأداء الشعائر التعبدية تؤدى فيه الصلوات وتقام فيه الجمع والجماعات  .  وقد جرت في عهد عمر رضي الله عنه توسعة وزيادة في عمران المسجد تقدر بعشرين ذراعًا من جهة الشمال، وتقدر زيادة عمر تلك بـ 1100م  ، وقد استعملت في التوسعة الجديدة أعمدة من جذوع النخل والطوب، وبلغ ارتفاع سقف المسجد 5.5م.
 
وفي عهد عثمان رضي الله عنه نشأت الحاجة إلى الزيادة في المسجد النبوي وتوسعته، فقد ضاق بالمصلين وتفتتت الجذوع التي تحمل السقف وتقدر الزيادة التي حدثت في عهد عثمان بنحو 496م  .  وقد بناه عثمان رضي الله عنه بالجص، وجعل أعمدته من حجارة وسقفه بالساج  
 
وهكذا نال هذا المسجد العظيم من الاهتمام في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ما يليق بفضله ودوره في حياة الناس البسيطة - آنذاك- وما يتناسب ومكانته والحاجة إلى توسيعه وعمارته، إذ يفد إليه المسلمون من البادية والريف والبلدان الجديدة التي أضيفت إلى دولة الراشدين لما له من الشرف والفضل ولاحتضانه المرجعيات الفقهية المعتبرة في ذلك الزمن.
 
شارك المقالة:
59 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook