العهد العثماني الأول في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد العثماني الأول في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية

العهد العثماني الأول في منطقة تبوك في المملكة العربية السعودية.

 
منطقة تبوك التي اشتهرت في تاريخها بحدوث أهم غزوة قادها المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة، لم تحظ في تاريخها الحديث بعناية المؤرخين مثلما حظيت به في العهد الإسلامي المبكر، وكان حظّها في المؤلفات الحديثة مقصورًا على دراسة الآثار وتقسيمات القبائل، ولا سيما أن منطقة تبوك كانت خلال العهد العثماني تقبع في ظلّ الحياة القبلية، ولم يكن فيها مواقع على شكل مدن، وما كان موجودًا بها لا يعدو محطات استراحة للحُجَّاج على طريقي الحج الشامي والحج المصري، ولذلك فإن المعلومات التي تحكي التطوّر التاريخي لهذه المنطقة في العهد العثماني شحيحة جدًا، وما توافر عنها من معلومات مستنبط من مدونات الرحالة المغاربة وغيرهم ممّن عبروا أراضي تبوك، وأقاموا في محطات الحجيج، وسجّلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن كل ما شاهدوه أثناء رحلاتهم، وكانت معلوماتهم هذه، على الرغم من نُدرتها، خير مُعينٍ في توضيح ما يمكن توضيحه عن تاريخ منطقة تبوك خلال العهد العثماني.
 
كان الجزء الغربي من منطقة تبوك تابعًا لإقليم الحجاز، في حين أن الجزء الشرقي كان تابعًا لإقليم حائل، فقد خضعت المنطقة في مسارها التاريخي إلى مقتضيات الأحداث التي عاشتها أقاليم الجزيرة العربية وظروفها خلال فترة الحكم العثماني، ففي بداية القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي اتجهت الدولة العثمانية نحو المشرق العربي، وضمّت إليها بلاد الشام بعد معركة مرج دابق سنة 922هـ / 1516م، ثم مصر بعد معركة الريدانية سنة 923هـ / 1517م، وانتهى بذلك حكم المماليك، ودخلت البلاد العربية في الشمال الإفريقي والجزيرة العربية طواعية تحت السيادة العثمانية، ومنها إقليم الحجاز، حيث أرسل شريف مكة بركات بن محمد بن بركات، ابنه محمدًا المعروف بأبي نُميّ إلى السلطان سليم الأول   وهنّأه بالفتح، وأعلن ولاءه للدولة العثمانية  
 
وظلَّ الأشراف يتعاقبون على حكم الحجاز بموافقة السلطان العثماني في صورة مرسوم يُقرأ في المسجد الحرام على ملأٍ من أصحاب الحلّ والعقد في موكبٍ حافل وطقوس مرسومة  .  وكان للأشراف حق اختيار حاكمهم وما على السلطان العثماني إلاّ إصدار (فرمان) التعيين  . 
وجعل العثمانيون مدينة جدّة قاعدة لحكمهم في إقليم الحجاز، وأقاموا فيها واليًا عثمانيًا  ،  وصدر مرسوم عثماني ينص على أن كل شؤون ولاية الحجاز مرجعيتها مصر  .
 
ولم تكن العلاقة بين باشا مدينة جدّة العثماني وشريف مكة دائمًا على أحسن ما يُرام، فقد أُعطي الباشا صلاحيات بعزل من يراه غير مناسب من الأشراف، وأحيانًا يقوم الباشا بدعم بعض الأشراف المناوئين للشريف الحاكم، ووصلت العلاقة في بعض الأحيان إلى حدّ الرشوة؛ حيث يقوم الشريف الحاكم بإغداق الأموال على الباشا العثماني في مصر وعلى أمير الحج من أجل أن يبقى في السلطة  
 
وخلال العهد العثماني كانت بعض أجزاء من منطقة تبوك الحالية تتبع حائل مثل بلدة (تيماء)، وأجزاء أخرى تتبع إقليم الحجاز، وكانت - إداريًا - يسري عليها ما يُطبق في مختلف الأقاليم التابعة للإدارة المركزية في مكة المكرمة ومقر الوالي العثماني في جدة  .  وذكر البركاتي أن الحجاز إقليم مستطيل يبلغ طوله من الشمال إلى الجنوب 1500كم، ويحده شمالاً بادية الشام إلى تبوك من الداخل  
 
وهناك من عَدَّ موقع الخضراء   في الجزء الشمالي الغربي من منطقة تبوك نهاية نفوذ حكم الأشراف في الحجاز من ناحية الشمال، أورد الرحالة عبدالغني النابلسي الذي مرّ بها في سنة 1105هـ / 1694م إنها أوّل حكم شريف مكّة من ناحية الشمال، وقال في ذلك أبياتًا من الشعر هي:
 
مـنزلٌ  للحجـاز فـي درب مصر     ويُسمّى الخـضراء مـن غـير ماء
وهـو مبـدا حـكم الشريف فقوموا     وانظروا  للشـريف والخـضراء  
وهناك من عَدَّ بلدة ينبع الحدّ الشمالي للحجاز، فقد ذكر الرحالة العياشي أثناء قدومه للحج سنة 1072هـ / 1661م أن ينبع أوّل الحجاز  ،  وأيده كذلك الرحالة الدرعي الذي أدى فريضة الحج سنة 1121هـ / 1709م؛ حيث أشار إلى أن ينبع هي أول بلاد الحجاز  .  وعندما مرّ الرحالة الزيادي على ينبع سنة 1158هـ / 1745م قال عنها: إنها أول بلاد الحجاز في الذهاب وآخرها في الإياب  
ويُفهم من الروايات السابقة أن ينبع كانت تمثِّل الحد الشمالي للمناطق الحجازية التي يُمكن لحاكم الحجاز ممارسة السلطة الفعلية فيها، والدليل على ذلك أن المناطق الواقعة بعد ينبع من ناحية الشمال بما فيها بلدتا: تبوك وتيماء، كانت خاضعة لنفوذ القبائل التي تقاسمت الأرض، واحتكمت إلى أنظمة عشائرية تخلو من النظم الإدارية والمالية التي كانت تُطبق في مكة المكرمة وجدة، وأطلق العثمانيون على أمير العشيرة (مير عشيرت)، وجعلوا لأمراء العشائر مُخصّصات، وتعاملوا مع شيوخ القبائل بوصفهم مراجع رسمية، وكان المسؤولون العثمانيون المتمكنون من اللغة العربية يُدركون أهمية البدو؛ لأنهم يُمثلون شريحة كبيرة في شمال الحجاز  ولذلك قامت الدولة العثمانية بتكليفهم بحماية طرق الحج، ومنحتهم إتاوات سنوية مقابل ذلك، فهي من ناحية تكسب ولاءهم، ومن ناحية أخرى تتقي شرّهم وتأمن على طرق الحج اعتداءات القبائل وقُطّاع الطرق، وكانت في بعض الأحيان تستخدم معهم القوّة  ،  حيث تضطر إلى إرسال فرق عسكرية من مصر والشام لحماية الحجاج تصل أحيانًا إلى ألفي جندي  . 
وكانت قبيلة بني عطية   من بين تلك القبائل التي عقدت معها الدولة العثمانية هذا النوع من التحالفات.
 
ومن بين تلك القبائل أيضًا قبيلة الحويطات   وكان دورها تأمين سبل الحج، وكان أمراء الحج يؤثرون على شيوخ القبائل بمنحهم أعطيات سنوية من أجل منع الاعتداء على قوافل الحُجّاج، ففي سنة 946هـ / 1539م طلب أمير الحج حضور شيوخ الحويطات إليه، فحضروا وحمّلهم مسؤولية حراسة درب الحجاج ومنحهم مقابل ذلك مبالغ نقدية سنوية  
 
وقد يكون لبعد منطقة تبوك عن مقار الحكومة المركزية في مكة المكرمة والقاهرة وإستانبول أثر في ضعف السيطرة المباشرة على أوضاع القبائل، كما كان لتفشّي الجهل بين الناس، وفقدان الوازع الديني عند أكثر أبناء البادية دورهما أيضًا في ازدياد ظاهرة الاعتداء على طرق القوافل.
 
وقد يكون لشخصية أمير الحج وسوء تصرفه أثر في الإخلال بالأمن، وإتاحة الفرصة لاعتداء رجال القبائل على الحجاج، ففي سنة 946هـ / 1539م تآمر أمير الركب خضر بن عبدالله الرومي مع بعض القبائل ليعتدوا على الحُجَّاج مقابل حصوله على نصف الغنيمة بطريقة لا يعلمها الحُجَّاج  ،  وكان لهذا التصرف السيئ أثره في أفراد قبيلة بني عطية؛ ما جعلهم يرفضون التآمر على الحُجَّاج، ويأخذون عوائدهم بالقوّة  
 
وتذكر رواية أخرى أن أمير الحج قام في سنة 969هـ / 1562م بالاستيلاء على خيول قبيلة بلي وجمالها  ،  وزاد على ذلك بمنع عوائد شيوخ القبيلة، فكانت النتيجة أن غضب أفراد القبيلة، وهاجموا وفدًا كان متجهًا إلى السلطان العثماني، والاستيلاء على مبالغ نقدية تُقدَّر بألف ومئة وخمسين دينارًا، إضافة إلى احتجاز أحد المماليك وجعله رهينة بأيديهم  .  وأورد الرحالة العياشي قصة منع أمير الركب الشامي عوائد العربان، على الرغم من مطالبتهم بها مرّات عدّة، فكانت النتيجة أن شنّت القبائل هجومًا على الحجاج، فاضطر إلى دفع مبالغ مالية أكثر مما يستحقون  
 
ولم تكن درجة الأمن في أراضي تبوك خلال العهد العثماني على نمط واحد، ففي المويلح، أحد موانئ منطقة تبوك من ناحية الشمال، شاهد الرحالة العياشي في القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي الحصن المنيع والقوة العسكرية، وأشار إلى تأثيرهما في توفير الأمن للحُجَّاج  ،  في حين ذكر أبو مدين أن القوّة العسكرية والحصن لم يعودا كافيين لحماية الحُجَّاج، وأورد معلومات عن هجوم الأعراب على الحُجَّاج في المويلح وسلبهم ممتلكاتهم، وهدم المنازل وحرقها  
 
كما أشار الجزيري إلى خروج العربان في أعداد كبيرة من خيالة ورواحل على الحُجَّاج في محطة المويلح أوائل القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي، ولم يوقف هجومهم إلاّ وساطة رجل تاجر يُدعى ابن شويته؛ حيث فرض على كل جمل دينارًا تجمع وتسلّم إلى العربان  
وفي الوجه ميناء منطقة تبوك على ساحل البحر الأحمر، كانت قوافل الحُجَّاج تتعرض بين الحين والآخر إلى اعتداءات العُربان. ومع عودة الحُجَّاج إلى الوجه يجدون بانتظارهم قوافل الإغاثة المرسلة من مصر وهي محملة بالمواد الغذائية والفواكه والحلويات التي قد تتعرض أحيانًا إلى الاعتداء؛ ما يؤثر في أمن الحُجَّاج وراحتهم  
 
وفي بلدة تبوك لم يكن الأمن في محطة الحُجَّاج بأفضل من غيرها من المناطق، ولم يكن للدولة العثمانية أو أشراف الحجاز أي دور في الحفاظ على الأمن فيها، ففي سنة 1171هـ / 1757م تجمّعت القبائل على الركب الشامي، وحاصروه تسعة عشر يومًا تعرض الحُجَّاج فيها إلى نهب أموالهم، وعانوا كثيرًا من الإهانات والجوع والخوف  
 
وعلى الرغم من إخفاق الدولة العثمانية في توفير الأمن والاستقرار في شمالي الحجاز بدرجة عالية، إلاّ أنها من ناحية أخرى لم تألُ جهدًا في القيام ببعض الإصلاحات في محطات العبور، ومن ذلك بناء القلاع، والمساجد، وإنشاء البرك لحفظ المياه، وحفر الآبار الصالحة للشرب، وكانت تهدف من ذلك إلى توطيد سلطتها في الحجاز، وتخفيف ظاهرة الاعتداء على قوافل الحجاج أمام العالم الإسلامي، إضافة إلى تحسين صورتها بوصفها الدولة المسؤولة عن رعاية الحرمين الشريفين، وطرق الحج المؤدية إليهما
 
ففي محطة المويلح   في الشمال أقامت الدولة العثمانية في سنة 967هـ / 1560م قلعة مربعة الشكل ذات أربعة أبراج،  ووضعت فيها قوّة عسكرية وسبعة وأربعين مدفعًا، وحفرت خمس آبار صالحة للشرب، فأصبحت المويلح كما يقول الرحالة الجزيري: من أَجَلِّ مناهل الحجاز  ،  وعندما تعرضت هذه القلعة للتدمير في القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي قام علي بك   قائم مقام مصر في سنة 1186هـ / 1772م بتخصيص مبالغ مالية من الخزينة المصرية، وأعاد ترميمها، وأَمَّنَ رجال الحرس فيها بالمؤن والإمدادات والرواتب، ثم جُدِّدت في عام 1236هـ / 1821م في عهد حاكم مصر محمد علي  
 
وعلى مسافة من المويلح جنوبًا قام الأمير إبراهيم بك الفقاري بحفر عدد من الآبار الصالحة للشرب تُعرف بآبار السلطان  ،  وفي موقع يُقال له (الحوراء)   أمر أمير الحج مصطفى باشا سنة 956هـ / 1549م بحفر ثلاث آبار صالحة للشرب، وحمل إليها الحجارة من ينبع، ونُقش على سطح جبل قريب منها تاريخ عمارتها  .  وفي موضع الأزلم   قامت باشوية مصر العثمانية في أوائل القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي بتجديد قلعتها، وتخصيص مكان فيها لحفظ ودائع الحُجّاج وأمتعتهم، إضافة إلى توفير الدقيق الكافي للمحتاجين وأبناء السبيل طوال العام  
 
وأدرك العثمانيون أهمية بلدة الوجه في طريق الحاج، فحرصوا على توفير الخدمات اللازمة للحُجَّاج وبخاصةٍ المياه الصالحة للشرب، ولا سيما أن هذه المحطة تمّر عليها فترات جفاف قاسية يُعاني فيها الحُجَّاج كثيرًا، ومثل ذلك ما حدث في سنة 930هـ / 1524م عندما هَلَك الناس والمواشي والنبات بسبب الجفاف، فغدت تلك السنة مضرب الأمثال، فقالوا: " سنة العطشة بالوجه"  ،  ولذلك اهتم العثمانيون أيّما اهتمام بتأمين الماء للحجاج، فقاموا بإصلاح الآبار وتنظيفها، ودفعوا إلى شيوخ القبائل مبالغ مالية مقابل صيانة الآبار وحراستها وتسهيل طرقها، فقد ذكر الجزيري أنّ قبيلة بليّ الأحامدة كانت خلال القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي تتسلم أربعمئة دينار سنويًا مقابل هذه المهمة، وقد أُسند أمر صرف هذا المبلغ إلى أمير الحج  
 
وفي بلدة تبوك أمر السلطان العثماني محمد الرابع   سنة 1064هـ / 1653م بتجديد قلعتها المسماة (المبيضة)،  وقد زارها الرحالة إبراهيم الخياري سنة 1080هـ / 1669م وقال عنها:
 
عامرة البناء مُحكمة الوضع، شامخة الرفع، مبنية بالحجر المنحوت بين الصفرة والحُمرة، بناء حسن الإلصاق بحيث لا يظهر ما بين الحجرين لولا الكمال بالنورة، وهي مشتملة على دهليز، يُقابل الباب فيه دكة لطيفة، وبابها مُحكم... وبعد الدخول أرض مربعة مفروشة بالحجر، وعلى يمين الداخل إيوان معقود، وفي الأركان أوضات، ومقابل الباب والإيوان صورة مسجد مفروش بالبسط، وفيه محراب، وفي وسط الصحن صورة بئر يُقال إن ماءها نبع لا من مطر، وبجانبه حوض منقور من الحجر يُملأ للتوضؤ والاستعمال، ويشتمل على أوضات أيضًا في الدور الثاني وعلى مسجد غير مسقوف فوق المسجد الأول، هذا صيفي وذاك شتوي، وبأعلاها مدافع كبار يرمي بعضها عند وصول الحاج... وعلى يمين الداخل بركتان إحداهما مربعة والأخرى متطاولة...  .
 
وباتجاه الجنوب الشرقي من تبوك على مسافة مئة وخمسين كيلومترًا تقع بركة المعظم    التي أُنشئت قلعتها سنة 1031هـ / 1622م على شكل مربع مُنتظم الأضلاع، ولها أبراج عند الزوايا، وباب حديدي كبير، وفناء فيه قاعتان ذواتا سقفين مقببين، وفيه عددٌ من الغرف المقفلة وإسطبل مفتوح، ودَرَجٌ مبني من الحجر يؤدي إلى الطابق الثاني الذي يشتمل على مطبخ ومجالس للحريم  
 
وخلال القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي، ركّز العثمانيون اهتماماتهم على إصلاح القلاع الحجازية وتعميرها، وتحملت باشوية مصر العثمانية مسؤولية ذلك، وصدرت أوامر الخديوي إسماعيل بالبدء في العمل، وزادت مصر العثمانية بإنشاء فنارات   لتساعد على هداية السفن، ودعمتها بتأسيس أنظمة إدارية ومالية تساعد على تنميتها والحفاظ عليها  ،  كما قامت باشوية مصر العثمانية بإنشاء مع امل لتقطير المياه في الوجه بقدرة استيعابية لثلاثين طنًا من الماء يوميًا  
 
كما شهد القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي دخول الدولة العثمانية عصر التنظيمات الحديثة، فقُسِّمت مناطقها إلى ولايات، كل ولاية تشتمل على عدد من الألوية، وكل لواء يشتمل على عدد من الأقضية، وكل قضاء يشتمل على عدد من النواحي، ويرأس اللواء متصرّف، والقضاء قائم مقام، والناحية مدير. وكان يُشرف على ولاية الحجاز والٍ ومتصرفان، أحدهما في جدة والآخر في المدينة المنورة، وكان يتبع متصرفية المدينة أربعة أقضية هي: ينبع، الوجه، السويرقية، العقبة  .  ويبدو أن بلدة الوجه كانت خلال العهد العثماني الأكثر شهرة في شمالي الحجاز؛  بسبب موقعها على البحر الأحمر، ومرور قوافل الحجاج من جهة مصر والشام عن طريقها؛ الأمر الذي جعلها أكثر مناطق تبوك في التنظيم والإدارة، فكان فيها محافظ شركسي يحكم البلدة، وقاضٍ ينظر في القضايا الشرعية، وجُندٌ يحافظون على الأمن وسوق عامة تُعرض فيها السلع الواردة من الشمال والجنوب والغرب  ويذكر البركاتي أن الوجه هو أحد أقضية الحجاز، ورئيسها يُسمّى قائم مقام  .  ومع بداية القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي ورد اسم بلدة الوجه في التنظيم العثماني ولم يرد اسم تبوك، فذكرت المصادر أن الوجه قضاء تابع للمدينة المنورة، وهو مرفأ على البحر الأحمر، ومنازله نحو مئتين، وبه من المرافق: جامع، وقلعة، ومركز حجر صحّي، ودار للحكومة، وعشرون دكانًا، ويبلغ عدد سكانه ألفين وخمسمئة نسمة  .  وقد دخل الوجه تحت حكم محمد علي بعد استيلائه على الحجاز، وظلّ بعد ذلك تابعًا لمصر حتى أواخر عهد إسماعيل باشا  ،  ويؤكد ذلك رواية الرحالة جوليوس أوتينج عندما وصل إلى الوجه سنة 1304هـ / 1884م؛ حيث قال: " وما هو إلاّ وقت قصير حتى وصلنا ميناء الوجه التابع للسيادة المصرية"  
 
أما بلدة تبوك فكانت خلال العهد العثماني لا تعدو - في حجمها - كونها محطة عبور لقافلة الحج الشامي، ووصفها الرحّالة إبراهيم الخياري في أواخر القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي بقوله: أشرفنا على تبوك المنـزل المبارك وشاهدنا قلعتها المبيضة،  ورأينا أهل الشام الواردين عليها للملاقاة   مع ما معهم من الأمتعة والأسباب لِلِّبس والكسوة، وما يُناسب ذلك من الأزواد وأنواع الحلوى التي يتهاداها الحجاج بعد وصولهم إليها  .  وقال عنها عبدالله السويدي أثناء زيارته لها في القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي إنها: عبارة عن محطة عبور للحجاج، وبها قلعة صغيرة يُقيم فيها الحُرّاس وتوضع فيها أمتعة الحجاج، وحولها أشجار النخيل والتين  
 
ووصفها محمد الحسيني الموسوي بأنها تقع في منتصف طريق الحج الشامي، وفيها عين ونخل وقلعة وبئر وشجرة توت وحولها منازل العربان  .  وقال عنها الرحالة إلويس موزل: إنها كانت مقرًا لسكنى قبيلة الحميدات خلال القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي  .  وعندما زارها الرحالة أوغست والين في سنة 1264هـ / 1847م ذكر أن عدد بيوتها لم يكن يزيد على ستين بيتًا، أما الرحالة دوتي الذي زارها عام 1294هـ / 1877م فذكر أن عدد الأسر فيها لم يتجاوز الأربعين أسرة، كما أشار إلى أن تبوك كانت دائمًا تدفع الأموال إلى العربان الذين يغيرون عليها بين الحين والآخر  .  وفي سنة 1301هـ / 1884م زار تبوك الرحالة الألماني جوليوس أوتينج ووجد منازل تبوك في حدود الخمسين منـزلاً خالية من السكان وفي حالة سيئة، ولم يجد سوى خمسة أفراد يقطنون القلعة الخاصة بحماية محطة الحُجَّاج  .  وقد زار تبوك أثناء الحرب العالمية الأولى الرحالة صلاح الدين القاسمي   في سنة 1334هـ / 1916م وقال عنها: إنها لم تكن شيئًا يذكر قبل بناء السكة الحديدية، وإنّها ناحية من أعمال معان وفيها ثلاثون بيتًا أو أربعون، وعدد سكانها من المئة والخمسين إلى المئتين معظمهم من جهات تيماء، وبها ثكنة عسكرية ومستشفى يتسع لأكثر من ستين سريرًا، وفيها المحجر الصحي لمعالجة الحُجَّاج، وكانت الدولة العثمانية تُرسل كل عام في أوائل شهر ذي الحجة بعثة صحية يتقاضى الواحد من أفرادها ثلاثين ليرة عثمانية  
 
أما بلدة تيماء فقد كانت تعيش تحت سيطرة النظام العشائري، وقد زارها الرحالة غورماني في سنة 1281هـ / 1864م ووجدها تحت حكم القائد العشائري رمان بن حطيم الذي استمرت أسرته في الإمارة حتى ضم تيماء إلى المملكة العربية السعودية، وكانت علاقة شيوخ تيماء مع الدولة العثمانية متأثرة بعلاقتهم مع آل رشيد في حائل، فعندما كانت العلاقة مع ابن الرشيد يسودها الوفاق في البداية كانت علاقات شيوخ تيماء مع الدولة العثمانية حسنة، ثمّ ما لبثت أن تغيّرت العلاقة بعد أن طمع آل رشيد في تيماء وفرضوا عليها مُمثّلاً لهم، واستمروا على هذا النحو حتى تخلّص شيخ تيماء من آل رشيد وأعاد حكم تيماء إلى أسرته  
 
ومع بداية القرن الرابع عشر الهجري / العشرين الميلادي قامت الدولة العثمانية بأهم عمل إصلاحي في منطقة تبوك، وهو إنشاء محطة السكّة الحديدية،  فأزيلت المنازل التي كانت منتشرة في المكان الذي بُنيت فيه المحطة، وأُنشئت مكانها مبانٍ حديثة وسوق مرتبة، وأصبحت محطة سكّة الحديد تحتلّ نصف ميل تقريبًا انتشرت فيها المباني على خط مستقيم في أرض صحراوية منبسطة، وقد أشرف على تصميم المحطة المهندس الألماني ميستر باشا، وقُدِّر عرض الخط الحديدي بنحو متر تقريبًا، أمّا العوارض التي تُمسك الخط الحديدي بالأرض فجميعها من القطع الصلبة.
 
وتشتمل المحطة على خزان ماء من أجل تزويد القاطرات، ومخزن للذخيرة، وأحيانًا يُستخدم سجنًا للمجرمين، وفي الطرف الجنوبي لمحطّة السكة الحديدية أُسس فرع للخط يقود عربات الحجاج إلى المحجر الصحي لمعالجة المرضى وتطعيمهم ضد الأمراض  
 
وتبتدئ سكة حديد الحجاز من دمشق بالشام مرورًا بدرعا، ثم الزرقاء، ثم معان، ثم المدوّرة، ثم تبوك، ثم المدينة بمسافة 1302كم، واستغرق العمل فيها ثماني سنوات، واعتمد في تكاليفها على تبرعات المواطنين والمحسنين في جميع أرجاء العالم الإسلامي، إضافة إلى الضرائب واقتطاع نسب مُحدّدة من رواتب الموظفين 
 
وقد تم افتتاح السكة بين معان وتبوك في الثالث والعشرين من شهر رجب سنة 1325هـ الموافق 1907م وكان من نتائج هذا المشروع على تبوك استتباب الأمن والاستقرار، وتوطيد سلطة الدولة العثمانية، واستقرار كثير من البدو الرُحّل حول محطة السكة الحديدية واشتغالهم بالزراعة والتجارة؛ ما أدى إلى زيادة السكان المحيطين بالمحطة تدريجيًا؛ لتكون نواة لمدينة تبوك الحديثة فيما بعد  ،  ولكن لم يمضِ سوى سبع سنوات بعد افتتاح سكة الحديد   حتى قامت الحرب العالمية الأولى، واستعان الحلفاء بالشريف حسين في مكة المكرمة لإعلان الثورة العربية ضدّ الدولة العثمانية التي صاحبها قيام توماس لورانس   بالتعاون مع رجال فيصل بن الحسين بتدمير سكة حديد الحجاز سنة 1335هـ / 1917م 
 
عهد الدولة السعودية الأولى 1220 - 1226هـ / 1805 - 1811م
 
بدأت الدولة السعودية الأولى عهدها منذ بيعة الدرعية المشهور في عام 1157هـ / 1744م بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب  ،  واستمرت زهاء 75 عامًا، وامتد نفوذها في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود 1179 - 1218هـ / 1765 - 1803م إلى الرياض، والخرج، ووادي الدواسر في الجنوب، وإلى القصيم، والجوف، ووادي السرحان، وتيماء، وخيبر في الشمال، وإلى الأحساء، وقطر، والبريمي في الشرق، وإلى تربة، والخرمة، والطائف من جهة الغرب، وإلى بيشة، والليث، وجازان في الجنوب الغربي  .  وهُنا يلاحظ أن منطقة تبوك لم يصلها بعد نفوذ الدولة السعودية ما عدا الجزء الذي تقع فيه بلدة تيماء التابعة في ذلك الزمن لحائل. وكانت تيماء حسب رواية ابن بشر تُعدّ من النواحي التي كان الإمام عبدالعزيز بن محمد يرسل إليها قاضيًا لمدة عام ثمّ يبعث بغيره  .
 
وفي عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز 1218 - 1229هـ / 1803 - 1813م وصل نفوذ الدولة السعودية الأولى إلى إمارات ساحل الخليج العربي، وعُمان والحجاز، وتهامة، وعسير، وجازان، وأجزاء من اليمن، كما وصلت الحملات السعودية إلى جنوب غرب العراق وجنوب الشام، وأعلنت القبائل في تلك المناطق تبعيتها للدولة السعودية، وقامت بدفع الزكاة إليها  .  وبذلك أصبحت أراضي منطقة تبوك جميعها تابعة للدولة السعودية الأولى، وأشرف على إدارتها نيابة عن الدولة حاكم الحجاز الشريف غالب بن مساعد، ولكن إلى فترة قصيرة لم تتجاوز سبع سنوات وشهرين  ،  وكانت الأنظمة العشائرية هي السائدة في منطقة تبوك في تلك الفترة، وعلى الرغم من إعلان رؤساء القبائل تبعيتهم للدولة إلاّ أنهم استمروا في حكم عشائرهم، وأجازوا لعُمّال ابن سعود التجوّل في المنطقة من أجل جمع زكاة الإبل والأغنام  
لم يرقْ للدولة العثمانية أن ترى الحجاز يقبع تحت الحكم السعودي؛ لما لذلك من أثر على هيبة الدولة ومكانتها أمام الرأي العام الإسلامي بوصفها حامية الحرمين الشريفين  ،  ونظرًا إلى معاناتها في ذلك الوقت من خللٍ في نظام الانكشارية  ؛  فقد اختارت والي مصر محمد علي باشا للقيام بمهمة القضاء على الدولة السعودية، ولم يتردّد محمد علي في تلبية الطلب وأظهر اهتمامه بأمر الحجاز والتجهيز لاستعادته   لأنه كان يرى أن نجاحه فيما كُلّف به سيكسبه رضا الدولة العثمانية فلا تفكر في عزله أو تغييره، ناهيك عمّا سيحققه من مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية  
 
وكان الجزء الغربي من منطقة تبوك ممرًّا لجزء كبير من قوات محمد علي المتجهة برًّا إلى محاربة الدولة السعودية الأولى، ولضمان سير الحملة بنجاح استخدم قائد الحملة طوسون بن محمد علي الأموال للتأثير في شيوخ القبائل  ،  ويذكر الجبرتي أن شيوخ القبائل في شمالي الحجاز حثّوا القيادة المصرية على الإغداق عليهم وعلى رجالهم بالأموال من أجل الانضمام إلى القوات المصرية، فاستجاب الباشا لهذا التوجيه وأمر بإلباسهم الفراوي السمور والشالات الكشميري ومنحهم الآلاف من الريالات الفرانسة، ورتب لهم رواتب لكل شخص شهريًا خمسة فرانسة وغرارة بقسماط   وغرارة عدس  .  وكان لهذا التصرف أثره في رجال القبائل في شمالي الحجاز حتى إن بعض القبائل انخرطت مع الحملة المصرية؛ بهدف الحصول على الأموال  .  ومرّت الحملة البريّة من المويلح إلى ينبع دون مقاومة بسبب موقف شيوخ القبائل المؤيدة، وفي اشتباكات أولية ذكر الجبرتي اشتراك أحد الشيوخ مع طائفة من أتباعه في مهاجمة جيش الدولة السعودية وأسر سبعين من الهجن   ثم أعقبها التحام الفريقين في وادي الصفراء جنوب ينبع في معركة انتهت بهزيمة قوات محمد علي وهروب أفرادها. ويحكي قصّة هذه الهزيمة المؤرخ المعاصر عبدالرحمن الجبرتي؛ حيث ذكر أن شخصًا من أهل التقوى والصلاح ممن شاركوا في المعركة قال له: " أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملّة، وفيهم من لا يتديَّن بدين، ولا ينتحل مذهبًا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يُسمع في عرضينا أذان ولا تُقام به فريضة، والقوم (يعني رجال الدولة السعودية) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وانتظموا صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع... إلخ"  
 
أما الحملة الثانية فقد نجحت في دخول الحجاز بمساعدة الشريف غالب حاكم مكة المكرمة  ،  وكانت الحملة الثالثة قد اتجهت إلى الدرعية فأسقطتها عام 1233هـ / 1818م، معلنة انتهاء الدولة السعودية الأولى  
 
ومنذ سقوط الدولة السعودية الأولى أصبحت منطقة تبوك تابعة لحكم باشوية مصر مباشرة بدلاً من الإدارة العثمانية في جدة أو إستانبول.
 
 
شارك المقالة:
93 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook