العهد العباسي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد العباسي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

العهد العباسي بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 

 الأوضاع السياسية في مكة المكرمة 

 
زالت دولة بني أمية بقوة ثورة داخلية هي الثورة العباسية سنة 132هـ / 750م بصورة فريدة في تاريخ الدول الكبرى في العالم الإسلامي  .  وحلَّ العباسيون محل الأمويين في حكم بلاد الإسلام ومن ضمنها بلاد الحجاز بمصريها العظيمين المدينة المنورة ومكة المكرمة. وكما كان عليه الحال في العهد الأموي أصبحت الحجاز موطنًا للمعارضة العلوية ضد العباسيين لأسباب لا يتسع المجال لبسطها هنا
 
1 - ثورات العلويين:
 
بدأت المعارضة العلوية لخلافة العباسيين منذ وقت مبكر من قيام دولتهم سنة 132هـ / 749م، فقد امتنع محمد بن عبدالله (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم عن مبايعة أبي العباس السفاح، وتواريا عن أنظار والي المدينة المنورة طيلة خلافة السفاح 132 - 136هـ / 749 - 754م، ولكن ذلك كان نذيرًا بقرب ثورتهما التي تمت في عهد المنصور. وقد عدَّ (السباعي) سبع ثورات منذ قيام الدولة العباسية سنة 132هـ / 749م إلى قيام إمارة الأشراف المستقلة بمكة المكرمة سنة 358هـ / 968م  ،  ولا يتسع المجال لذكر تفاصيل تلك الثورات، لذلك ستتم الإشارة إلى اثنتين منها نموذجًا لتلك الثورات مع بيان أثرهما في مكة المكرمة
 
أ) ثورة ابن طباطبا:
 
قامت في جنوب العراق سنة 199هـ / 815م في عهد الخليفة العباسي المأمون وامتدت إلى مكة المكرمة حينما بعث قائد الثورة باسم العلويين أبوالسرايا السري منصور الشيباني أحد العلويين، وهو الحسين بن الحسن الملقب بالأفطس إلى مكة المكرمة للاستيلاء عليها لإكساب ثورته في العراق سمعة طيبة بإقامة الحج للناس، وكسوة الكعبة المشرفة التي بعثها ليراها كل من حضر الموسم وكتب عليها اسمه والعام الذي صنعت فيه سنة 199هـ / 815م  .  وعلى كل الأحوال فإن امتداد ثورة ابن طباطبا إلى مكة المكرمة، بالإضافة إلى أنه قد أثر في موسم الحج ذلك العام، فإنه قد كشف عن اتجاه جديد لثورات العلويين تبرز فيه ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل في ثورات العلويين السابقة، وهي ظاهرة اتخاذ قادتها سياسة تخريبية تعتمد أسلوب السلب والنهب والإفساد في الأرض حتى في الأمكنة المقدسة؛ فهذا الحسين (الأفطس) ومن معه من الثوار قد ارتكبوا في مكة المكرمة كثيرًا من أعمال السلب والنهب وإيذاء الناس الأبرياء وتهديم دورهم، ولم يسلم من شرهم والنهب والسلب حتى المسجد الحرام فخلعوا شبابيكه وشبابيك زمزم وباعوها، وأزالوا الذهب الرقيق في رؤوس أساطين المسجد الحرام  .  ومن التطورات التي آلت إليها هذه الثورة ظهور خلافة للعلويين في مكة المكرمة في ربيع الأول سنة 200هـ / 815م   بقيادة محمد بن جعفر الصادق الملقب ب (الديباجة) لجمال وجهه، ولكنها لم تدم وقتًا طويلاً، إذ سقطت على أيدي قوة بعثها الخليفة العباسي المأمون، ثم سَلَّم محمد الديباجة نفسه، وأعلن تنازله عن الخلافة، واعتذر إلى الناس مما بدر منه، فأُرسل إلى المأمون في مرو فعفا عنه
 
ب) ثورة إسماعيل بن يوسف:
 
قامت في مكة المكرمة سنة 251هـ / 865م بقيادة إسماعيل بن يوسف الحسني الذي أمعن خلال ثورته بأعمال القتل والسلب والنهب والإحراق والحصار والتجويع في مكة المكرمة  ،  ثم فرض الحصار على المدينة المنورة  ،  ونهب المحال ومتاجر التجار في جدة  ،  وعاث في الأرض فسادًا، واستمر في ذلك طيلة سنة كاملة لم تتحرك الخلافة العباسية ولم تقم بأي عمل ضد هذه الثورة، ولكن الله سبحانه استجاب دعاء المظلومين فَسلَّط على قائد الثورة مرض الجدري فتوفي آخر سنة 252هـ / 866م وعمره اثنتان وعشرون سنة
هذه الأعمال التي قام بها إسماعيل بن يوسف تبدو عليها سمات أعمال السلب والنهب التي اعتاد عليها بعض أهل البادية في أنحاء الجزيرة العربية في فترة ضعف الخلافة العباسية، وقد أشارت المصادر إلى خروج بني عقيل وقطعهم الطريق بين مكة المكرمة وجدة قبل ثورة إسماعيل بن يوسف بسنة واحدة، ونتيجة لضعف أمير مكة المكرمة وعدم قدرته على كبح جماحهم، انفلت حبل الأمن في منطقة مكة المكرمة، وأغار الأعراب على القرى المجاورة لمكة المكرمة  .  وقد استغل إسماعيل بن يوسف هذه الموجة من الأعراب فجمعهم حوله وأغار بهم على كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، وأطلق أيديهم في القتل والسلب والنهب والتدمير في جميع جهات مكة المكرمة، ولعله لم تكن له سيطرة عليهم، إذ أحسن الظن بهم ولكن ذلك ليس عذرًا له لأنه كان بإمكانه إذا لم يستطع أن يكبح جماحهم أن يتخلى عنهم ويتبرأ من أعمالهم، لكن الذي حصل عكس ذلك فقد ظل قائدًا للثورة حتى توفاه الله بالجدري، وأراح سكان الحرمين الشريفين من شره
 
2 - تدهور النفوذ العباسي:
 
تمثل بلاد الحجاز عمومًا ومكة المكرمة على وجه الخصوص بمكانتها الدينية في نفوس المسلمين أهميةً خاصة للخلفاء العباسيين، يضاف إلى ذلك تركز المعارضة من العلويين في هذه البلاد، لذلك لا نستغرب اهتمام الخلافة العباسية بهذه المنطقة من العالم الإسلامي، فقد حرصت منذ قيامها على تقوية نفوذها في بلاد الحجاز، وعلى حكمها حكمًا مباشرًا بوساطة أمراء من البيت العباسي محل ثقة الخلفاء العباسيين، وعدم الاعتماد على أمراء من خارج الأسرة العباسية إلا في القليل النادر وممن عرفوا بولائهم الشديد للعباسيين
وقد اتخذ خلفاء العهد العباسي الأول سياسة مزدوجة في الحجاز تفرق بين عامة الناس والمسالمين من العلويين وبين الناشطين من العلويين المتطلعين إلى الخلافة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه هذه السياسة متسامحة كريمة مع عامة الناس والمسالمين من العلويين تميل إلى العطف على أهل هذا البلد وإغداق الهبات والعطايا لهم من خلفاء هذا العهد الذين كثر قدومهم لأداء فريضة الحج، وإنفاقهم الأموال الطائلة لتأليف القلوب حولهم، وإبعادها عن الخارجين عليهم  ،  نجد في الوقت نفسه سياسة بعض خلفاء العهد العباسي الأول مثل المنصور والهادي والرشيد والمعتصم تميل إلى القسوة واتخاذ الشدة مع النشطاء من العلويين، فنجدهم في أحيان كثيرة يعمدون إلى استثارة الذين يخشون منهم من العلويين لحملهم على الثورة، ثم يخمدون ثوراتهم بكل قسوة ويقضون عليهم دون هوادة أو رحمة، كما فعل المنصور مع محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، وكما فعل الهادي مع الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب  ،  وكذلك مع أنصارهم كما فعل المنصور أيضًا مع الشاعر سديف بن ميمون عندما بلغه عنه بيتان من الشعر   فيهما تنديد بسياسته وتأييد للعلويين، فأمر عمه داود بن علي أمير مكة المكرمة بدفنه حيًا ففعل  .  ولكن هذا الاهتمام بالحجاز عمومًا ومكة المكرمة على وجه الخصوص تراجع في العهد العباسي الثاني؛ بسبب ضعف الخلافة العباسية، وانشغالها بمشكلاتها الداخلية، ووقوع الخلفاء تحت سيطرة الأتراك؛ ما أضعف هيبة والي مكة المكرمة. وقد تمثل ضعف اهتمام الخلافة العباسية بالحجاز في عدد من المناسبات، منها - على سبيل المثال - بطء استجابة الخلافة العباسية لمعالجة خروج الأعراب وإفسادهم في البلاد، بالإضافة إلى تأخرها في القضاء على ثورات العلويين التي قامت في مكة المكرمة خلال القرن الثالث الهجري، كما رأينا من قبل في ثورة إسماعيل بن يوسف سنة 251هـ / 865م
وعندما ازداد ضعف الخلافة العباسية لم تعد قادرة على حماية مكة المكرمة التي أصبحت عرضة لكثير من الخارجين على الخلافة في بغداد مثل أحمد بن طولون - حاكم الدولة الطولونية في مصر - الذي أرسل حملة إلى مكة المكرمة سنة 269هـ / 882م للاستيلاء عليها نكاية في أخي الخليفة العباسي المعتمد أبي طلحة الموفق أحمد، فهرب والي مكة المكرمة في بداية قدوم الحملة، ثم عاد وتمكن من هزيمة الطولونيين بالمدد الذي بعثه له الموفق أحمد بقيادة جعفر بن الباغمردي، وبمساعدة من الحُجاج سنة 269هـ / 882م  .  وتعد حملة ابن طولون سابقة خطيرة في تاريخ مكة المكرمة والحجاز عمومًا، إذ حرصت كل الدول التي قامت في مصر بعد ابن طولون على الاستيلاء على إقليم الحجاز للاستفادة من مكانته الدينية في تدعيم نفوذها، وإكساب حكمها الشرعية المطلوبة  .  وبلغ ضعف الخلافة العباسية مداه مع بداية القرن الرابع الهجري، إذ لم تفعل الخلافة العباسية شيئًا حيال ثورة محمد بن سليمان الحسني الثائر سنة 301هـ / 913م، ولم تفعل شيئًا إزاء غزو قرامطة البحرين لمكة المكرمة سنة 317هـ / 929م بقيادة أبي طاهر القرمطي على الرغم مما ارتكبوه فيها من الفظائع التي تقشعر لها الأبدان  
وأخيرًا عندما اتضح للعباسيين ضعفهم عن حماية الحرمين الشريفين من أطماع الطامعين، سلموا أمر مكة المكرمة لمحمد بن طغج الإخشيد - حاكم الدولة الإخشيدية في مصر - سنة 332هـ / 943م وذلك في عهد الخليفة العباسي المتقي لله 329 - 333هـ / 940 - 944م الذي أقرَّه على حكم مصر والشام، وأضاف إليه الحرمين الشريفين   لحمايتهما من هجوم آخر محتمل من قبل القرامطة لحساب الفاطميين في المغرب. والحقيقة أن مكة المكرمة لم تستفد من بسط حماية الإخشيد عليها بقدر ما تضررت من ذلك تضررًا شديدًا، فقد وقعت حرب بين حجاج العراق وبين حجاج مصر؛ بسبب الخلاف على الخطبة، فأهل العراق يريدون الخطبة لبني بويه في العراق، وأهل مصر يريدون الخطبة للإخشيد في مصر، وحصل اضطراب شديد في موسم الحج، وتضرر أهل مكة المكرمة من ذلك تضررًا شديدًا  .  وهكذا عانت مكة المكرمة انقطاع الموسم في سنوات فتن الإخشيديين وهم بعيدون عنها، كما عانت كذلك بعد اتصالهم بها حروبَهم وأهوالهم، وقد دام ذلك إلى نهاية الحكم الإخشيدي سنة 358هـ / 969م بسقوط مصر في أيدي الفاطميين القادمين من المغرب 
 

 إمارة الأشراف الحسنيين 

 
خلال الفترة الزمنية الممتدة من قيام إمارة الأشراف المستقلة في مكة المكرمة سنة 358هـ / 968م إلى سقوط الدولة الفاطمية في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي سنة 567هـ / 1171م حكمت مكة المكرمة ثلاث أسر من الأشراف بني الحسن بن علي بن أبي طالب وهم
 بنو موسى (الموسويون)   358 - 453هـ / 968 - 1061م.
 بنو سليمان (السليمانيون)   453 - 455هـ / 1061 - 1063م.
 بنو هاشم (الهواشم)   455 - 597هـ / 1063 - 1200م.
بنو موسى (الموسويون)   358 - 453هـ / 968 - 1061م:
 
يُنْسب بنو موسى أو الموسويون إلى موسى الثاني بن عبدالله الرضا بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومؤسس هذه الأسرة الحاكمة في مكة المكرمة هو جعفر بن محمد بن الحسين بن محمد الثائر بن موسى الثاني، ولا توجد لدينا معلومات عن كيفية استيلائه على مكة المكرمة، وكل ما نعرفه أنه كان يقيم في المدينة المنورة  ،  ثم استولى على مكة المكرمة في آخر حكم الدولة الإخشيدية، ونادى بسقوط حكم الإخشيد في مكة المكرمة، ويبدو أن ذلك تم بعد وفاة كافور الإخشيدي سنة 357هـ / 968م  .  ومما ساعد على ذلك سقوط الدولة الإخشيدية على يد الفاطميين في السنة التالية 358هـ / 968م  .  أما الخلافة العباسية فلم تعمل شيئًا إزاء استقلال جعفر بن محمد بمكة المكرمة؛ بسبب تردي الأوضاع فيها خلال خلافة الخليفة العباسي المطيع لله 334 - 363هـ / 945 - 973م، وبذلك نجح جعفر بن محمد في تأسيس إمارة مستقلة للأشراف من بني الحسن في مكة المكرمة استمرت زمنًا طويلاً. وكانت إمارة بني الحسن التي قامت في مكة المكرمة سنة 358هـ / 968م، ثم إمارة بني عمومتهم التي قامت في المدينة المنورة سنة360هـ / 970م آخر الكيانات   التي استقلت عن الخلافة العباسية في الجزيرة العربية، فقد ظلت الخلافة العباسية متمسكة بحكمها المباشر في بلاد الحجاز لأهميتها الدينية عند المسلمين ودورها في دعم الخلافة الشرعية للعباسيين في وجه المنافسين لهم 
ومن أهم الأعمال التي قام بها جعفر بن محمد الخطبة للمعز لدين الله الفاطمي 341 - 365هـ / 952 - 975م في سنة 358هـ / 969م بعد سقوط مصر في يد قائد المعز جوهر الصقلي في السنة ذاتها، ولكن جعفر بن محمد اضطر إلى إعادة الخطبة للعباسيين سنة 359هـ / 969م تحت ضغط القرامطة الذين كانوا يتولون قيادة قافلة الحج العباسية  .  وفي سنة 360هـ / 970م أرسل المعز الفاطمي قوة إلى مكة المكرمة لفرض الخطبة له في موسم الحج وساندها الحسينيون في المدينة المنورة، ولكن هذه القوة هزمت من القرامطة في ذلك الموسم، ثم أعيدت الخطبة للفاطميين ابتداء من سنة 363هـ / 973م، واستمرت لهم إلى نهاية عهد جعفر بن محمد وقد خلفه في الحكم ابنه عيسى بن جعفر 365 - 384هـ / 975 - 994م. ولم تذكر المصادر في عهده أحداثًا مهمة سوى تلك الحملات والمنافسات المتبادلة بين الفاطميين والعباسيين من أجل فرض الخطبة لأحد الجانبين، وعليه أن يقيم الخطبة للغالب من الجانبين وإن كان يميل إلى جانب الفاطميين لاستمرار أعطياتهم له، حتى تمكن من قطع الخطبة عن العباسيين نهائيًا، وأقامها للفاطميين ابتداء من سنة 369هـ / 979م   وتوثقت علاقته مع الفاطميين إذ زار مصر سنة 384هـ / 994م، ثم وافاه الأجل بعد عودته من مصر في السنة نفسها
وبعد وفاة عيسى بن جعفر تولى الإمارة أخوه الحسن بن جعفر أبوالفتوح، لأن عيسى لم يكن له عقب  ،  وهو من أطول الموسويين حكمًا 384 -430هـ / 994 - 1038م وكان مشهورًا منذ إمارة أخيه عيسى ومشاركًا معه في الحكم، وكان طموحًا ذا شكيمة ومقدرة وخبرة في شؤون الحكم، استغل العلاقة الحسنة التي تربطه بالفاطميين في توسيع إمارته واكتساب أراضٍ جديدة في منطقة تهامة جنوب مكة المكرمة، ومدَّ حدود إمارة مكة المكرمة إلى حلي بن يعقوب  .  كما بادر إلى تحقيق طموحه بضم إمارة المدينة المنورة إلى حكمه ليصبح أميرًا للحرمين الشريفين مستغلاً طلب الحاكم بأمر الله الفاطمي 386 - 411هـ / 996 - 1020م منه الذهاب إلى المدينة المنورة ونبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإرسال جسده الشريف إلى مصر ليعود جماله على مصر وساكنيها  .  غير أن أهم حدث في إمارة أبي الفتوح هو خروجه عن طاعة الحاكم بأمر الله الفاطمي وانضمامه إلى الثائرين عليه، وادعاؤه الخلافة
وبعد وفاة أبي الفتوح سنة 430هـ / 1038م خلفه ابنه الملقب بتاج المعالي شكر بن أبي الفتوح 430 - 453هـ / 1038 - 1061م، وتوفي شكر بن أبي الفتوح سنة 453هـ / 1061م دون أن يعقب ولدًا يخلفه في الإمارة  ،  وبوفاته انقرض حكم أولى أسر الأشراف الحاكمة في مكة المكرمة (بنو موسى)
 بنو سليمان (السليمانيون)   453 - 455هـ / 1061 - 1063م
بعد وفاة شكر بن أبي الفتوح تولى شؤون الإمارة في مكة المكرمة عبد من عبيده يدعى طراد بن أحمد  ،  مستندًا إلى طموحه ومؤهلاته الشخصية، فضلاً عن اختلاف كلمة الأشراف بني موسى وغيرهم من بني الحسن في مكة المكرمة  ،  غير أن ذلك لم يدم طويلاً فقد نهض جماعة من الأشراف في مكة المكرمة يعرفون بالسليمانيين نسبة إلى سليمان بن عبدالله الرضا بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب  .  ويعرفون أيضًا ببني أبي الطيب نسبة إلى أول من تولى إمارة مكة المكرمة من هذه الأسرة وهو أبوالطيب داود بن عبدالرحمن الذي تولى الحكم في مكة المكرمة مدة يسيرة أثناء ثورة أبي الفتوح بأمر من الحاكم الفاطمي  .  وأول من تولى إمارة مكة المكرمة منهم بعد شكر بن أبي الفتوح محمد بن عبدالرحمن بن القاسم بن أبي الفاتك عبدالله بن داود بن سليمان بن عبدالله الرضا. وقد أساء السليمانيون السيرة في مكة المكرمة، وأشاعوا السلب والنهب، وقاسى من ظلمهم المجاورون والأهالي، ولم يقفوا عند هذا الحد بل اعتدوا على موجودات الكعبة المشرفة النفيسة، وخلعوا الحلية من الباب والميزاب، وعرَّوا الكعبة المشرفة من كسوتها  ،  فسلط الله عليهم علي بن محمد الصليحي ملك اليمن الذي قدم إلى مكة المكرمة بتكليف من المستنصر بالله الفاطمي 427 - 487هـ / 1036 - 1094م، وكان وصوله إلى مكة المكرمة في السادس من ذي الحجة سنة 454هـ / 1063م، فخرج منها السليمانيون منهزمين إلى بعض الجهات الجنوبية من مكة المكرمة، وبقدومه إلى مكة المكرمة قضى على جميع مظاهر الفساد التي صاحبت حكم السليمانيين، وكسا الكعبة المشرفة حريرًا أبيض، وردَّ إليها ما أخذه السليمانيون، وخطب للمستنصر بالله الفاطمي ولنفسه من بعده ثم لزوجته  .  وباستيلاء الصليحي على مكة المكرمة وهروب السليمانيين منها انتهى حكم هذه الأسرة الذي دام ما يقارب السنتين فقط
بنو هاشم (الهواشم)   455 - 597هـ / 1064 - 1200م
مكث علي بن محمد الصليحي في مكة المكرمة إلى شهر المحرم وقيل إلى شهر ربيع الأول سنة 455هـ / 1064م  ،  ثم تقدم إليه الأشراف من بني الحسن طالبين منه الرحيل عن بلدهم واختيار واحد منهم ليتولى الإمارة في مكة المكرمة؛ فوقع اختياره على أبي هاشم محمد بن جعفر فأقامه أميرًا على مكة وأمده بالمال والسلاح وعاد إلى اليمن
تجتمع أسرة الهواشم مع بني موسى في جدهم حسين الأمير بن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبدالله الرضا بن موسى الجون بن عبدالله المحض بينما تلتقي مع أسرة السليمانيين في جدهم عبدالله الرضا بن موسى الجون  .  وقد حكم من هذه الأسرة 8 أمراء خلال الفترة من 455 - 597هـ / 1064 - 1200م وهم على التوالي: أبو هاشم محمد بن جعفر 456 - 587هـ / 1064 - 1094م، قاسم بن محمد بن جعفر 487 - 518هـ / 1094 - 1124م، فُلَيْتة بن قاسم بن محمد 518 - 527هـ / 1124 - 1132م، هاشم بن فليتة بن قاسم 527 - 549هـ / 1132 - 1154م، قاسم بن هاشم 549 - 556هـ / 1154 - 1161م، عيسى بن فليتة 556 - 570هـ / 1161 - 1175م، مكثر بن عيسى 571 - 597هـ / 1176 - 1200م، داود بن عيسى 570 - 587هـ / 1175 - 1191م، مشاركة مع أخيه مكثر.
ومن أبرز المستجدات في عهد أمراء الهواشم ظهور السلاجقة على مسرح الأحداث في الخلافة العباسية، وانتعاش الخلافة العباسية على أيديهم، فعاد العباسيون إلى منافسة النفوذ الفاطمي في الحجاز بعد انفراد الفاطميين به لما يقرب من مئة عام، فخطب لهم أبوهاشم محمد ابتداء من سنة 458هـ / 1065م  .  واستمر العباسيون والفاطميون يتنازعون على النفوذ في مكة المكرمة مدة أربع سنوات وخمسة أشهر. كان أمير مكة المكرمة يدعو مرة للعباسيين وأخرى للفاطميين حتى تدهورت أوضاع الخلافة الفاطمية بسبب الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية في عهد المستنصر بالله؛ ما أدى إلى عجز الدولة الفاطمية عن الوفاء بالتزامها تجاه الحرمين الشريفين فأقام أبوهاشم الخطبة للعباسيين سنة 462هـ / 1070م، وبعث للخليفة العباسي القائم بأمر الله 422 - 467هـ / 1031 - 1075م والسلطان ألب أرسلان السلجوقي يخبرهما بذلك، فأعطاه السلطان ألب أرسلان ثلاثين ألف دينار، وبعث له خلعًا نفيسة وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار  .  ومنذ ذلك الحين انفرد العباسيون بالنفوذ في مكة المكرمة، ولم يستطع الفاطميون منافستهم إلا في سنوات قليلة إلى سقوط الدولة الفاطمية سنة 567هـ / 1171م. ومن المستجدات في عهد أبي هاشم محمد بن جعفر استيلاؤه على المدينة المنورة وإخراج أمرائها بني مهنا وضمها إلى إمارته، وبذلك جمع إمارة الحرمين الشريفين  .  ويبدو أن أبا هاشم قد فعل ذلك بتأييد من العباسيين أو بمساندتهم، بدليل اعتماده في حملته على المدينة المنورة على الأتراك وهم من جيش السلاجقة 
ومن الأحداث البارزة كذلك خلال فترة إمارة الهواشم في مكة المكرمة حصول الاضطرابات في مواسم الحج وأغلبها بسبب الخلافات مع أمراء الحج العباسيين أو الفاطميين، وتعديات عبيد مكة المكرمة على الحجاج، كما حدث في سنتي 468هـ و 557هـ / 1075م و 1161م  .  وقد أضرت الاضطرابات بأهل مكة المكرمة وأساءت إلى سمعة أمرائها، إذ عرف بعضهم بالعنف وإطلاق يد الموالي لإيذاء السكان المجاورين والحجاج، كما عرف بعضهم بسوء معاملته للحجاج والمقيمين ومصادرة أموالهم مثل الأمير قاسم بن محمد بن جعفر 487 - 518هـ / 1094 - 1124م. وبسبب سوء سياسة بعض الأمراء ومضايقتهم للحجاج اضطرت الخلافة العباسية إلى عزلهم بوساطة أمراء الحج وتولية غيرهم من الأشراف، كما فعل أمير الحج أرغش في موسم حج سنة 556هـ / 1161م عندما عزل القاسم بن هاشم وعين مكانه عمه عيسى بن فليتة، ولكن القاسم ما لبث أن استعاد الإمارة بعد رحيل أمير الحج من عمه عيسى  .  ومن المستجدات في عهد الهواشم قيام النـزاع بين الأشراف أبناء الأسرة الواحدة على الإمارة لأول مرة منذ قيام إمارة الأشراف سنة 358هـ / 968م، وقد وقع ذلك بين أبناء فليتة بن قاسم بن محمد حتى تغلب عليهم هاشم وانتزعها بالقوة، وقد استمر ذلك إلى عهد آخر حكامهم مكثر بن عيسى وأخيه داود اللذين كانا يتداولان الإمارة إلى نهاية حكم هذه الأسرة سنة 597هـ / 1200م. ومن الأحداث المهمة في عهد هذه الأسرة قدوم نور الدين محمود زنكي   إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة 556هـ / 1161م، وما صاحب ذلك من إقامة الخطبة له على منبر المسجد الحرام في بداية عهد الأمير عيسى بن فليتة
ومن الحوادث في مكة المكرمة سنة 478هـ / 1085م حدوث الطاعون الذي عمَّ بلاد الحجاز بما فيها مكة المكرمة  .  وفي عهد الشريف قاسم بن محمد ظهر بمكة المكرمة رجل لم تذكر المصادر اسمه ولكنها أشارت إلى أنه علوي من فقهاء المدرسة النظامية ببغداد اتصف بصفات فاضلة ودعا إلى الأمر بالمعروف وإقامة العدل، فأحبه الناس واجتمعوا حوله حتى طمع في الإمارة فأقام الخطبة لنفسه وعزم على إبعاد قاسم بن محمد، ولكن قاسمًا تنبه له وقبض عليه ونفاه إلى البحرين  ،  وفي سنة 551هـ / 1156م قدم للحج بعض الأئمة من الشافعية والحنفية والمالكية وأنكروا صلاة الأئمة الأربعة حول الكعبة المشرفة في صلاة المغرب في وقت واحد .دخلت مكة المكرمة ابتداءً من سنة 569هـ / 1174م في مرحلة جديدة من تاريخها مع وصولحملة شمس الدولة توران شاه الأيوبي إليها في طريقها إلى اليمن لفتحها بأمر من صلاح الدين الأيوبي في مصر، وقد خشي أمير مكة المكرمة من الهواشم عيسى بن فليتة   من تلك الحملة، فصعد إلى حصن بناه في جبل أبي قبيس وتحصن به، غير أنه ما لبث أن نـزل من الحصن واستقبل القائد الأيوبي وأعلن ولاءه وطاعته لصلاح الدين، ودعا له على منبر المسجد الحرام بعد الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله 566 - 575هـ / 1171 - 1180م  .  وبذلك مدَّ صلاح الدين نفوذه إلى الحجاز بعد قضائه على الدولة الفاطمية في مصر سنة 567هـ / 1171م. في أعقاب وفاة عيسى بن فليتة سنة 570هـ / 1175م تولى ابنه داود مقاليد الأمور في مكة المكرمة بإشارة من الخليفة العباسي  ،  مما أدى إلى حدوث نـزاع بينه وبين أخيه مكثر على السلطة في مكة المكرمة سنة 571هـ / 1176م تمكن خلالها مكثر من إخراج داود من مكة المكرمة، ثم أصلح بينهما توران شاه في العام نفسه وهو في طريق عودته من اليمن إلى بلاد الشام 
في موسم حج سنة 571هـ / 1176م حدث قتال بين أمير مكة المكرمة مكثر بن عيسى وأمير ركب الحج العراقي طاشتكين المستنجدي، تحصن على أثره أمير مكة المكرمة في حصن جبل أبي قبيس ثم ما لبث أن ترك مكة المكرمة، فقام أمير الركب العراقي بتعيين أمير المدينة المنورة قاسم بن مهنا الحسيني المرافق له أميرًا على مكة المكرمة، غير أنه لم يبق في مكة المكرمة سوى ثلاثة أيام، ثم طلب إعفاءه من هذا المنصب، لخشيته من أهلها، فاستقر رأي أمير الركب العراقي على إعادة تولية داود بن عيسى أميرًا على مكة المكرمة  .  استمر مكثر وداود يتداولان الحكم بينهما نحو ثلاثين سنة  .  وخلال تلك الفترة دخل مكة المكرمة سنة 579هـ / 1184م طغتكين بن أيوب وهو في طريقه إلى اليمن فاستقبله أميرها مكثر بن عيسى واستمر الدعاء للخليفة العباسي الناصر لدين الله 575 - 622هـ / 1180 - 1225م، ولصلاح الدين الأيوبي  وفي ظل التدهور في الأوضاع السياسية في مكة المكرمة عاد طغتكين إليها من جديد سنة 581هـ / 1185م وسيطر عليها وسك بها الدنانير والدراهم باسمه، كما خطب باسم صلاح الدين الأيوبي على منبر المسجد الحرام، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إليها  .  وفي أواخر سنة 587هـ / 1191م تمكن مكثر بن عيسى من الانفراد بالسلطة في مكة المكرمة بعد أن عزل أمير الحج العراقي أخاه داود وولاه إياها  .  وقد استمر أميرًا عليها مدة عشر سنين حتى تمكن أحد الأشراف القادمين من ينبع من طرد مكثر والاستيلاء على مكة المكرمة منهيًا بذلك حكم أسرة الهواشم
 
 

القتاديون 

 
أ) إمارة قتادة بن إدريس 597 - 617هـ / 1200 - 1220م
 
تمكن قتادة بن إدريس الحسني   القادم من ينبع من الاستيلاء على مكة المكرمة سنة 597هـ / 1200م وانتزاعها من أمرائها الهواشم  ،  كما توسع بالسيطرة على المناطق المحيطة بها، وبادر بعد أن استقرت له الأمور بمكة المكرمة إلى إقامة الخطبة للخليفة العباسي الناصر لدين الله  كما قام بعدد من الإجراءات لتقوية سلطته، ومنها بناء سور حول مكة المكرمة  ،  وتكوين جيش قوي "فابتاع المماليك الأتراك وصيَّرهم جندًا يركبون بركوبه ويقفون إذا جلس على رأسه، وأدخل في الحجاز من ذلك ما لم يعهده العرب وهابته، وكان من قصد منهم فريقًا، أمر فيهم بالسهام، فأطاعته التهائم والنجود وصار له صيت في العرب لم يكن لغيره"وقد استطاع بذلك أن يحل الأمن والاستقرار محل الفوضى والاضطراب الذي كان بمكة المكرمة في عهد أسلافه الأمراء الهواشم، كما تمكن من تأمين طرق حجاج بيت الله الحرام، وأعاد لإمارة مكة المكرمة هيبتها وقوتها، وقد وصفه بعض المؤرخين بأنه "ملك مكة والينبع وأطراف اليمن وبعض أعمال المدينة وبلاد نجد
كما أشار الفاسي إلى أن ولايته قد اتسعت، من حلي بن يعقوب إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم   ومدَّ نفوذه سنة 613هـ / 1216م إلى الطائف  ،  غير أنه لا توجد معلومات دقيقة حول نفوذه في المناطق الواقعة إلى الجنوب من مكة المكرمة، وبلاد نجد
 

علاقات مكة المكرمة الخارجية في عهد قتادة

 
اتسمت السياسة الخارجية لمكة المكرمة في عهد قتادة بنظرة واقعية للأوضاع السياسية في تلك الفترة، ويمكن تلخيص تلك السياسة من خلال النقاط الآتية
 
العلاقة مع الخلافة العباسية:
 
تمثل علاقة أمراء مكة المكرمة مع الخلافة العباسية على الدوام ركيزة أساسية في سياسة مكة المكرمة الخارجية على الرغم مما أصاب تلك العلاقة في عهد الهواشم من اضطراب وتذبذب في الولاء بين الخلافتين العباسية والفاطمية في ظل صراع الدولتين للسيطرة على مكة المكرمة  .  غير أنه بسقوط الخلافة الفاطمية وسيطرة الأيوبيين على مقاليد الأمور في الشام ومصر، بدأ قتادة برسم سياسته الخارجية من خلال علاقته بكل من الخلافة العباسية والدولة الأيوبية، فبادر بعد السيطرة على مكة المكرمة بإقامة الخطبة للخليفة العباسي الناصر لدين الله، وأضاف اسمه ولقَّب نفسه بالمنصور. ومن المعلوم أن الخطبة تمثل للخلافة العباسية نوعًا من أنواع السيادة الرمزية على مكة المكرمة باعتبار أن الخليفة العباسي هو خليفة المسلمين، ولما تمثله مكة المكرمة من أهمية دينية للمسلمين. وعلى الرغم مما اتسمت به تلك العلاقة من اضطراب فقد استمر الولاء المشوب بالحذر طوال فترة حكم قتادة، ويمكن تحديد علاقته بالخلافة العباسية من خلال ما يأتي
 
بعد سيطرة قتادة على مكة المكرمة بادر سنة 600هـ / 1203م بالذهاب إلى بغداد بناءً على طلب الخليفة العباسي الناصر لدين الله لاختبار مدى إخلاصه وولائه للخلافة العباسية، إلا أنه توقف في الطريق وقفل راجعًا إلى مكة المكرمة لخوفه من الخليفة، وخشيته من قيام حركة ضده في مكة المكرمة 
وعلى أثر ذلك أخذ الشك يخالج الخليفة العباسي في مدى ولاء قتادة للخلافة، فأرسل إليه جيشًا سنة 600هـ / 1203م، فاستنجد قتادة بأمير المدينة المنورة سالم بن قاسم الحسيني، فتمكن الحليفان من إلحاق الهزيمة بالجيش العباسي؛ ما اضطر الخليفة للاعتراف بالأمر الواقع وبسيادة قتادة على مكة المكرمة، وأرسل إليه بعض المساعدات الاقتصادية في تلك السنة  .  غير أن العلاقات بين الطرفين عادت إلى التدهور في موسم حج سنة 608هـ / 1212م بعد أن اتهم قتادة الخلافة العباسية بتدبير محاولة اغتياله؛ ما أدى إلى وقوع قتال بينه وبين ركب الحج العراقي، وحينما أحس قتادة بفداحة ما ارتكبه أرسل وفدًا إلى بغداد سنة 609هـ / 1213م برئاسة ابنه راجح لطلب العفو من الخلافة فوافق الخليفة وعفا عنه، وأرسل إليه في موسم حج تلك السنة مالاً وخلعًا، واستمرت العلاقات حسنة بين الجانبين حتى نهاية فترة حكم قتادة
 

العلاقة مع الدولة الأيوبية

 
تعد علاقة مكة المكرمة مع الدولة الأيوبية في مصر والشام ذات أهمية خاصة، نظرًا لارتباط الحجاز بهذين الإقليمين من الناحية الاقتصادية في تلك الفترة. ومع أن الدولة الأيوبية في ذلك الوقت كانت تحت حكم العادل أبي بكر بن أيوب، إلا أن صراعًا خفيًا كان يحدث بين ابنيه الكامل محمد نائب السلطان على مصر، والمعظم عيسى والي دمشق، وقد خرج هذا الصراع إلى العلن بعد وفاة العادل سنة 615هـ / 1218م  .  وطَّد قتادة علاقته بالكامل محمد في مصر الذي قدَّم له الدعم والمساندة المادية والعسكرية ضد منافسه سالم بن قاسم بن مهنا أمير المدينة المنورة، كما استقبل قتادة الملك المسعود يوسف بن الكامل حين وصوله إلى مكة المكرمة في طريقه إلى اليمن سنة 611هـ / 1215م أحسن استقبال، فيما كان الأمر خلاف ذلك مع عمه المعظم عيسى الذي حج في العام نفسه ولم يلق الاستقبال المناسب  .  ويتضح أن السبب في ذلك يعود للدعم السياسي والعسكري الذي قدمه المعظم عيسى لأمير المدينة المنورة الذي رافقه إلى مكة المكرمة في ذلك العام  .  كما تسلم نواب الكامل قلعة ينبع من نواب قتادة سنة 613هـ / 1216م حماية لها من أمير المدينة المنورة قاسم بن جماز
 

العلاقة مع المدينة المنورة

 
كانت العلاقة مع المدينة المنورة في بداية حكم قتادة ودية، وصلت إلى حد التحالف، نتيجة الدعم العسكري الذي تلقاه قتادة من أمير المدينة المنورة سالم بن قاسم بن مهنا ضد جيش الخلافة العباسية في سنة 600 / 1203م  ،  إلا أن تلك العلاقة الطيبة ما لبثت أن تدهورت بعد أن اتجهت أنظار قتادة إلى المدينة المنورة في محاولة للسيطرة عليها، فشن هجومًا سنة 601هـ / 1204م ودار بين الطرفين قتال تمكن أمير المدينة المنورة في نهايته من إلحاق الهزيمة بأمير مكة المكرمة  .  وعلى الرغم من الهدوء الذي ساد العلاقة بين الطرفين بين عامي 601 و 611هـ / 1204 و 1215م إلا أنها لم تلبث أن دخلت مرحلة جديدة من الصراع العسكري بعد ذلك؛ فقد هاجم قتادة المدينة المنورة من جديد سنة 612هـ / 1216م وتمكن أهلها من صد الهجوم فانسحب إلى وادي الصفراء  ،  إذ لحقت به الهزيمة على يد أمير المدينة المنورة قاسم بن جماز في ذي القعدة من السنة نفسها؛ ولم يكتف بذلك، بل حاول أمير المدينة المنورة مد نفوذه إلى مناطق سيطرة أمير مكة المكرمة سنة 613هـ / 1217م ومنها جدة، فتصدى له قتادة وألحق به الهزيمة وأبعد الخطر العسكري عن مناطق نفوذه، وبخاصة مكة المكرمة وجدة  .  أعقب ذلك محاولات جديدة من أمير مكة المكرمة لمهاجمة المدينة المنورة ابتداءً من سنة 615هـ / 1218م، أبرزها زحفه إلى المدينة المنورة سنة 617هـ / 1220م بهدف الاستيلاء عليها، إلا أن مرضه اضطره للعودة إلى مكة المكرمة وعهد بالقيادة إلى كل من أخيه وابنه الحسن غير أن ذلك لم يجدِ شيئًا، ومنيت الحملة بالفشل
 

العلاقة مع دولة الإمامة الزيدية في اليمن

 
ارتبط أمير مكة المكرمة قتادة بن إدريس بعلاقة وطيدة مع الإمام الزيدي في اليمن عبدالله بن حمزة بحكم انتمائهما إلى البيت النبوي الشريف  .  وتوضح المراسلات والوفود المتبادلة بينهما منذ سنة 597هـ / 1200م عمق تلك العلاقة  ،  كما يتضح مدى تلك العلاقة من قيام قتادة سنة 598هـ / 1201م بجمع الأموال من بعض قبائل الحجاز وإرسالها إلى الإمام في اليمن مساعدة له في حروبه ضد أعدائه  .  كما بعث أمير مكة المكرمة أواخر سنة 599هـ / 1202م، استجابة لطلب الإمام، بقوة عسكرية إلى اليمن لدعم موقفه في وجه معارضيه، وشاركت تلك القوة سنة 600هـ / 1203م بقيادة أحد موالي قتادة ويدعى نامي بن حسن إلى جانب الإمام في معاركه ضد خصومه  ،  ونتيجة للنـزاع الذي جرى بين قتادة ومعارضيه من الأشراف، وبخاصة الهواشم، فقد خرج على أمير مكة المكرمة سنة 602هـ / 1205م أحد أفراد تلك الأسرة ويدعى منصور بن داود بن عيسى، فتمكن قتادة من هزيمته وأسره ثم نفاه إلى اليمن حيث آواه الإمام وأكرمه  .  كما نـزحت جماعة من قبيلة حرب سنة 603هـ / 1207م من الحجاز إلى صعدة باليمن بعد أن أجلاهم قتادة عن مساكنهم بين مكة المكرمة والمدينة المنورة فاستقبلهم إمام اليمن وآواهم  .  غير أنه على الرغم من الخلافات التي وقعت بين أمير مكة المكرمة وخصومه ولجوئهم إلى إمام اليمن فإن ذلك لم يؤثر - فيما يبدو - في العلاقة القوية بينهما. فقد خرجت في اليمن من المذهب الزيدي فرقة تدعى بالمطرفية تمكن الإمام عبدالله بن حمزة من القضاء على كثير من قادتها، إلا أن أحدهم ويدعى إحسان بن نعمة هرب من اليمن ولجأ إلى مكة المكرمة في محاولة لنشر مبادئ تلك الفرقة فيها، وأصبح معلمًا لأولاد أمير مكة المكرمة فلما أخبر الأمير بحال ذلك الرجل قام بطرده من مكة المكرمة وإعادته إلى اليمن حيث قبض عليه إمام اليمن وقتل
 

نهاية حكم قتادة

 
في أثناء حملة قتادة على المدينة المنورة سنة 617هـ / 1220م - وكان قد شارف على التسعين - مرض مرضًا شديدًا، فعهد بقيادة الجيش لأخيه وابنه، وعاد إلى مكة المكرمة  .  وبعد فشل تلك الحملة عاد ابنه الحسن بعد أن تخلص من عمه فقتل والده طمعًا في السلطة واجتمع بالأشراف والأعيان في المسجد الحرام فبايعوه بالإمارة سنة 617هـ / 1220م
 
ب) خلفاء قتادة والصراع على مكة المكرمة 617 - 654هـ / 1220 - 1256م
 
تولى الحسن بن قتادة مقاليد الأمور في مكة المكرمة بعد مقتل والده وقد نازعه السلطة أخ له يدعى راجح، كان يرى أنه الأحق في الإمارة بوصفه الابن الأكبر لوالده  .  وقد احتدم الصراع بدخول قوى سياسية متعددة لصالح أطراف الصراع من الأشراف، ففي موسم حج 617هـ / 1221م أرسل الخليفة العباسي الناصر لدين الله تقليدًا للحسن بن قتادة بولاية مكة المكرمة مع مملوكه أمير الحج العراقي أقباش بن عبدالله الناصري، وحينما علم راجح بذلك بادر إلى قطع الطريق بين مكة المكرمة وعرفات في محاولة فيما يظهر للضغط على أمير الحج لتقليده الإمارة بدلاً من أخيه، واجتمع راجح لهذا الغرض مع أمير الحج ووعده بمال جزيل إن هو منحه الإمارة لكن أقباش رفض طلبه، وحينما علم الحسن بذلك عرض على أمير الحج مالاً وفيرًا مقابل تسليم راجح إليه غير أنه رفض هذا الأمر أيضًا؛ ما حدا بالحسن لإغلاق مكة المكرمة في وجه الحجيج، فسار إليه أمير الحج من منى ودخل معه في قتال انتهى بمقتل أقباش الناصري، ويبدو أن الحسن قد ندم على ما فعل فأرسل مندوبًا للخليفة الناصر يطلب العفو، أما راجح فقد هرب إلى اليمن والتجأ إلى الملك المسعود يوسف بن الكامل محمد الأيوبي 
 
في سنة 619هـ / 1223م قدم الملك المسعود يوسف من اليمن إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فأساء معاملة الحجاج ورفع راية أبيه قبل راية الخليفة، ولم يقابله الحسن لخشيته منه  .  عاد الملك المسعود إلى مكة المكرمة مرة أخرى سنة 620هـ / 1223م قادمًا من اليمن وبصحبته راجح بن قتادة، واشتبك عسكر المسعود مع عسكر الحسن وهزم الحسن فهرب من مكة المكرمة نحو ينبع  ،  وتمكن الملك المسعود من السيطرة على مكة المكرمة وأمر بضرب الدنانير والدراهم باسمه، وهي التي عرفت بالمسعودية؛ وظلت تتداول فترة طويلة  .  غير أن الملك المسعود لم يقم بتسليم مكة المكرمة للشريف راجح أو أي من أشرافها بل لأحد القادة الذين رافقوه من اليمن وهو عمر بن علي بن رسول الذي التزم بالبقاء بها ومواجهة الأشراف، فسلمها له إقطاعًا وجعل معه حامية مكونة من ثلاثمئة فارس ثم عاد إلى اليمن  .  وحينما علم الحسن بعودة الملك المسعود إلى اليمن، عاد إلى مكة المكرمة محاولاً استعادتها غير أن واليها تمكن من هزيمته، فرحل إلى الشام ومنها إلى الجزيرة والعراق وتوفي ببغداد سنة 622هـ / 1225م  .  ظلت مكة المكرمة تحت السلطة المباشرة للأيوبيين ممثلة في الملك المسعود يوسف حتى وفاته بمكة المكرمة وهو في طريقه إلى دمشق سنة 626هـ / 1229م طمعًا في توليها بعد وفاة عمه الملك المعظم عيسى
 
حينما بلغ الملك الكامل محمد وفاة ابنه أرسل القائد شجاع الدين أبي بكر بن عمر بن محمد الطغتكين الملكي الكاملي - المعروف بطغتكين - إلى مكة المكرمة ومعه ألف فارس لتثبيت الأوضاع بها، وتمكن القائد الأيوبي من تحقيق ذلك عبر بذل الأموال وقطع العهود على أهلها بالوفاء للسلطان الأيوبي الملك الكامل محمد  .  دخلت مكة المكرمة في أعقاب وفاة الملك المسعود مرحلة جديدة من تاريخها، فبعد أن علم نائبه على اليمن نور الدين عمر بن رسول بوفاته عزم على الاستقلال باليمن عن الدولة الأيوبية، كما جهز في سنة 629هـ / 1232م حملة عسكرية للاستيلاء على مكة المكرمة يقودها شخص يدعى شهاب الدين بن عبدان يرافقه راجح بن قتادة، وقد تمكنت الحملة من السيطرة على مكة المكرمة  .  ودخلت مكة المكرمة منذ ذلك التاريخ في مرحلة صراع بين الأيوبيين والرسوليين للسيطرة عليها. بادر السلطان الأيوبي الملك الكامل محمد بإرسال حملة عسكرية إلى مكة المكرمة مستعينًا بكل من أمير المدينة المنورة شيحة بن هاشم وأمير ينبع أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة اللذين رافقا الحملة الأيوبية بقيادة طغتكين الكاملي، فتمكنوا من إخراج الرسولي واستردادها، غير أن راجح بن قتادة تمكن سنة 630هـ / 1232م من إخراج طغتكين دون قتال، ثم استعادها طغتكين إلى أن تمكن راجح من إعادة السيطرة عليها سنة 631هـ / 1233م بجيش أرسله الملك المنصور نور الدين عمر بن رسول ملك اليمن  .  ونتيجة لاختلاف راجح بن قتادة مع أخويه قاسم وعلي سنة 632هـ / 1234م فقد انصرف السلطان الرسولي المنصور عمر عن دعمه لراجح بعد أن اتهم السلطان بدعم أخويه
 
استمر الصراع الأيوبي الرسولي طوال فترة حكم السلطان الأيوبي الملك الكامل، ففي سنة 632هـ / 1235م استطاع الملك الكامل استرداد مكة المكرمة بإرسال جيش بقيادة أسد الدين جبرئيل ومعه خمسمئة فارس. وعلى الرغم من محاولة السلطان الرسولي استعادة السيطرة عليها حينما أرسل حملة أخرى بقيادة راجح بن قتادة إلا أن تلك الحملة منيت بالفشل بعد هزيمتها على يد القائد الأيوبي  .  انتهز الملك الرسولي نور الدين عمر بن رسول وفاة الملك الكامل الأيوبي سنة 635هـ / 1238م فقاد حملة من اليمن في ألف فارس والتقى مع راجح بن قتادة خارج مكة المكرمة وتمكنا من دخولها دون قتال بعد أن خرج منها القائد الأيوبي أسد الدين جبر ئيل
 
في أعقاب تولي الملك الصالح نجم الدين أيوب مقاليد الأمور في الدولة الأيوبية أرسل حملة إلى مكة المكرمة سنة 637هـ / 1239م في ألف فارس بقيادة أمير المدينة المنورة شيحة بن هاشم سيطر خلالها على مكة المكرمة، فأرسل السلطان الرسولي جيشًا بقيادة راجح بن قتادة وقائده ابن البصري فتركها أمير المدينة المنورة، وغادر إلى مصر  .  جهز السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 638هـ / 1241م جيشًا من ثلاثمئة فارس بقيادة القائد مجد الدين التركماني، ومبارز الدين علي بن الحسين بن برطاس فدخلا مكة المكرمة وحجَّا بالناس في تلك السنة
 
تمكن السلطان الرسولي في سنة 639هـ / 1242م من استعادة مكة المكرمة، كما اشترى قلعة ينبع من واليها أبي سعد الحسن بن علي بن قتادة، وهدمها حتى يحرم الأيوبيين من الاستفادة منها عسكريًا، وعين أبا سعد نائبًا عنه في وادي مَرّ ليساعد العسكر الذي أقامه بمكة المكرمة مع مملوكه فخر الدين الشلاح وابن فيروز، وغادر السلطان الرسولي مكة المكرمة عائدًا إلى اليمن سنة 640هـ / 1243م بعد استقرار الأمور بمكة المكرمة خصوصًا بعد أن انضم إليه أحد القادة الأيوبيين وهو مبارز الدين علي بن الحسين بن برطاس ومعه بعض رجاله راغبين في خدمته. ويظهر أن المنافسة الأيوبية للسيادة على مكة المكرمة قد ضعفت بعد ذلك التاريخ  .  وعمد الملك المنصور عمر الرسولي سنة 646هـ / 1249م إلى عزل فخر الدين بن الشلاح عن ولاية مكة المكرمة وعيّن مكانه محمد بن أحمد بن المسيب اليمني، ولم يلبث الوالي الجديد أن نقض الإصلاحات التي قام بها الملك المنصور أثناء إقامته بمكة المكرمة سنة 639هـ / 1242م فأعاد المكوس والجبايات التي ألغاها السلطان الرسولي  .  انتهز أبوسعد الحسن بن علي بن قتادة وفاة السلطان الرسولي الملك المنصور عمر أواخر 647هـ / 1249م، فهاجم مكة المكرمة من موقعه في وادي مر وطرد الوالي الرسولي ابن المسيب، وبرر ذلك بخروج الوالي على السلطان الرسولي وعزمه الهرب بالأموال التي جمعها في أثناء إقامته بمكة المكرمة
 
خلف المنصور عمر ابنه الملك المظفر يوسف الذي قضى أوائل عهده في توطيد دعائم حكمه في اليمن فلم يهتم بأمر مكة المكرمة فتركها لأشرافها  ،  فيما بدأت الدولة الأيوبية بعد وفاة السلطان نجم الدين أيوب 647هـ / 1249م تتجه نحو الانهيار والسقوط  .  أعلن الحسن بن علي بن قتادة نفسه أميرًا على مكة المكرمة وأشرك معه ابنه محمد، كما أقام الخطبة للسلطان الرسولي الملك المظفر  .  أصبحت مكة المكرمة في تلك الفترة ميدانًا للصراع على السلطة بين أشرافها، ففي سنة 651هـ / 1253م سافر جماز بن الحسن بن قتادة إلى دمشق حيث التقى بالملك الناصر يوسف الأيوبي صاحب دمشق وطلب منه المساعدة ضد ابن عمه الحسن بن علي، فوافق الناصر شريطة أن يقطع جماز الخطبة للرسوليين ويخطب له على منبر المسجد الحرام فوافق، فجهز معه جيشًا وصل إلى مكة المكرمة إذ تمكن جماز من السيطرة عليها بعد مقتل الحسن بن علي بن قتادة. غير أن جمازًا لم يفِ بما وعد الناصر واستمرت الخطبة للسلطان الرسولي  .  وتمكن راجح بن قتادة في العام نفسه من انتزاع مكة المكرمة من ابن أخيه جماز دون قتال  .  وفي سنة 652هـ / 1254م أخرج غانم بن راجح أباه من مكة المكرمة واستأثر بالسلطة بتحريض من أبي نمي محمد بن الحسن بن علي بن قتادة وعم أبيه إدريس بن قتادة  .  وقد تمكن أبو نمي وإدريس من إخراج غانم من مكة المكرمة واستوليا عليها في العام نفسه، مما دفع بالملك المظفر الرسولي لإرسال جيش بقيادة الأمير مبارز الدين علي بن حسين بن برطاس قوامه ثلاثمئة فارس، فاستنجد أميرا مكة المكرمة بأمير المدينة المنورة جماز بن شيحة، غير أن العسكر الرسولي هزمه  .  وحشد الأشراف في العام التالي جيشًا آخر توجهوا به نحو مكة المكرمة وأوقعوا الهزيمة بالجيش الرسولي، وتم أسر ابن برطاس ففدى نفسه وغادر إلى اليمن، فيما عاد أبو نمي وإدريس لحكم مكة المكرمة من جديد 
شارك المقالة:
78 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook