العهد العثماني الأول بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد العثماني الأول بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

العهد العثماني الأول بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
انضمت مكة المكرمة وإقليم الحجاز بأكمله إلى الحكم العثماني بطريقة سلمية، وكان ذلك نتيجة لعوامل وظروف محلية خاصة بالإقليم، وإقليمية خاصة بالكيانات والأقاليم السياسية المجاورة للحجاز، ودولية خاصة بالدولة العثمانية ذاتها وصراعها العالمي مع الدولة الصفوية في فارس والبرتغال في البحار الجنوبية ومنها البحر الأحمر. وأمير مكة المكرمة - آنذاك - هو الشريف بركات بن محمد 903 - 931هـ / 1497 - 1525م، وكان في الوقت نفسه يسيطر على إقليم الحجاز التابع لدولة المماليك. وبعد انتصار العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول 918 - 926هـ / 1512 - 1520م على المماليك في معركتي مرج دابق في الشام في عام 922هـ / 1516م والريدانية على أبواب القاهرة في مصر في عام 923هـ / 1517م، وقضائهم على الدولة المملوكية نهائيًا، كان يرى أن انضمام الحجاز السلمي إلى السلطة العثمانية يحقق له عددًا من المزايا منها: حاجة الشريف بركات وإقليم الحجاز لحليف سياسي وعسكري قادر على رد خطر البرتغاليين عن الإقليم. فقد تعرض الإقليم لخطر برتغالي كبير على امتداد الربع الأول من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، نتيجة للسياسة البرتغالية التي كانت تسعى أولاً إلى خنق المرور البحري لتجارة الشرق التي تمر عبر البحر الأحمر، ويسيطر عليها التجار المسلمون، وتحويلها عبر الطريق البحري الجديد طريق رأس الرجاء الصالح الذي اتخذه البرتغاليون ممرًا لتجارتهم منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي 
 وقد نجح البرتغاليون إلى حدٍّ كبير في السيطرة على حركة السفن التجارية في البحار الجنوبية، ومنعوا التجار المسلمين وسفنهم من التحرك والتنقل بحرية كما كانوا يفعلون سابقًا، وفشلت الدولة المملوكية التي كانت تسيطر سياسيًا وعسكريًا وبحريًا على مصر والشام والحجاز في رد الخطر البرتغالي، بل منيت سياستها في حماية التجار والسفن وحركة التجارة الإسلامية بهزيمة نكراء في معركة (ديو) الشهيرة 915هـ / 1509م التي انتهت نتيجتها لصالح الأسطول البرتغالي. وقد تضرر إقليم الحجاز بشكل عام، ومكة المكرمة بشكل خاص كثيرًا من السيطرة البرتغالية، ومن الفشل المملوكي في إيقافها؛ فالحجاز كان أحد أكبر المستفيدين من الحركة التجارية النشطة في البحر الأحمر، ومن مرور السفن المحملة بالبضائع القادمة من الصين والهند وجزر الهند الشرقية (إندونيسيا وماليزيا) والمتجهة إلى موانئ البحر المتوسط؛ لنقلها إلى أوروبا، إذ كانت تستفيد منها موانئ الحجاز وبخاصة ميناء جدة، وما تحدثه من حركة تجارية نشطة سواء في تلك الموانئ أو في الإقليم. ولكن السيطرة البرتغالية أدت إلى انعدام شبه تام للبضائع الشرقية من عطور وتوابل وأخشاب وخلافها في موانئ الحجاز، وساد الإقليم كساد اقتصادي أثَّر كثيرًا في حياة الغالبية العظمى من سكانه، بل إن السيطرة البرتغالية على حركة السفن الإسلامية في المحيط الهندي وبحر العرب ومدخل البحر الأحمر أثّرت كثيرًا في حركة نقل الحجاج من دول الشرق الإسلامية إلى مكة المكرمة، فقلّ عدد الحجاج؛ ما أثر سلبًا في مداخيل سكان منطقة مكة المكرمة الذين كانوا يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على مواسم الحج والعمرة في مداخيلهم المالية السنوية
 
ولم يكن التهديد البرتغالي لإقليم الحجاز مقتصرًا على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد ليشمل الجانب الديني والعسكري. فقد عانى إقليم الحجاز في بداية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) من حملات برتغالية عسكرية بحرية تستهدف مقدساته في مكة المكرمة والمدينة المنورة
 
وكانت سياسة البرتغاليين التوسعية في الشرق تسعى إلى تدمير الأمكنة الإسلامية المقدسة في إقليم الحجاز، والقضاء على الإسلام في موطنه ومهده الأصلي، خصوصًا بعد نجاح الإسبان والبرتغاليين في إخراج المسلمين من شبه جزيرة إيبيريا، وبدء عصر الكشوفات الجغرافية المعروفة سواء في العالم الجديد (الأمريكتان الشمالية والجنوبية) أو الشرق وقلب العالم الإسلامي 
ففي عام 919هـ / 1513م أبحر ألفونسو دو البوكيرك القائد العام للأساطيل البرتغالية في الشرق إلى داخل البحر الأحمر مستهدفًا الرسو في ميناء ينبع والنـزول فيها في طريقه إلى المدينة المنورة، لهدم قبر الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ونبشه، وتدمير المسجد النبوي الشريف، ثم التوجه بعد ذلك إلى مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة والمسجد الحرام وتدميرهما للقضاء على الإسلام في مهده، ولكن مشيئة الله وقدرته شتتت الأسطول البرتغالي، فقبل وصوله إلى شواطئ الحجاز في شهر ربيع الآخر 919هـ / يوليو 1513م، وعند دخوله البحر الأحمر من مضيق باب المندب وبالقرب من جزيرة كمران هبت رياح عاصفة أدت إلى اصطدام السفن البرتغالية بعضها ببعض فتعطل كثير منها، كما انتشرت الحمى بين أفراد الأسطول فمات بعضهم نتيجة لذلك، فاضطر قائد الأسطول ألفونسو دو البوكيرك إلى الانسحاب والعودة إلى الهند دون أن يحقق أيًا من أهدافه التي كان يسعى إليها
 
استمرت المحاولات البرتغالية لدخول البحر الأحمر وتدمير المقدسات الإسلامية والقضاء على الإسلام في مهده  ،  فقام خليفة ألفونسو البوكيرك وهو لوبو دو سواريز في عام 923هـ / 1517م وقبيل انضمام الحجاز إلى الحكم العثماني، بالإبحار إلى داخل البحر الأحمر، وكان يستهدف هذه المرة ميناء جدة الذي يعد بوابة مكة المكرمة، والاستيلاء عليه ثم التوجه إلى مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة، وقد وصل الأسطول البرتغالي فعلاً إلى شواطئ جدة، وفرض عليها حصارًا بحريًا شديدًا، وقام بضربها بالمدافع الضخمة التي تحملها سفنه
 
خرج أهالي الحجاز بقيادة الشريف بركات ومساندة الحاكم المملوكي لجدة حسين الكردي ومؤازرة العثمانيين بإرسال بحارة مقاتلين بقيادة سليمان الريس العثماني (سلمان الريس) لصد البرتغاليين الذين فرضوا حصارًا قويًا على المدينة، وقد كانت السفن البرتغالية التي بلغت سبعًا وعشرين سفينة حربية تحمل ما لا يقل عن ألفي مقاتل تطلق حُممًا ضخمة من المدافع المنصوبة فيها، إلا أن الدفاع المستميت من قبل الأهالي والجنود المماليك والعثمانيين المرابطين في المدينة أفشل محاولة لوبو سواريز في النـزول على الشاطئ وتحقيقه مبتغاه، فرحل، ثم قام سليمان الريس بتتبع الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر وأوقع فيه بعض الخسائر وأسر بعض جنوده وقام بإرسالهم إلى السلطان العثماني
 
كان الشريف بركات يهدف بانضمامه إلى الدولة العثمانية إلى الاستفادة من المساعدات المالية والعينية التي كانت تأتي للإقليم من مصر؛ فقد خصصت الدولة العثمانية وغيرها من الدول الإسلامية السابقة مساعدات محددة ترسل من مصر للصرف منها على شؤون الحرمين الشريفين وسكان المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة وأهالي الحجاز عامة، وكانت تلك المساعدات تتكون من شقين رئيسين: أحدهما يأتي مباشرة من خزينة مصر، وأغلبه مواد عينية مثل القمح والسكر والقطن والزيت والشعير، والآخر يأتي من واردات أوقاف الحرمين الشريفين الموجودة في مصر التي كانت قد أُوْقِفَتْ من قبل حكام وأمراء مسلمين وبعض الموسرين من الأهالي عبر فترات التاريخ الإسلامي
 
شكلت تلك المساعدات عونًا كبيرًا لأهالي الحجاز الذين كانوا يعتمدون كثيرًا على وصولها بمن فيهم حكام الإقليم، ولما كان وصول تلك المساعدات مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا باعتراف أمير مكة المكرمة وإقليم الحجاز بسيادة من يحكم مصر، فقد رأى الشريف بركات ضرورة اعترافه بسيادة الدولة العثمانية وسلطتها على الحجاز، وخصوصًا بعد قضاء السلطان سليم الأول على الدولة المملوكية في معركة الريدانية
 
كما رغب أمير مكة المكرمة الشريف بركات في تقوية مركزه في الإقليم ضد خصومه من الأشراف الذين كانوا يسعون إلى إزاحته والاستئثار بالحكم ضمن سلسلة الفوضى التي كانت تعم الإقليم، وطريقة اختيار أمير مكة المكرمة في نهاية عهد الدولة المملوكية؛ فالشريف بركات نفسه كان قد حكم إمارة مكة المكرمة عددًا من المرات السابقة؛ ولهذا أراد أن يحظى بدعم السلطان العثماني سليم والدولة العثمانية ومساندتهما لتثبيت سلطته في إقليم الحجاز، وهو ما حدث فعلاً، فبعد أن أرسل الشريف بركات ابنه الشريف محمد أبا نمي إلى السلطان العثماني سليم الأول في القاهرة عقب انتصاره في معركة الريدانية، قام السلطان العثماني بتثبيت الشريف بركات في إمارة مكة المكرمة وحكم الحجاز، وجعل ولاية العهد لابنه الشريف محمد أبانمي، وأصدر بذلك أمرًا سلطانيًا (فرمانًا) قرئ في الحرم المكي الشريف
 
أبقت الدولة العثمانية الأوضاع الإدارية في منطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز، كما كانت عليها في العهد المملوكي، حيث ثبتت حكم الأشراف للإقليم، وجعلت لأمير مكة المكرمة حرية التصرف في أوضاعه، وكان السبب الرئيس خلف هذا الإجراء الذي اتبعته الدولة العثمانية خلافًا لما كانت تفرضه على أقاليمها الأخرى، أن السلاطين العثمانيين - بدءًا من سليم الأول - كانوا في أمس الحاجة إلى تدعيم شرعيتهم في تزعم العالم الإسلامي، ومجابهة الأخطار الدولية الكبرى مثل الصراع مع البرتغاليين في البحار الجنوبية، والصراع مع الإسبان في البحر المتوسط، والصراع في الشرق مع الدولة الصفوية في بلاد فارس، إضافة إلى ما يمثله إقليم الحجاز من قيمة إستراتيجية بحرية كبرى للسيطرة على البحار الجنوبية وحركة السفن التجارية المحملة بالبضائع الشرقية
 
استثنت الدولة العثمانية أمراء مكة المكرمة وإقليم الحجاز وسكانهما من كثير من الأنظمة التي كانت سائدة ومطبقة في أقاليمها الأخرى، سواء في شرق أوروبا أو في العالم العربي؛ وذلك لضمان ولاء تلك المنطقة فمثلاً لم تفرض على الإقليم أي ضرائب، ولم تلزم سكانه وحكامه بالتجنيد أو أي التزامات عسكرية أخرى مثل توفير مقاتلين بأسلحتهم والمشاركة المالية، بل إن الدولة العثمانية ثبتت حق أهالي الإقليم وحكامه من واردات الأوقاف والخزينة المصرية، كما التزمت بمساعدات إضافية أخرى منذ حكم السلطان سليم الأول مباشرة بعد لقائه الشريف محمد أبي نمي بن بركات في القاهرة، وعرفت هذه المساعدات بـ (الصرة العثمانية) التي استمرت تنمو وتتطور طوال فترة الحكم العثماني لمنطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز، وكانت تصرف وتوزع على أهالي الحجاز سواء سكان المدن أو البادية أو القبائل، أو تصرف على شؤون الحرمين الشريفين إضافة إلى حكام الإقليم من الأشراف
وتنقسم المساعدات العثمانية لمنطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز إلى نوعين رئيسين هما
 
إرسالية الميري:
وهي ثلث واردات خزينة مصر سواء العينية أو النقدية، وكانت توزع على الأشراف والقبائل وأهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة
 
الصرة الرومية:
وهي إيرادات الحرمين الشريفين في مدن إقليم مصر وقراه، سواء العينية من قمح وسكر وزيت وخلافه أو النقدية، وكانت توزع على أهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة وعلماء الحرمين الشريفين والمتقاعدين والأيتام والمجاورين، ويصرف منها على السبل الخيرية والمدارس ومرتبات الأئمة والمؤذنين والفراشين والقراء وموظفي شؤون الحرمين الشريفين . 
كان منصب أمير مكة المكرمة من نصيب الأشراف الحسنيين، ولم تتدخل الدولة العثمانية كثيرًا في طريقة تعيينه أو اختياره، بل أبقت ذلك من اختصاص الأشراف أنفسهم، وكل ما كانت تقوم به طوال المرحلة الأولى من حكمها للإقليم إقرار أو عدم إقرار اختيار الشريف. كما أبقت لأمير مكة المكرمة جميع صلاحياته في الإقليم. ولم يكن هناك قانون متبع في طريقة تعيين أمير مكة المكرمة سوى العرف الذي كان سائدًا بين الأشراف أنفسهم، ففي الغالب كان الوصول إلى إمارة مكة المكرمة يتم بالقوة العسكرية ضمن الصراع الذي كان سائدًا بين العوائل المختلفة من الأشراف الحسنيين، سواء من ذوي زيد (أبناء زيد بن محسن) أو بركات (أبناء بركات بن أبي نمي الثاني) أو العبادلة (أبناء عبدالله بن حسن بن أبي نمي الثاني). وعند تغلب الشريف كان بقية الأشراف يقرونه على الإمارة ويرسلون بذلك إلى الدولة العثمانية لإقرار تعيينه، وتقر الدولة ذلك وترسل أمرًا سلطانيًا (فرمانًا) يقرأ في الحرم المكي الشريف، كما جعلت مرتبة أمير مكة المكرمة أعلى من مرتبة الوزير بدرجة
وكانت صلاحيات أمير مكة المكرمة ومسؤولياته تنحصر فيما يأتي
 الاعتراف بسلطة الدولة العثمانية والدعاء للسلطان العثماني في خُطَب الجمعة والعيدين في الحرم المكي الشريف والحرم النبوي الشريف
تأمين سلامة قوافل الحجيج والعمل على راحتهم ومتابعة شؤونهم كافة
الإشراف التام والكامل على شؤون القبائل الحجازية
 تعيين نواب لأمير مكة المكرمة في مدن الإقليم الرئيسة، مثل جدة والمدينة المنورة والطائف، وكان أشهر نوابه في جدة؛ إذ كان يسمى (وزير جدة)
 تعيين الموظفين الإداريين في الإقليم بمن فيهم القضاة والمفتون، ما عدا القاضي والمفتي الحنفيين اللذين كانا يعينان من قِبَل السلطة العثمانية في إستانبول؛ لأن الدولة اختصت نفسها بالمذهب الحنفي ورعاية شؤونه
وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية تركت لأمير مكة المكرمة حرية التصرف في شؤون الحجاز، إلا أنها استحدثت وضعًا إداريًا جديدًا على الإقليم، فقد أنشأت ما عُرف بـ (سنجقية) جدة، و (إيالة) الحبش، وكان مقرها مدينة جدة ويشرف عليها موظف عثماني تركي ترسله الدولة من إستانبول برتبة سنجق بك يسمى سنجق بك جدة. وكان أول من تولى هذا المنصب هو الخواجة قاسم الشرواني الذي عينه السلطان سليم الأول بعد انضمام الحجاز مباشرة إلى الدولة العثمانية 
سعت الدولة من خلال أوامر التعيين (الفرمانات) التي ترسلها إلى كل من أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة إلى عدم حدوث خلافات بين أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة؛ إذ كانت تحث الطرفين على ضرورة التعاون لمصلحة الإقليم، إلا أن ذلك لم يكن هو السائد، فقد كانت الخلافات تتأجج بين الطرفين؛ ما انعكس سلبًا على منطقة مكة المكرمة كما سيأتي تفصيله لاحقًا
كان سنجق بك جدة يعد ممثلاً للسلطان العثماني في منطقة مكة المكرمة خاصة، وإقليم الحجاز عامة، ويشرف على الشؤون الإدارية الخاصة بالدولة العثمانية كافة، وكان منصبه أعلى منصب إداري عثماني في الإقليم، ولكنه أقل رتبة من أمير مكة المكرمة، وتنحصر اختصاصات سنجق بك جدة وصلاحياته فيما يأتي
 الإشراف على الشؤون المالية للدولة في الإقليم، ومنها تقاسم واردات جمرك ميناء جدة مناصفة مع أمير مكة المكرمة
 الإشراف على مشيخة الحرم المكي الشريف، فقد أضيف إليه لقب (شيخ الحرم) والعناية بكل شؤون الحرم المكي، وبخاصة المتعلقة بالإصلاحات والتعمير في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة في عرفات ومزدلفة ومنى
الإشراف على الحامية العثمانية في جدة التي لم تكن تتعدى ستة بلوكات - أي قرابة ستمئة عسكري - يرسلون من فرق (أوجاقات) إقليم مصر، وكان هو القائد الأعلى للحامية.
 الإشراف على إيالة الحبش التي أوجدتها الدولة للسيطرة على منطقة البحر الأحمر وسواحله الشرقية والغربية، وكانت تضم موانئ مصوع وسواكن، إضافة إلى جدة التي كانت تعد مركزها الإداري
ومع ذلك فإن عدم اهتمام الدولة العثمانية بإيجاد نظام إداري محدد لمنطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز مثل بقية أقاليمها، تحدد فيه الصلاحيات والمسؤوليات، أحدث اضطرابًا كبيرًا في شؤون الإقليم والمنطقة، فلم تشهد منطقة مكة المكرمة ومدنها الرئيسة مكة المكرمة وجدة والطائف استقرارًا سياسيًا دائمًا، بل كانت حالة عدم الاستقرار هي السائدة بسبب الصراع على الصلاحيات ما بين أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة، أو بسبب الصراع الدائم بين الأشراف أنفسهم على منصب الإمارة
ولم تكن العلاقة واضحة بين أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة؛ وذلك نتيجة لازدواجية الحكم العثماني، وإن اتسمت في بعض الأحيان بالود والاحترام المتبادل بين الطرفين، ولكنها في الغالب الأعم كانت علاقة يشوبها الحذر والخوف من الطرف الآخر، ويحكمها عدد من الظروف؛ من أهمها قوة الأمير أو ضعفه مقابل قوة السنجق بك أو ضعفه، من ذلك ما حدث في شعبان - ذي الحجة 1041هـ / 1632م عندما طلب أمير مكة المكرمة الشريف نامي بن عبدالمطلب من سنجق بك جدة دولار آغا تسليم مدينة جدة لسلطته فرفض السنجق بك ذلك
 
وكان الشريف نامي قد وصل إلى إمارة مكة المكرمة بالقوة فيما عرف بحادثة الجلالية، وتتلخص في أن الشريف نامي نازع أمير مكة المكرمة محمد بن عبدالله بن حسن - وكان من العبادلة - على حكم الإمارة؛ حتى تمكن من الانتصار على قوات أمير مكة المكرمة محمد بن عبدالله قرب المسفلة (الحي المعروف حاليًا وليس ببعيد عن الحرم المكي الشريف)، ودخل مكة المكرمة، وأعلن نفسه أميرًا عليها. ولما كان من الطبيعي أن تخضع مدينة جدة لسلطة أمير مكة المكرمة، فقد طلب أميرها الجديد نامي من سنجق بك جدة دولار آغا التسليم بسلطاته، ولكن الأخير رفض، فما كان من نامي إلا أن سار بعسكره من العثمانيين وحاصر مدينة جدة، ثم تمكن من دخولها عنوة بعد أن نهبوا بيوتها ومتاجرها، ثم قبض على السنجق بك وتم نفيه خارج إقليم الحجاز  ،  وسميت هذه الحادثة بحادثة الجلالية نسبة إلى مشاركة الجنود العثمانيين
 
وفي مثال آخر على عدم وضوح العلاقة بين أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة، وتداخل صلاحياتهما وازدواجية تعامل السلطنة العثمانية مع هذه الحالة ما حدث في عام 1161هـ / 1748م بين أمير مكة المكرمة الشريف مسعود بن سعيد 1146 - 1165هـ / 1733 - 1752م أحد أقوى من تولوا منصب إمارة مكة المكرمة من الأشراف، وسنجق بك جدة علي باشا.
حاول سنجق بك جدة علي باشا منع حصة أمير مكة المكرمة الشريف مسعود ونصيبه من واردات جمرك جدة التي كانت تبلغ النصف كما حددتها الدولة العثمانية لأمير مكة المكرمة ضمن مخصصاته المالية من الدولة، فرفض الشريف مسعود تدخل علي باشا، ولما لم يصل معه إلى اتفاق قاد قوة من عسكره ومن بعض أبناء القبائل الحجازية وسار بها إلى جدة وحاصرها؛ ما اضطر علي باشا للهرب إلى مصر، وأرسل الشريف مسعود إلى الدولة العثمانية طالبًا تعيين شخص آخر غير علي باشا، فوافقت الدولة على ذلك، وأقرت أمير مكة المكرمة على ما قام به وأعادت له حصته من واردات جمرك جدة
شهدت منطقة مكة المكرمة عددًا من الاضطرابات السياسية والأمنية الداخلية، خصوصًا خلال موسمي الحج والعمرة، وكان أهم مظاهر تلك الحالة الاقتتال والتناحر والصراع المسلح بين عدد من الأطراف، منها الأشراف فيما بينهم طمعًا في منصب الإمارة، والصراع بين أمير مكة المكرمة وسنجق بك جدة - كما فصلنا سابقًا - أو بين أمير مكة المكرمة وأمير الحج المصري أو الشامي
 
ولعل الصراع بين أسر الأشراف على منصب الإمارة كان أكثر الأسباب إرباكًا لأوضاع منطقة مكة المكرمة بخاصة وإقليم الحجاز بعامة، وقد وصلت الاشتباكات المسلحة بين أطراف النـزاع إلى حدود الحرم المكي الشريف وخصوصًا خلال مواسم الحج، فأدى ذلك إلى سفك دماء أعداد كبيرة من الحجاج والسكان الأبرياء، وأثّر كثيرًا في الحركة الاقتصادية لمكة المكرمة بسبب تعطيله للمتاجر والحوانيت وانعزال الأهالي في بيوتهم.
 
انحصر منصب أمير مكة المكرمة في المرحلة الأولى من الحكم العثماني للحجاز في ثلاث أسر فقط، وهم: ذوو زيد نسل زيد بن محسن بن حسين بن حسن بن أبي نمي الثاني محمد بن بركات، وذوو بركات نسل بركات بن أبي نمي الثاني محمد بن بركات، والعبادلة نسل عبدالله بن حسن بن أبي نمي الثاني محمد بن بركات، وكل هذه الأسر من آل قتادة نسل قتادة بن إدريس (ت 617هـ / 1220م) الذين حكموا الحجاز منذ نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) حتى دخول الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الحجاز في أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) وتوحيده المملكة العربية السعودية.
 
وبسبب النـزاع والصراع المستمر بين أسر الأشراف على منصب أمير مكة المكرمة، لم يشهد هذا المنصب استقرارًا لأيٍّ من الأشراف الذين حكموه، إذ بلغوا في هذه المرحلة خمسة وثلاثين شريفًا بدءًا من الشريف بركات بن محمد (ت 931هـ / 1524م) وانتهاءً بالشريف غالب بن مساعد الذي تولى الإمارة في 1202هـ / 1787م، وفي عهده دخلت قوات الدولة السعودية مكة المكرمة في 8 من المحرم 1218هـ / 1 مايو 1803م منهية بذلك المرحلة الأولى من الحكم العثماني للحجاز، وكان أغلب هؤلاء الأشراف يحكمون مكة المكرمة فترات قصيرة بعضها لا يتعدى الأشهر القليلة، وفي المتوسط لا يزيد حكم الفرد منهم على العامين. وكان عدد من هؤلاء الأشراف قد وصل إلى منصب أمير مكة المكرمة أكثر من مرة، ولم يستقر بهم الحال طويلاً.
 
وللدلالة على عدم استقرار أوضاع مكة المكرمة السياسية والأمنية بسبب النـزاع بين أشرافها على منصب الإمارة ما حدث في عام 1012هـ / 1603م من خلاف بين أمير مكة المكرمة الفعلي إدريس بن حسن بن أبي نمي الثاني، وأخيه الشريف فهيد بن الحسن وابن أخيه الشريف محسن بن الحسين بن الحسن، وانتهى الأمر بخلع الشريف إدريس وتعيين الشريف محسن بديلاً عنه في سنة 1034هـ / 1624م، بعد أن نجح الأخير في استمالة كبار الأشراف والعلماء والفقهاء والأعيان في مكة المكرمة، وقد أدى ذلك النـزاع إلى اضطراب عظيم في البلد  . 
 
أدت هذه المنازعات بين الأشراف إلى فوضى كبيرة ليس في مكة المكرمة فقط، بل في جدة والطائف وطرق القوافل الموصلة بين هذه المدن، كما تأثرت حركة التجارة، وسادت أعمال السلب والنهب لمنازل التجار ومتاجرهم، وانعكس ذلك سلبًا على حاجات الناس الأساسية وارتفاع الأسعار وشح السلع، كما حدث في العقدين الأخيرين من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) عندما بلغ الصراع ذروته بين الأشراف، وبخاصة بين الشريف أحمد بن سعيد والشريف سرور بن مساعد، إذ رفض الشريف أحمد القبول والتسليم بتولي الشريف سرور حكم مكة المكرمة حقنًا للدماء وسلامة الحجيج والأهالي، بل استمر يحاول المرة تلو الأخرى لاستعادة حكمه طوال فترة حكم الشريف سرور التي امتدت قرابة ستة عشر عامًا. وكما يذكر دحلان فقد بلغت محاولات الشريف أحمد خمس عشرة محاولة، كان آخرها في عام 1193هـ / 1779م، ولم تفصل بين المحاولة والأخرى سوى بضعة أشهر  . 
 
هذه الأوضاع غير المستقرة التي شهدتها منطقة مكة المكرمة طوال المرحلة الأولى من الحكم العثماني الأول انعكست في تأثيراتها السلبية على طبيعة حياة المنطقة وتطورها ونمائها، كما تأثر بها الأهالي من الجوانب كافة سواء العمرانية أو الخدمية أو الإصلاحات، وبخاصة تلك المتعلقة بالحج وشعائره ومشاعره، كما تأثرت النواحي الاجتماعية والعلمية والفكرية، وكذلك الشؤون البلدية والاقتصادية، ولم تشهد المنطقة حركة إصلاح بالمعنى الحقيقي للإصلاح في أيٍّ من أبعادها، بل بقيت أوضاعها العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية في حالة ركود لا تتناسب إطلاقًا مع دورها المفترض في كونها قبلة للمسلمين ومنبعًا من منابع الثقافة الإسلامية؛ ففي مجال الإصلاحات لم تشهد المــنطقة تعميرًا وإصلاحات شاملة تتناسب مع الزيادات السكانية فيها، سواء بالولادة أو المجاورة، أو الأعداد الكبيرة من الحجاج الذين كانوا يقضون في تلك الأيام ما بين الأربعة إلى الستة أشهر في الأراضي المقدسة، كما أنها لم تشهد سوى إصلاحات بسيطة في أوقات متباعدة ومتناثرة على مدى فترة تزيد على القرنين من الزمان، ولم تبذل السلطنة العثمانية أو الحكام الحقيقيون من الأشراف جهودًا كبيرة إسهامًا في نقل المنطقة إلى مكانة تتناسب مع ما كان يحدث في أقاليم أخرى مجاورة مثل مصر والشام والعراق أو في العاصمة العثمانية نفسها، كما أن تلك الجهود لم تكن تتناسب مع حركة التطور التي بدأت تشهدها أوروبا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، والتوسع الاستعماري الأوروبي وبداية ما عرف لاحقًا بعصر النهضة الأوروبية.
 
وكان جل ما شهدته منطقة مكة المكرمة من إصلاحات عمرانية هو إعادة تعمير بعض العيون في وادي نعمان التي كانت تغذي المسار الرئيس لعين زبيدة، ومن تلك العيون عين نعمان وعين حنين اللتان كانتا تنبعان من وادي نعمان على الطريق الواصل بين مكة المكرمة والطائف من جهة جبل كرا، إضافة إلى تنظيف مجرى عين زبيدة وإصلاح مجاريها وبركها، وكان ذلك في عامي 931 و 970هـ / 1524 و 1562م. أما الحرم المكي الشريف أو المشاعر المقدسة في عرفات ومزدلفة ومنى، فلم تشهد عمرانًا أو إصلاحًا كبيرًا خلال هذه المرحلة سوى تجديدات وإصلاحات بسيطة، منها ما يخص مقام إبراهيم والمقامات الأخرى التي كانت قائمة - آنذاك - في داخل المسجد الحرام مثل المقام الحنفي، وتجديد بعض أبواب الحرم، هذا إذا استثنينا البناء الشامل الذي شهدته الكعبة المشرفة في حكم السلطان مراد الرابع في عام 1040هـ / 1630م، نتيجة التشققات والانهدامات التي لحقت بالجدار الشامي والشرقي وجزء من الغربي بسبب السيول التي تدفقت إلى وسط الحرم وأغرقت ما لا يقل عن ألف شخص من أهالي مكة المكرمة ومن الحجاج. وقد أمر السلطان مراد الرابع بإعادة بناء الكعبة المشرفة وتوفير المبالغ والبنائين والعاملين والمواد اللازمة لذلك  . 
 
ولم يكن حظ التعليم أحسن حالاً من غيره خلال هذه المرحلة، فلم تهتم الدولة العثمانية كثيرًا بتأسيس المدارس وتعميمها في أرجاء منطقة مكة المكرمة ومدنها وقراها، بل تركت ذلك كله للأهالي وبعض المؤسسات الخيرية الخاصة، وكما يذكر الأستاذ أحمد السباعي في كتابه (تاريخ مكة)، إذ ظل التعليم رهين البيوت المكية التي تخصصت فيه من أمثال آل ظهيرة وآل النويري وآل الطبري، وقد اشتهر من هذه الأسر والبيوت علماء وفقهاء ومؤرخون، كما أن كثرة عدد المجاورين، وبخاصة العلماء منهم، في هذه المرحلة أسهمت في تنشيط التعليم طوال المرحلة الأولى من الحكم العثماني، وقد اشتهر عدد كبير من أبناء هؤلاء المجاورين ونسلهم، منهم آل الزرعة وآل المفتي وآل العتاقي وآل السنجاري وآل العجيمي وغيرهم كثير  . 
 
أما فيما يخص المناصب العلمية الأخرى فكانت تتركز في الغالب على القضاء والإفتاء، وقد اشتهر عدد من العائلات المكية بتوارثها مناصب القضاء والإفتاء في مكة المكرمة ليس طوال المرحلة الأولى من الحكم العثماني فحسب، بل خلال الحكم العثماني بأكمله، وقد كان في مكة المكرمة أربعة قضاة وأربعة مفتين للمذاهب السنية الأربعة: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي. وكانت الدولة العثمانية تهتم كثيرًا بالقاضي الحنفي والمفتي الحنفي، وهي التي تصدر قرارات تعيينهم، أما القضاة والمفتون الآخرون، فكانت تترك اختيارهم للأهالي ولأمير مكة المكرمة، وتكتفي بالموافقة على اختيار الأهالي للقاضي والمفتي، وكانت المحكمة الحنفية تسمى المحكمة الكبرى تتبعها المحاكم الثلاث الأخرى الشافعية والمالكية والحنبلية.
 
ولاهتمام الدولة العثمانية بمنصب قاضي مكة المكرمة الحنفي، ورغبة منها في رفع شأنه، فقد صدر في حكم السلطان محمد الرابع 1058 - 1099هـ / 1648 - 1687م في أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) وتحديدًا في 25 ذي القعدة 1083هـ / مارس 1673م أمر ينص على أن كل من يتولى القضاء في مكة المكرمة وينهي مدة الخدمة المحددة هناك يصبح قاضيًا لإستانبول العاصمة أو بدرجة قاضي إستانبول، وهذا الأمر كما يذكر إسماعيل حقي جارشلي جعل منصب قاضي مكة المكرمة جذابًا وازداد عدد الراغبين فيه بدرجة كبيرة  . 
 
شارك المقالة:
91 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook