العهد السفياني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد السفياني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

العهد السفياني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

 
 

 معاوية بن أبي سفيان

 
لقد اتخذ أول خلفاء الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما دمشق عاصمة للدولة الأموية لتوسط موقعها في العالم الإسلامي، ولوجود الأتباع المخلصين له من أهل الشام بحكم الفترة الطويلة من حكمه للشام خلال عهد الخلفاء الراشدين الذي استمر من سنة 18هـ / 639م إلى خلافته سنة 41هـ / 661م
 
أثّر انتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة في عهد الخلفاء الراشدين، واستقرارها في دمشق خلال عهد الدولة الأموية تأثيرًا سلبيًا على بلاد الحجاز عمومًا، ومنطقة مكة المكرمة خصوصًا، إذ فقدت هذه المنطقة الثقل السياسي الذي كانت تشغله في عهد الخلفاء الراشدين، والثقل الاقتصادي الذي كانت تضطلع به منذ عصر ما قبل الإسلام؛ بسبب تحول خطوط التجارة العالمية إلى الأمصار المفتوحة عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، وتبع ذلك ضعف الطريق البري الذي كانت مكة المكرمة تمسك بزمام التجارة العالمية من خلاله
وبناء على ذلك تحولت منطقة مكة المكرمة إلى مجرد ولاية تابعة للدولة الأموية، وإن كان ذلك لم يقلل من المكانة الدينية الخاصة لها بحكم وجود الكعبة المشرفة والمسجد الحرام والمشاعر المقدسة، ولوجود بقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبناء المهاجرين، وبعض آل البيت بها؛ لذلك كانت موضع عناية معاوية بن أبي سفيان واهتمامه رضي الله عنهما
 
تمثلت عناية معاوية بن أبي سفيان بمكة المكرمة من خلال اهتمامه بشؤون الإمارة؛ ما يدل على ذلك توليته الإمارة في مكة المكرمة لأخيه عتبة بن أبي سفيان، وعدد من وجوه قريش والبيت الأموي ومنهم عبدالرحمن بن خالد بن العاص، والحارث بن خالد بن هشام   ومروان بن الحكم جمعها له مع المدينة المنورة، وعمرو بن سعيد (الأشدق)، وعبدالله بن خالد بن أسيد  .  وحج معاوية بن أبي سفيان خلال خلافته حجتين؛ الأولى سنة 44هـ والثانية سنة 50   وقد تجلى في كلتا الحجتين من حسن سياسته وكرمه على أهل الحرم الشيء الكثير، وبخاصة كبار المهاجرين والأنصار، تعويضًا لهم عمَّا فقده بلدهم من الزعامة والسلطة  .  كما وفد إليه في الشام كبار أبناء الصحابة من مكة المكرمة فأغدق عليهم من كرمه ما لا يوصف، ووَسِعَهَم بحلمه الواسع، وأخلاقه المتينة متحملاً جرأة بعض المعارضين منهم بصبر قلَّما يكون له مثيل بين الرجال  .  وحتى عندما حدثت المعارضة من أبناء الصحابة لبيعة يزيد ولم ينجح عماله في انتزاع البيعة منهم، حضر بنفسه، وعمل على معالجة الموضوع بأساليبه المعروفة التي تجمع بين الترغيب والترهيب والحلم والدهاء، وقد عاد إلى الشام بعد أن أقنع الناس بمبايعتهم، وإن لم يفلح في إقناع هؤلاء المعارضين بالبيعة ليزيد  .  وعمل معاوية رضي الله عنه بعض الإصلاحات في مكة المكرمة شملت إصلاحات في المسجد الحرام، وعني بمياه الشرب في مكة المكرمة، فأنشأ نحو عشر عيون اتخذ لها أفنانًا (بساتين)، وفيها النخل والزروع
وهذه السياسة التي اتبعها معاوية في مكة المكرمة تختلف عن سياسته في المدينة المنورة، إذ هي (أي مكة المكرمة) مركز الأسرة الأموية وموطن تراثهم الغابر، فضلاً عن موقفها مع الأمويين في المطالبة بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيها كان تجمع الأمويين وغيرهم من الناقمين على قتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومنها انطلقوا للمطالبة بالقصاص له من قاتليه؛ ولم يكن بمكة المكرمة وقت قيام الدولة الأموية عدد كبير من المعارضين للأمويين، بل كانت صلة أهل مكة المكرمة بالأمويين أكثر من أهل المدينة المنورة، إذ انتقل كثيرون منهم إلى الشام للمشاركة في الدولة الأموية الناشئة
 
نعمت مكة المكرمة خلال خلافة معاوية - بصفة عامة - بالهدوء والاستقرار، وعمَّ الرخاء الحاضرة والبادية ورضي أهل مكة المكرمة بخلافة معاوية لصحبته، ومكانته، وحسن سياسته، ولكن لم تقبل جماعة منهم البيعة لابنه يزيد، وقد ظل ذلك هاجسًا يؤرق معاوية حتى حانت وفاته سنة 60هـ / 679م، فترك لابنه يزيد وصية تحثه على الاهتمام بأهل الحجاز ورعايتهم، ولكنه في هذه الوصية حدد له الأشخاص الذين يشكلون خطرًا على خلافته  ،  ورسم له طريقة التعامل مع كل منهم  .  أما الطائف إحدى بلدات منطقة مكة المكرمة وموطن قبيلة ثقيف فقد كان موقفها لا يختلف كثيرًا عن موقف مكة المكرمة انطلاقًا من التحالف القديم والصلات التجارية بين البيت الأموي وقبيلة ثقيف، لذلك كان قيام الدولة الأموية موضع ترحيب من الثقفيين سكان الطائف فدخل معظمهم في طاعة الدولة الأموية  .  وقد اعتمد معاوية على أمراء من ثقيف في ترسية قواعد الحكم الأموي، فأظهروا من الإخلاص والكفاءة قدرًا كبيرًا في حكم أصعب أقاليم الدولة الأموية وأكثرها اضطرابًا وهو إقليم العراق. ومن هؤلاء الأمراء من ثقيف المغيرة بن شعبة الذي ولاه معاوية الكوفة فنجح في إخماد ثورات الخوارج والشيعة  .  ومن الولاة البارزين الذين اعتمد عليهم معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه الذي ولاه البصرة فضبط أمورها، ثم ضم إليه الكوفة بعد وفاة المغيرة بن شعبة، فكان أول من جُمع له مِصْرا العراق؛ البصرة والكوفة، بل بلغ من إعجاب معاوية بكفاءة الرجل أن ولاه النصف الشرقي من الدولة الأموية  .  لذلك لا نستغرب اهتمام معاوية بالطائف وحرصه على تنميتها بإنشاء السدود والمشروعات الزراعية الكبرى لملاءمة أرضها الخصبة، فكان لذلك المردود الجيد على سكان الطائف
 

 يزيد بن معاوية 

 
بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في رجب سنة 60هـ / 680م، تسلم ابنه يزيد الخلافة، وعندها لحق عبدالله بن الزبير بمكة المكرمة ليمتنع بالحرم وجمع مواليه وجعل يظهر عيوب يزيد بن معاوية، ويثبط الناس عنه، ويجتمع بالناس فيقوم فيهم الأيام فيذكر مساوئ بني أمية ويطنب في ذلك  ،  وامتنع عن مبايعة يزيد بالخلافة واحتمى بالبيت ولقب نفسه بالعائذ بالبيت  .  وعندما فشل أمير مكة المكرمة عمرو بن سعيد (الأشدق) في إيقاف حركة ابن الزبير عزله يزيد وولى بدلاً منه الوليد بن عتبة، وبعث جيشًا من الشام بقيادة عمرو بن الزبير (أخي عبدالله بن الزبير) الموالي لبني أمية، فهزمه عبدالله بن الزبير وزجَّ بقائد الجيش (أخيه) في السجن
 

حرق الكعبة

 
بعد أن فرغ قائد الجيش الأموي مسلم بن عقبة المري من قتال أهل المدينة المنورة وهزيمتهم في موقعة الحرة  ،  توجه إلى مكة المكرمة حسب أوامر يزيد لقتال عبدالله بن الزبير، ولكن أدركه الموت في الطريق فاستدعى الحصين بن نمير السكوني وسلمه القيادة بوصية من يزيد فتوجه الحصين إلى مكة المكرمة، وكانت قوة عبدالله بن الزبير قد ازدادت بقدوم المنهزمين من موقعة الحرة في المدينة المنورة، والخوارج بقيادة نجدة بن عامر الحنفي الذين بقوا في مكة المكرمة بعد موسم الحج للدفاع عن البيت، فحدثت جولات بين قوات الحصين بن نمير وقوات عبدالله بن الزبير كانت كفة ابن الزبير فيها هي الراجحة، ولما لاحظ ذلك قائد جيش يزيد أمر برمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق في شهر ربيع الأول سنة 64هـ / 684م فاحترقت الكعبة المشرفة، وقيل احترقت الكعبة المشرفة من نار كان يوقدها أصحاب عبدالله بن الزبير وأقبلت شرارة هبت بها الريح فاحترقت كسوة الكعبة المشرفة ثم احترق خشبها، ويرجح ابن الأثير القول الأول  .  وفي أثناء الحصار توفي يزيد بن معاوية في الأول من ربيع الآخر سنة 64هـ / 683م فوصل خبر وفاته إلى عبدالله بن الزبير قبل قائد الجيش الشامي، فبعث له عبدالله بن الزبير وفدًا من وجوه قريش فكلموه وعظَّموا عليه ما أصاب الكعبة المشرفة، وقالوا له: إن ذلك منكم رميتموها بالنفط، فأنكر ذلك، فقالوا له وقد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ما يجتمع عليه رأي صاحبك (يعني الخليفة الجديد معاوية بن يزيد) وهل يجتمع عليه الناس؟ فما زالوا به حتى لان لهم، ثم طلب عبدالله بن الزبير لقاءه في الأبطح، فالتقيا فكان مما قاله له الحصين بن نمير: أنت أحق بهذا الأمر هلم نبايعك، ثم اخرج إلى الشام فو الله لا يختلف عليك اثنان فَتؤمِّن الناس وتهدر هذه الدماء التي بيننا وبين أهل الحرة، فرفض عبدالله بن الزبير ذلك، وكان الحصين بن نمير يكلمه سرًا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل، فقال الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذا أريبًا داهية أكلمك سرًا وتكلمني جهرًا، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل والهلكة، ثم فارقه ورحل إلى الشام  .  وفي رواية عند الطبري أن ابن الزبير ندم وبعث إلى الحصين: أما المسير إلى الشام فلا أفعله، وأكره الخروج من مكة المكرمة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك فلا يتأتى الأمر، فإن هناك ناسًا من بني أمية يطلبون الأمر
 
 

حكم عبدالله بن الزبير

 
بعد رحيل الجيش الشامي وتنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة دعا عبدالله بن الزبير إلى نفسه بالخلافة  ،  وبويع له في مكة المكرمة والمدينة المنورة وسائر الحجاز، كما امتد نفوذه إلى اليمن ومصر والعراق وخراسان وأغلب بلاد الشام، وأصبحت له الخلافة الشرعية لشغور منصب الخلافة بعد تنازل معاوية بن يزيد وبيعة أغلب الأمصار وإجماعهم على خلافته
 
أصبحت مكة المكرمة في عهد عبدالله بن الزبير عاصمة الدولة الإسلامية، منها يوجه الولاة على الأقاليم ومنها تصدر الأوامر إليهم فأعاد بذلك الثقل السياسي الذي فقدته بلاد الحجاز منذ انتقال الخلافة من المدينة المنورة إلى الكوفة في آخر عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إلى دمشق منذ قيام الدولة الأموية سنة 41هـ / 661م. وفي أثناء خلافة عبدالله بن الزبير عمل في مكة المكرمة عددًا من الإصلاحات تليق بمكانتها الدينية ثم السياسية الجديدة من إنشاء الدواوين والإدارات المختلفة وبيوت المال إلى آخر ما هنالك مما تتطلبه عاصمة الدولة، ولكن بصورة مبسطة حسبما عهدت في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، هذا إلى جانب بعض الإصلاحات العامة في مكة المكرمة يمكن إيجازها فيما يأتي
 
 تجديد عمارة الكعبة المشرفة عام 64هـ / 683م بعد أن تهدمت في حصار مكة المكرمة الأول، وقد أعاد بناءها على قواعد إبراهيم الخليل عليه السلام، بناء على ما سمعه من خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة المشرفة ولأدخلت فيها الحِجر (بكسر الحاء، حجر إسماعيل عليه السلام) فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا"، فأعاد ابن الزبير بناء الكعبة المشرفة على ضوء ما جاء في الحديث وأدخل فيها ست أذرع من حجر إسماعيل عليه السلام
توسعة المسجد الحرام عام 65هـ / 684م إذ اشترى دورًا وسَّع بأرضها المسجد الحرام شرقًا وشمالاً وجنوبًا وبلغت مساحة المسجد بعد تلك التوسعة 32.400 ذراع مربعة، واتخذ للمسجد رواقًا مسقوفًا على عمد مروية ورخامية
الاهتمام بتوفير مياه الشرب من طريق العناية بالعيون التي أنشأها معاوية بن أبي سفيان، وحفر آبار جديدة 
تنمية الزراعة في المناطق المجاورة لمكة المكرمة، فقد أنشأ البساتين من ماله الخاص في أطراف مكة المكرمة والأودية المجاورة لها
تخطيط بعض شوارع مكة المكرمة وهدم بعض الدور لتوسعتها.
إنفاذ الطريق الجبلي الموصل لمحلة النقا بمحلة القرارة، وهو الطريق المسمى الآن بالفلق
حث أصحاب الثروات الضخمة من قريش على إحياء الأرض في ضواحي مكة المكرمة لتوفير الحبوب والخضراوات، وكذلك فعل في الطائف حتى بلغت الطائف في عهده شأوًا زراعيًا لم تبلغه قبله
تشجيع الصناعة من طريق المهاجرين المقيمين بمكة المكرمة فأسسوا بيوتًا للصناعة بمكة المكرمة  .  ويعلق أحمد السباعي بعد ذكر الإصلاحات السابقة في مكة المكرمة بقوله: " ولو دام ابن الزبير ولم تشغله الفتن والحروب لنهض بشؤون مكة المكرمة بما يوافق نظرته الخاصة بها
في الوقت الذي كانت فيه خلافة عبدالله بن الزبير قائمة في مكة المكرمة نجح الأمويون في استعادة نفوذهم على كامل بلاد الشام، ثم مصر بقيادة مروان بن الحكم، ثم في العراق والمدينة المنورة واليمن في عهد ابنه وخليفته عبدالملك بن مروان، وبقي نفوذ عبدالله بن الزبير في مكة المكرمة وحدها، وتناقصت قوة عبدالله بن الزبير خلال تَوسّعات الأمويين بعد أن انفصلت عنه كثير من الأقاليم ذات القوة الاقتصادية والبشرية مثل مصر والعراق وخراسان، وتحولت قوتها لصالح الأمويين، كذلك تخلى عنه الخوارج بعد اختلافه معهم، وانسحب أهل المدينة المنورة إلى مدينتهم، وبذلك أصبح ابن الزبير شبه محصور في مكة المكرمة وليس معه سوى قوة صغيرة، وكما فقد ابن الزبير القوة العسكرية فقد أيضًا التأييد الشعبي له خصوصًا بعد وقوف بني هاشم، وبعض أبناء الصحابة مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر على الحياد في الصراع بينه وبين الأمويين
 
شارك المقالة:
72 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook