العهد العثماني الثاني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد العثماني الثاني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

العهد العثماني الثاني بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
هناك عاملان رئيسان أثّرا في أوضاع منطقة مكة المكرمة في هذه المرحلة من مراحل الحكم العثماني، وهما
 حالة الدولة العثمانية ذاتها في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) التي كانت في أسوأ أحوالها ومراحلها، إذ شهدت ضعفًا عامًا في شؤونها ومظاهرها سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الفكرية أو الاجتماعية، وهو ما انعكس على وجودها واهتمامها وطبيعة حياة الأقاليم التي كانت تحكمها ومن ضمنها الحجاز، وكانت حالة الضعف هذه من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى المناداة بإصلاح الدولة وقيام ما عرف في التاريخ العثماني بحركات الإصلاح
 تجربة محمد علي باشا ومغامرته في فرض سيطرته على الأقاليم واستقلاله الفعلي نتيجة لمعاهدة كوتاهية في شهر ذي الحجة عام 1248هـ / مايو 1833م التي اعترفت فيها الحكومة العثمانية باستقلال محمد علي في أقاليم مصر والشام والحجاز، وكانت هذه التجربة والمغامرة مكلفة جدًا للعثمانيين، لأنها أفقدتهم السند والدعم الشرعي والديني الذي يحتاجونه في صراعهم مع الأوروبيين والروس، فوجود الحجاز وأمكنته المقدسة في ظل الحكم العثماني يمنح الدولة العثمانية شرعية دينية وسياسية كبرى في حماية المسلمين في أقطار الأرض كافة، واعتبارها الممثل الشرعي لهم في جميع قضاياهم السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها
ولذلك فإنه بعد عودة الحكم العثماني إلى الحجاز نتيجة لإجبار الدول العظمى - آنذاك - محمد علي باشا على التخلي عنه، عزمت الدولة العثمانية على جعل الإقليم إقليمًا عثمانيًا بحتًا في كل شؤونه دون الاستقلالية التي كانت له ولحكامه من الأشراف في المرحلة الأولى، فعمدت إلى سن قوانين وأنظمة لم تكن موجودة من قبل، منها إعلان الحجاز ولاية عثمانية يشرف على إدارتها وشؤونها العامة موظف عثماني تركي برتبة باشا يسمى والي الحجاز، وأبقت الحكومة للأشراف إمارة مكة المكرمة يتولاها شريف يصدر تعيينه من الباب العالي، ولكنها حَجَّمت كثيرًا من صلاحياته ومسؤولياته، ولم يعد له سوى حق الإشراف على شؤون القبائل، والفصل بينهم في الخصومات، والنظر في بعض المسائل التجارية والاجتماعية الخاصة، وحددت الدولة له راتبًا معينًا يتسلمه من الخزينة العثمانية المركزية في إستانبول، وألغت عددًا من الأموال والموارد التي كان الأمير يحصل عليها في المرحلة الأولى. وأوجدت الدولة العثمانية كثيرًا من الوظائف الإدارية والعسكرية التي تعين لها موظفين عثمانيين تكون مسؤولية الإشراف عليهم من قبل الوالي العثماني، ولم تكن هذه الوظائف والتعيينات واضحة منذ بداية عودة الحكم العثماني على منطقة مكة المكرمة، وإنما تزايدت واتسعت مع الأيام حتى تمثلت في أكمل صورها بعد صدور قانون الولايات الذي صدر على يد الصدر الأعظم العثماني فؤاد باشا في عام 1280هـ / 1864م الذي نظم أقاليم الدولة كلها ومنها الحجاز
وبحسب هذا القانون أصبح الحجاز ولاية عثمانية يشرف عليها والٍ برتبة باشا، ومركزها الإداري في مكة المكرمة حيث يقيم الوالي العثماني، وأما جدة والمدينة المنورة فقد أصبحتا (سنجقين)، حيث يشرف على جدة (قائمقام)، وعلى المدينة المنورة محافظ، وكلاهما يتبع كلية لسلطة الوالي في مكة المكرمة، كما أصبحت مدن ينبع والليث والوجه والعقبة أقضية يديرها (متصرف) أو (قائمقام). أما مدن الطائف ورابغ وأملج والعلا وخيبر فقد أطلق عليها اسم نواحٍ (مفردها ناحية) يديرها موظف تركي يسمى مدير الناحية، وكل هؤلاء المتصرفين والقائمقام ومديري النواحي يتبعون مباشرة لسلطة الوالي في مكة المكرم
ولتنظيم شؤون الولاية جعلت الدولة للحجاز مجلسًا ينظر في أموره المهمة يرأسه الوالي، كما أنها جعلت لكل من التفريعات الإدارية الأخرى سواء السنجقية أو القضاء أو الناحية مجلسًا مشابهًا يرأسه المسؤول الإداري فيه؛ أي المحافظ أو المتصرف أو مدير الناحية
ووفقًا لما تنقله السالنامة العثمانية الخاصة بولاية الحجاز لعام 1303هـ / 1886م، فقد تكونت أركان الولاية من الآتي: عثمان نوري باشا والي الولاية برتبة مشير، ومجلس إدارته يتكون من قاضي مكة المكرمة الحنفي عبدالرحيم أفندي، ومفتي الأحناف عبدالرحمن سراج أفندي، والمسؤول المالي (الدفتردار) أحمد منير بك، ومسؤول المراسلات والسكرتارية (المكتوبجي) علي عاطف بك، ومدير الحرم نظيف أفندي، إضافة إلى مأموري الولاية، وهم نائب الوالي (كتخدا الولاية) إسماعيل بك، ومسؤول الترجمة في الحرمين ترجمان أحمد عطا أفندي، وقائد الحامية آلاي بك عبدالرزاق بك، ومدير البريد والبرق علي رضا بك، ومأمور صحة مكة المكرمة نوري أفندي
وكان مجلس ولاية الحجاز بحسب السالنامة يتألف من عدة أعضاء معينين بحسب وظائفهم هم: القاضي الحنفي، ومفتي الأحناف، (والدفتردار)، (والمكتوبجي)، وأربعة أعضاء منتخبين هم: الشريف حسين باشا يحيى، والسيد عبدالرحمن زاهر باشا، وقائمقام نائب الحرم السيد أحمد أفندي، وسادن الكعبة المشرفة عبدالرحمن شيبي أفندي، إضافة إلى ديوان تمييز للولاية مقره مكة المكرمة يرأسه قاضي مكة المكرمة الحنفي وعضوية مفتي المالكية وشيخ مشايخ الهنود، وشيخ مشايخ الجاوة، وثلاثة أعضاء آخرين، أحدهم لم تتضح صفته الرسمية، بل ذكر اسمه فقط وهو أحمد فقيه أفندي، أما الآخران فهما من سكرتارية الديوان بمسمى مستنطق وكاتب
لم تكن السياسة الجديدة التي اتبعتها الدولة العثمانية كما أرادت الدولة لها من تحقيق الاستقرار وسيادة الأمن في أرجاء الولاية كافة، بل كانت على العكس من ذلك، إذ إنها زادت من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في مختلف مدن الولاية، وبخاصة مكة المكرمة وجدة والطائف، وتمثل ذلك في عدة مظاهر منها زرع بوادر خلاف كبير بين والي الحجاز العثماني وأمير مكة المكرمة الشريف. ولا بد من الإشارة هنا إلى أمرين: الأول: أن مثل هذا الخلاف كان سائدًا في الفترة الأولى بين سنجق جدة العثماني وأمير مكة المكرمة من الأشراف، وأن ما حدث في الفترة الثانية ليس سوى استمرار لذلك النـزاع السابق، وهو ما يميل إليه بعض الباحثين في تاريخ المنطقة مثل السباعي والمعبدي ورضوان وصابرة وإكسونولد، وذلك صحيح إلى حد كبير؛ ولكن كما اتضح في عدد من الأحداث أن السياسة العثمانية الجديدة التي طبقت في الإقليم كانت دافعًا ومحرضًا أساسيًا لخلاف استمر طوال هذه الفترة بين كل الذين تولوا حكم الحجاز، سواء من الولاة العثمانيين أو من أمراء مكة المكرمة من الأشراف، وهو ما لم تشهده المرحلة الأولى بتلك الاستمرارية التي شهدتها المرحلة الثانية
ففي المرحلة الأولى لم يكن الصراع بين سنجق جدة وأمير مكة المكرمة دائمًا أو مستمرًا طوال تلك المرحلة، بل كان متقطعًا بسبب ظروف وعوامل سبق شرحها، أما في المرحلة الثانية فقد كان مستمرًا ومتواصلاً بسبب عدم قبول أمير مكة المكرمة تقليص صلاحياته، وبسبب تمسك الوالي العثماني بالصلاحيات الواسعة والعليا في المنطقة التي منحتها له الحكومة العثمانية المركزية
أما الأمر الآخر الذي يجب وضعه في الحسبان في هذا الموضع، فهو قلة بل انعدام النـزاع المتواصل بين أشراف مكة المكرمة أنفسهم على منصب الإمارة الذي كان شاغلهم طوال المرحلة الأولى، وذلك لأن الحكومة العثمانية المركزية في إستانبول أصبحت هي المعنية باختيار أمير مكة المكرمة وتعيينه، إذ كان في الغالب يتم اختياره من بين الأشراف المقيمين في إستانبول ذاتها
وفيما يخص الوالي العثماني فقد كانت إقامته ومركزه الإداري في بداية المرحلة الثانية مدينة جدة، وفيها يشرف على شؤون الولاية كافة ويمارس صلاحياته ومسؤولياته الأخرى، مثل ولاية الحبش ومشيخة الحرم المكي الذي كان يكلف بها نائبًا له يسمى نائب الحرم
ولكن بعد تطور الأحداث، واستمرار النـزاع بين الوالي وأمير مكة المكرمة، ونتيجة مباشرة لفتنة صالح جوهر في مدينة جدة التي سنورد تفاصيلها لاحقًا، أمرت الدولة العثمانية الوالي بنقل مقره إلى مكة المكرمة ليكون أكثر قدرة على مجابهة أمير مكة المكرمة والسيطرة على شؤون الولاية، وعينت موظفًا عثمانيًا في مدينة جدة يتبع للوالي تحت اسم قائمقام جدة  . 
بدأ الصراع بين الوالي العثماني وأمير مكة المكرمة منذ البدايات الأولى لهذه المرحلة؛ فقد بلغ عثمان باشا أول ولاة الحجاز العثمانيين أن بعضًا من أشراف مكة المكرمة المختصين بجباية الزكاة يتلاعبون بأموال الخزينة، فعنَّفهم وأغلظ في معاملاتهم، فبلغ ذلك أمير مكة المكرمة الأول في هذه المرحلة الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون فاستاء من الأمر، ولم يقبل معاملة الوالي التركي أبناء عمومته من الأشراف بتلك الصورة، وخصوصًا أنه أي الأمير كان يرى أن وجود موظف عثماني برتبة باشا يتولى شؤون الولاية كافة يمثل تعديًا صريحًا على صلاحياته بوصفه حاكمًا للحجاز، ونقصًا من مكانته بوصفه شريفًا، فأعنف في مواجهة عثمان باشا ما أدى إلى نشوب نـزاع بين الطرفين، لكنه لم يتطور إلى قتال مسلح، واستمر طوال عامي 1260 و 1261هـ / 1844 و 1845م، كان كل من الطرفين يسعى إلى إثارة الحكومة العثمانية في إستانبول ضد الآخر واستمالتها إلى جانبه، ولكن الدولة رأت من الصالح عدم إثارة أمير مكة المكرمة وأشرافها، وبخاصة في هذه المرحلة المبكرة من عودة الحجاز إلى الحكم العثماني، فأمرت بعزل عثمان باشا من الولاية وأوكلت إدارتها لوالٍ جديد هو شريف باشا في عام 1263هـ / 1847م
إن عزل الحكومة العثمانية لعثمان باشا لم يكن لاقتناعها بوجاهة أسباب أمير مكة المكرمة محمد بن عبدالمعين بقدر ما كان تكتيكًا سياسيًا لجأت إليه الحكومة خوفًا من ثورة الأشراف وانفصال الحجاز مرة أخرى عنها، وخصوصًا أن محمد علي باشا ما زال مقيمًا في مصر، وما زالت أطماعه في إقامة دولة كبرى قائمة، إضافة إلى حداثة العودة العثمانية إلى الحجاز، وعدم استتباب القبضة العثمانية عليه، ولكن ما إن انتصف عام 1267هـ / 1851م حتى وصلت الأوامر العثمانية من إستانبول بإمضاء الصدر الأعظم رشيد باشا لوالي الحجاز عبدالعزيز باشا الملقب بـ (آغا باشا) بعزل الشريف محمد بن عبدالمعين وترحيله مع عائلته وأبنائه إلى إستانبول، فأبلغ آغا باشا أمير مكة المكرمة، فلما لم يجد مفرًا من الإذعان غادر مع أسرته وأبنائه إلى جدة ومنها أبحر إلى إستانبول  .  وهذه الحادثة تحديدًا توضح بجلاء مدى سيطرة الدولة على شؤون مكة المكرمة وتقليصها الكبير لصلاحيات الأمير، وليس كما كان سائدًا في المرحلة الأولى لحكمها الحجاز
وفي حادثة أخرى توضح استمرارية الصراع بين الوالي والأمير وديمومته، ما حدث بين آغا باشا نفسه وأمير مكة المكرمة الجديد الشريف عبدالمطلب بن غالب في أواخر عام 1269هـ / 1852م، وذلك بسبب عدم قبول الأمير الجديد تدخلات آغا باشا وصلاحياته الواسعة، وكما هو معتاد في حالات كهذه لجأ عبدالمطلب إلى أعوانه ومناصريه في إستانبول لاستصدار أمر من الحكومة المركزية بعزل آغا باشا، وبخاصة أن عبدالمطلب كان قد عاد من حملة عسكرية ناجحة قادها ضد قبائل حرب بناءً على أمر الدولة، واستطاع فيها إخضاع حرب وبناء قلاع في ديارهم لتقوية قبضة الدولة على الحجاز، إضافة إلى أن عبدالمطلب كان قد أقام طويلاً في إستانبول ومنها وجهته الدولة العثمانية لإمارة مكة المكرمة، وذلك يعني أنه استطاع خلال إقامته هناك تكوين صداقات وعلاقات متميزة مع كبار رجال الحكومة المركزية، فأجابت الدولة عبدالمطلب إلى مطالبته بعزل الوالي، فأمرت بعزل عبدالعزيز (آغا باشا) وتعيين أحمد عزت باشا مكانه في العام نفسه
لم يدم الوفاق طويلاً بين عبدالمطلب وأحمد عزت باشا على الرغم من أن بعض المصادر تشير إلى أن عزت باشا كان من أصدقاء عبدالمطلب عند تعيينه واليًا على الحجاز، ففي منتصف عام 1270هـ / 1853م وصل الخلاف بين الطرفين مداه، لأن أمير مكة المكرمة رأى في اتصال الوالي بشيخ السادة في مكة المكرمة إسحق العلوي - الذي كان قريبًا جدًا من أمير مكة المكرمة المعزول محمد بن عبدالمعين بن عون - محاولة لعزله وإعادة تعيين ابن عون في الإمارة، فاستطاع عبدالمطلب مرة أخرى استصدار أمر من حكومة إستانبول بعزل أحمد عزت باشا وتعيين كامل باشا بدلاً منه في ولاية الحجاز، في شهر رجب من العام نفسه
ولعل هذه الحوادث توضح ازدواجية سياسة الدولة العثمانية في إقليم الحجاز، فمرة تؤيد واليها التركي ضد أمير مكة المكرمة، وتمنحه جميع الصلاحيات، ومرة أخرى توافق على طلبات الأمير بعزل الوالي لتمكين سلطة الأمير في الإقليم وتثبيتها. وكانت هذه الازدواجية وعدم وضوح الرؤية هي المسيطرة على الوجود العثماني في منطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز، وكانت هذه الازدواجية من أسباب عدم الاستقرار الذي ساد المنطقة، ولعل لهذه السياسة مبررًا يتبدى في حالة الضعف العام الذي كانت تعانيه الدولة العثمانية في فترتها المتأخرة، وتحديدًا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين بسبب الضعف العام في السلطة المركزية، والهزائم العسكرية المتكررة سواء في الجبهات الروسية أو الأوروبية
ومما زاد من عدم استقرار منطقة مكة المكرمة الأوامر التي كانت تبعثها الدولة العثمانية لأمير مكة المكرمة بشن حملات عسكرية تأديبية ضد كل من نجد وعسير، بسبب اختلاف رؤية حكام هذين الإقليمين مع الدولة وعدم خضوعهما لسلطتها، ولم يكن لأمير مكة المكرمة أي خيار سوى الرضوخ لأوامر الدولة وحشد قواته حتى لا يحدث ما يغضب الدولة عليه، وقد يؤدي إلى إبعاده من حكم الإقليم، حتى إن كان ذلك على حساب استقرار الإقليم وأمن سكانه؛ فمثلاً صدرت أوامر الدولة للشريف محمد بن عبدالمعين في عام 1263هـ / 1846م بمهاجمة مدينة الرياض وقتال الإمام فيصل بن تركي، وهو ما حدث فعلاً، لكنه لم يصل إلى القتال، وذلك لتدخل بعض أهالي منطقة القصيم وأعيانها، وإرسال الإمام فيصل بن تركي مبلغًا من المال إلى الدولة العثمانية
استغل بعض ولاة الدولة في الحجاز سلطاتهم، وسعوا إلى تحقيق مآرب وأهداف شخصية كانت سببًا في إثارة البلبلة والقلق في نفوس الأهالي، وكان الولاة يعتمدون على الصلاحيات الواسعة التي منحتها الدولة لهم، حتى في تلك التي لم تكن من اختصاصهم في المراحل السابقة، فمثلاً في عام 1266هـ / 1849م حاول حسيب باشا والي الحجاز أن يسيطر على شؤون الإقليم كافة بما فيها الدينية، فكما يذكر المؤرخ دحلان أن حسيب باشا أراد انتزاع الأوقاف السلطانية من أيدي أصحابها الذين حصلوا عليها بما يعرف بالفراغات الشرعية فلم يوافقه العلماء في ذلك، وكانت معارضة مفتي مكة المكرمة عبدالله الميرغني صارمة فعزله حسيب باشا من الإفتاء، فلم يمتثل المفتي لأن ذلك - بحسب رأيهـ - ليس من صلاحيات الوالي، وخوفًا من تطور الأمر إلى ما لا تحمد عقباه جمع المفتي تأييد عدد من علماء مكة المكرمة في شكل شكوى للسلطان العثماني، وسافر إلى إستانبول خفية من دون معرفة حسيب باشا، والتقى السلطان عبدالمجيد 1255 - 1277هـ / 1839 - 1861م الذي أيَّد رأي المفتي وعلماء مكة المكرمة، وأصدر أمرًا بإلغاء قرار حسيب باشا بانتزاع الأوقاف، وأعاد المفتي إلى منصبه، وكانت تلك الحادثة سببًا في عزل الوالي 
ومما زاد في تفاقم سوء أحوال المنطقة الأمنية حالات التذمر الاجتماعية التي كانت تحدث بين فترة وأخرى، وتتطور إلى اشتباكات مسلحة ضد قوات الحامية العثمانية في مدن مكة المكرمة وجدة والطائف، وكانت أسباب تلك الأحداث التي وصفتها بعض المصادر بأنها ثورات، سياسة الدولة العثمانية المتأرجحة وحالة الضعف التي تعانيها، وخصوصًا فيما يتعلق بعلاقاتها مع الدول الكبرى آنذاك، فمثلاً حدث في عام 1271هـ / 1854م أن رضخت الدولة العثمانية لضغوط الدول الأوروبية بإلغاء بيع الرقيق، فأرسلت إلى كل ولاتها في الأقاليم المختلفة بمنع بيع الرقيق، ومن تلك الأقاليم الحجاز، ولما كان بيع الرقيق يمثل موردًا اقتصاديًا جيدًا لبعض التجار والأعيان، فقد استثمر هؤلاء قرار منع الدولة له ليصوروا ذلك وكأنه تعدٍّ على الشريعة الإسلامية وتلاعب بقوانينها وأحكامها، وعندما بَلَّغ والي الحجاز التركي كامل باشا تجار الرقيق بقرار المنع، استثاروا الأهالي والعلماء دفاعًا عن الشريعة والدين، وتحولت جموع الغاضبين إلى أمواج بشرية هادرة اشتبكت في قتال مع القوات العثمانية في الأسواق والأحياء المجاورة للمسجد الحرام، ووصل في بعضه إلى داخل المسجد ذاته، حيث قتل فيه عدة أشخاص من الطرفين، ومما زاد من حدة المواجهات انضمام أمير مكة المكرمة الشريف عبدالمطلب إلى الغاضبين بعد نـزوله من الطائف مع عدد كبير من قبائل غامد وزهران وبني سعد وثقيف، ولعل عبدالمطلب في فعله هذا أراد أن يستعيد بعضًا من صلاحياته التي أفقدته إياها قوانين الدولة العثمانية وأنظمتها في هذه المرحلة، وهو ما يوضح تدخل والي الحجاز كامل باشا في الصراع وأمره بعزل عبدالمطلب عن إمارة مكة المكرمة، وتعيين الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون بدلاً منه، ولم تخف حدة المواجهات بين الطرفين إلا بعد وصول أوامر الحكومة المركزية في إستانبول بتأكيد تعيين الشريف محمد ووصوله إلى ميناء جدة قادمًا من إستانبول، وتمكنه من القبض على عبدالمطلب وإرساله مكبلاً إلى العاصمة العثمانية، وبذلك هدأت انتفاضة اجتماعية كادت تتطور إلى ثورة ضد الوجود العثماني في المنطقة
ومن الاضطرابات والقلاقل الاجتماعية التي شهدتها هذه الفترة، وكانت لها انعكاسات سلبية خطيرة على استقرار أحوال منطقة مكة المكرمة ما عرف بفتنة صالح جوهر في مدينة جدة، وقد شاركت فيها عدة أطراف من أهالي جدة ومسؤولي الولاية والحكومة المركزية في إستانبول ودولتين أوروبيتين هما بريطانيا وفرنسا؛ وتفاصيلها أن أحد تجار جدة، ويدعى صالح جوهر، كانت له مراكب تجارية يرفع عليها العلم البريطاني - ربما للاستفادة من الاستثناءات الجمركية التي تخولها قوانين الامتيازات الأجنبية، إذ التزمت بها الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية   - ولكن لسبب أو لآخر ولخلاف حدث بينه وبين القنصل البريطاني في جدة المستر جاكو، أنـزل جوهر العلم البريطاني من على سارية مركبه، ورفع العلم العثماني بدلاً منه في دلالة على رفض تبعيته للسلطات والأنظمة والقوانين البريطانية، وكان ذلك تحديدًا في 6 / 11 / 1274هـ الموافق 12 / 6 / 1858م، فما كان من القنصل إلا أن أنـزل العلم العثماني بالقوة وأعاد العلم البريطاني مكانه، فأثار صالح جوهر الأهالي وادّعى أن القنصل داس علم الدولة الإسلامية احتقارًا لها ولأتباعها، فثارت ثائرة أهالي جدة وتنادوا بالجهاد ضد الكفار، وتواصلت جموعهم بأعداد غفيرة لردِّ اعتبار الدولة العثمانية، فهاجموا منـزل القنصل جاكو وقتلوه، كما هاجموا منـزل القنصل الفرنسي وقتلوه أيضًا، إضافة إلى مهاجمتهم لمنازل أوروبيين آخرين وقتل بعضهم، وبخاصة أولئك الذين صادفوهم في شوارع جدة وأزقتها. وعلى الرغم من محاولة والي الحجاز نامق باشا إخماد الفتنة وقبضه على صالح جوهر ومشاركين آخرين، وسجنهم، إلا أن مطالب بريطانيا بضرورة معاقبة جميع المشاركين والمتسببين في الحادثة زادت الأوضاع سوءًا، حتى إن عددًا كبيرًا من أعيان جدة وعلمائها وأهاليها طالبوا نامقًا بضرورة إعلان الجهاد، واستنفار قبائل الحجاز والمسلمين كافة للدفاع عن الأراضي المقدسة، خصوصًا أن بريطانيا هددت باتخاذ إجراءات عسكرية مشددة إذا لم تنفذ طلباتها، وبالفعل أرسلت بريطانيا فرقاطة حربية بحرية حاصرت مدينة جدة وضربتها بالقذائف التي تسببت في مقتل بعض الأهالي وتدمير عدة ممتلكات، وكادت جدة تتحول إلى خراب ودمار لولا تدخل بعض أعيانها مع قائد الفرقاطة البريطانية لتهدئة الأوضاع حتى تصل أوامر الحكومة المركزية من إستانبول بعد أن أرسل إليهم نامق باشا ملابسات الموقف
ولما لم تكن الحكومة العثمانية في وضع يتيح لها المقاومة أو حتى المناورة مع الدول الكبرى لضعفها، رضخت لكل المطالب البريطانية والفرنسية، فتشكلت لجنة مشتركة من مسؤولين بريطانيين وفرنسيين، إضافة إلى المسؤولين العثمانيين للنظر في الحادثة وتقدير أسبابها وطرق معالجتها. وفي شهر المحرم من عام 1275هـ / أغسطس 1858م وصلت اللجنة إلى مدينة جدة تحمل تفويضًا من السلطان العثماني عبدالمجيد يخولها صلاحيات مطلقة، ويحث مسؤولي جدة أتراكًا وعربًا على التعاون معها وتسهيل مهمتها، وبعد عدة لقاءات مع أهالي جدة وتجارها وأعيانها رأت اللجنة أن محرضي الحركة هم قاضي جدة عبدالقادر شيخ، والمحتسب الشيخ عبدالله، وعمر باديب أحد تجار جدة، والشيخ سعيد بغلف، وشيخ السادة عبدالله بهرون، والشيخ عبدالغفار باغفار، والشيخ يوسف باناجة، وكبير الحضارمة الشيخ سعيد بن حسين العامودي، وحكمت بقتل المحتسب وكبير الحضارمة واثني عشر شخصًا آخرين من عامة أهالي جدة، كما حكمت بنفي بقية المحرضين إلى خارج جدة، فسافر بعض منهم إلى الهند وآخرون إلى إندونيسيا، كما أدانت اللجنة قائمقام جدة التركي عبدالله وأمرت بسجنه وعزله من منصبه، إضافة إلى تعويض أسرة القنصل الفرنسي الذي قتل في الحادثة براتب شهري طوال إقامتها في مدينة جدة، ونُفّذت أحكام الإعدام في أوائل شهر ربيع الأول 1275هـ / أكتوبر 1858م
لم يكن أهالي منطقة مكة المكرمة على وفاق كامل مع الجنود والمسؤولين العثمانيين، بل كانت نفوسهم مشحونة ومتوترة ضدهم، وربما يعود السبب إلى تحكم العثمانيين في شؤون المنطقة وقضاياها بشكل لم تعهده من قبل، وقد ظهرت حالات التوتر والغضب من العثمانيين في عدة حوادث، لعل من أبرزها ما عرف في المصادر التاريخية ب (فتنة حوا) و (ثورة القبوري) في مكة المكرمة ذاتها؛ ففي شهر صفر من عام 1288هـ / إبريل 1871م حدث أن اختلف واحد من عامة الناس ويدعى حوا مع بعض الجنود العثمانيين في سوق المعلاة القريبة من الحرم المكي لسبب أو لآخر، وأدى ذلك إلى اشتباك بالأيدي، ثم تطور إلى نـزاع عام بين أهالي السوق الذين هبوا لنصرة حوا وبين الجنود العثمانيين، وانتشر حتى شمل أطراف مكة المكرمة، نتج منه مقتل بعض الجنود، كما أقفلت الأسواق واضطربت أحوال البلد، واستمرت الاشتباكات طوال اليوم إلى أن تدخل أمير مكة المكرمة الشريف عبدالله بن محمد بن عبدالمعين لتهدئة الأوضاع وطمأنة الأهالي، فقبض على بعض مثيري الفتنة، وسعى إلى إعادة استقرار أحوال مكة المكرمة الأمنية سواء في الأسواق أو في أطراف المدينة
وكما يذكر دحلان فقد عقد الشريف عبدالله مجالس قضاء للمعتقلين بحضور والي الحجاز العثماني خورشيد باشا وقاضي مكة المكرمة ومفتيها وكثير من علمائها، فحكموا على بعضهم بالنفي خارج مكة المكرمة وسجنوا آخرين فاطمأن الناس وزالت الفتنة
أما ثورة القبوري فسببها - كما ينقل السباعي - أن بعضًا من أهالي مكة المكرمة ثاروا ضد قرار الحكومة المركزية في إستانبول لواليها في الحجاز في عام 1326هـ / 1908م الخاص باستيفاء ضريبة خاصة على دفن الموتى بخمسة ريالات للصرف منها على إصلاح القبور وترميمها، فاستدعى شيخ القبوريين المسؤول عن شؤون الموتى ودفنهم، وأبلغه بقرار إستانبول وفرض الضريبة لاستيفائها من كل من يريد دفن ميت في مقابر المعلاة  فلم يقبل شيخ القبوريين بذلك. وبما أنه لا يستطيع بمفرده مواجهة الحكومة فقد نادى في أهالي مكة المكرمة وحرضهم ضد القرار، ولما كانت النفوس - كما ذكرنا - مليئة ومتوترة ضد العثمانيين، فقد تنادى العامة بالجهاد فاستجابت لهم أحياء مكة المكرمة وحاراتها، وحملوا أسلحتهم ضد الجنود العثمانيين داعين بالثورة على سلطتهم ورفضها، واشتبك الفريقان في قتال حقيقي في شوارع مكة المكرمة وأسواقها أدى إلى قتل أعداد كبيرة وجرح آخرين من الطرفين، ولم تهدأ الاشتباكات إلا بتدخل عدد من الأشراف وكبار الأعيان، وكانت هذه الحادثة سببًا في عزل أمير مكة المكرمة الشريف عبدالله؛ لأنه لم يكن يميل إلى إعلان الدستور العثماني في مكة المكرمة ويسلم بأحكامه، وأنه كان الداعي إلى الثورة وساعد الثائرين، فصدر أمر بعزله في 28 رمضان 1326هـ / سبتمبر 1908م
هذه الأحداث وغيرها تدل على أن سياسة الدولة العثمانية في منطقة مكة المكرمة وإقليم الحجاز طوال هذه الفترة كانت سببًا مباشرًا لعدم الاستقرار وكثرة الاضطرابات، وبخاصة أن أهالي المنطقة رأوا في الوجود العثماني - بالطريقة التي كان يسعى فيها العثمانيون إلى تدعيم سلطاتهم في الإقليم - فرضًا وتحكُّمًا في شؤون حياتهم كافة بطريقة لم يعهدوها من قبل، وتحولت الدولة العثمانية من دولة إسلامية راعية لمناطق متعددة في العالم الإسلامي إلى قوات احتلال وسلطة مركزية متسلطة، وهو ما أدى في النهاية إلى قيام ثورة الشريف الحسين بن علي أو ما عرف بالثورة العربية الكبرى
وعلى الرغم من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في منطقة مكة المكرمة، إلا أن المنطقة شهدت بعضًا من مظاهر التنمية المدنية الحديثة سواء في تشييد الطرق أو نشر التعليم أو الاهتمام بالصحة أو تطوير الاتصالات؛ فقد شهدت مكة المكرمة نفسها اتساعًا عمرانيًا كبيرًا، وذلك بسبب تدفق الهجرات من شتى أنحاء العالم الإسلامي، خصوصًا تلك المناطق التي كانت تشهد اضطرابات أمنية خطيرة نتيجة للاندفاع الاستعماري الذي قامت به الدول الكبرى آنذاك، مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا، وقد أثّرت هذه الهجرات كثيرًا في طبيعة التركيبة السكانية الأصلية لمجتمع الحجاز برمته 
وشهد الحرم المكي بعض الإصلاحات  ،  إذ زودت أعمدته بقناديل إضاءة، بلغ عددها في بعض الأوقات قرابة ألف وأربعمئة واثنين وعشرين قنديلاً، كما تم رصف بعض الممرات الداخلية للحرم
وشهدت كذلك مرافق الحرم عدة إصلاحات عبر سنوات هذه المرحلة تمثلت في تحسين الحمامات العامة ومجاري عين زبيدة وترميمها وتجديدها، وهي التي كانت تزود الحرم المكي وأحياء مكة المكرمة بالمياه الخاصة بالشرب، وكانت أهم الإصلاحات التي أوجدها العثمانيون في الحجاز قد تمت في حكم الوالي عثمان نوري باشا، وخصوصًا فيما يتعلق بتنظيم الإدارة العثمانية في الإقليم أو في المجال الصحي؛ فقد أنشأ مستشفى أجياد ويعد أول إدارة صحية تشهدها المنطقة، إضافة إلى مقر للحكومة سمي بالحميدية نسبة إلى السلطان عبدالحميد
كما نالت مدينة جدة نصيبها من الإصلاحات العامة، فقام والي الحجاز صفوت باشا في بداية توليه إمرة الحجاز في عام 1297هـ / 1879م بإيصال مياه العين الوزيرية التي عرفت في حكمه باسم العين الحميدية إلى أحياء جدة وحاراتها، فسهلت بذلك وصول مياه الشرب إلى الأهالي، وقللت من معاناتهم في الحصول على المياه؛ لأن جدة تفتقر إلى المصادر الطبيعية للمياه، وفي عام 1328هـ / 1910م قام قائمقام جدة صادق المؤيد بإمداد جدة بمياه إضافية من القرى والضواحي المحيطة بها، وإصلاح مجاري العين الحميدية، كما أضاء شوارع جدة، وثبت لوحات بأسماء الشوارع، ورقّم المنازل والسنابك والزوارق، وأقام مراكز إرشادية للحجاج الواصلين إلى مينائها، ومراكز فحص صحي لهم  
كما شهدت جدة إنشاء أول محكمة تجارية في منطقة مكة المكرمة؛ حيث أنشأ العثمانيون في بداية القرن الرابع عشر الهجري محكمة للفصل في القضايا التجارية كانت - كما يذكر المعبدي نقلاً عن مجموعة عارفي الوثائقية الذي كان قائمقام لجدة - تضم نوعين من الأعضاء: النوع الأول هم الأعضاء الدائمون الذين يتم اختيارهم بالتعيين، والنوع الآخر أعضاء مؤقتون يتم اختيارهم عن طريق الانتخاب، ولم يكن عدد هؤلاء الأعضاء ثابتًا؛ ففي حين كان عددهم في عام 1301هـ / 1883م أربعة أعضاء: اثنان دائمان واثنان مؤقتان، كان عددهم في عام 1303هـ / 1885م ستة: ثلاثة منهم دائمون والبقية مؤقتون، ووصل عددهم في عام 1305هـ / 1887م إلى ثمانية أعضاء نصفهم دائمون والنصف الآخر مؤقتون، ولكن العدد نقص في العام التالي إلى أربعة فقط بين دائمين ومؤقتين 
كانت حلقات الدرس في الحرم المكي  نشيطة جدًا، وامتدادًا لتقليد مستمر في التاريخ الإسلامي منذ بداياته الأولى، وقد بلغت في هذه الفترة قرابة المئة والعشرين حلقة، يشرف عليها ويدرس فيها علماء من أهالي مكة المكرمة، وممن نجحوا في امتحان عام يعقد لهم برئاسة شيخ علماء الحرم أو نائبه، وكانت الحلقات تدرس العلوم الشرعية والعربية كافة من تفسير وحديث وتوحيد وفقه وبلاغة وصرف ونحو وأدب ومنطق وحساب، وقد وصف المستشرق والمؤرخ الهولندي الشهير سنوك هورخرونيه حلقات الدرس في الحرم المكي بأنها جامعة
تعد الكتاتيب اللبنة الأولى للتعليم في مكة المكرمة وجدة والطائف والقرى المحيطة بها، وكان لهذه الكتاتيب دور مؤثر في تعليم أبناء الحاضرة والبادية في المنطقة، ولا سيما أن أعدادها كانت جيدة نسبة إلى مساحة المنطقة، وكما ينقل الدكتور الشامخ عن إحصائية سالنامة الحجاز لخمس سنوات عن التعليم في مكة المكرمة، فقد بلغ عدد الكتاتيب في مكة المكرمة وحدها في عام 1301هـ / 1883م ثلاثة وثلاثين كُتَّابًا تضم ألفًا ومئة وخمسين طالبًا، وفي جدة كان عدد الكتاتيب في عام 1305هـ / 1887م تسعة كتاتيب، وبلغ عدد الكتاتيب في مدينة الطائف في العام نفسه أربعة كتاتيب 
أما النمط الآخر من التعليم الأهلي، فكان المدارس الاعتيادية بكل مراحلها الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وقد شهدت مدينة مكة المكرمة إنشاء أولى تلك المدارس في نهاية القرن الثالث عشر الهجري عندما تم افتتاح المدرسة الصولتية  التي أسسها الشيخ محمد رحمت الله العثماني أحد علماء الهند في عام 1292هـ / 1875م، وكانت تضم المراحل الدراسية كافة، بما فيها التعليم العالي الذي كانت مدته عامين، وقد بلغ عدد طلابها ما بين 150 و 200 طالب يدرسهم قرابة عشرة مدرسين، وكانت الدراسة فيها مجانًا وتعتمد في مواردها على المساعدات والإعانات الخيرية وبخاصة تلك التي تصلها من الهند
كما أنشئت مدرسة أخرى في عام 1296هـ / 1878م وهي المدرسة الفخرية التي أسسها أحد أساتذة المدرسة الصولتية وهو الشيخ عبدالحق قارئ، ولم تكن بعيدة عن الصولتية في فلسفتها التعليمية؛ فالدراسة بها مجانية، وتعتمد في مواردها على المساعدات والهبات الخيرية
وفي فترة لاحقة - أي في عام 1326هـ / 1908م - أسس الشيخ محمد حسين خياط مدرسة أخرى سماها المدرسة الخيرية التي كانت مثل غيرها تدرس الطلاب مجانًا، وتعتمد على المساعدات والهبات في توفير مواردها المالية، وقد بلغ عدد طلابها بعد عامين من افتتاحها قرابة الثلاثمئة طالب
شهدت مدينة جدة تأسيس مدارس أهلية منها مدرسة النجاح التي أسست في عام 1317هـ / 1899م على يد عدد من المصريين وأهالي جدة وهم: الشيخ أحمد شاهين ومحمد أفندي من مصر، وعبدالعزيز وعبدالرحمن شمس وعبدالمقصود خوجة من جدة. وفي عام 1320هـ / 1902م أسست مدرسة أهلية أخرى أقامها الشيخ عبدالكريم مرداد الطرابلسي، ولكن لقلة موارد كلتا المدرستين (النجاح والطرابلسي) لم تستمرا طويلاً؛ فقد أقفلت الأولى في عام 1324هـ / 1906م، والثانية قبلها بعام
أما أكبر المدارس الأهلية تأثيرًا وسعة، فقد كانت مدارس الفلاح التي أقيمت في كل من مكة المكرمة وجدة، ولا زالت مستمرة في أداء دورها التعليمي، وقد أسسها الشيخ محمد علي زينل علي رضا أحد كبار تجار مدينة جدة وأعيانها؛ ففي 9 شوال 1323هـ / ديسمبر 1905م أسست مدرسة الفلاح في مدينة جدة،  تبعتها بعد ذلك بسبع سنوات مدرسة مكة المكرمة التي أسست في عام 1330هـ / 1911م، وكان عدد طلابها في بداية التأسيس أكثر من مئتين وعشرين طالبًا تزايدوا مع مرور الوقت في كل مراحل الدراسة التي تضمها المدرسة. وقد أسهم تجار جدة وأعيانها في استمرار المدرسة وازدهارها من خلال التبرعات المستمرة والأوقاف المخصصة للمدرسة وتأمين موارد ثابتة لها. ولم تكن الدراسة في مدارس الفلاح مجانًا بل كانت تستوفي مبالغ رمزية بحسب استطاعة الطلاب، وهو ما شكل موردًا ماليًا ساعدها على الاستمرار
ولم يكن التعليم الحكومي في منطقة مكة المكرمة منتشرًا، بل لم يكن له وجود إطلاقًا قبل بدايات القرن الرابع عشر الهجري وهي فترة متأخرة كثيرًا، ويعود ذلك إلى عدم اهتمام الحكومة العثمانية كثيرًا بنشر التعليم، ولما أرادت إستانبول إنشاء المدارس الحكومية في منطقة مكة المكرمة كان ذلك تحقيقًا لهدف التتريك في الغالب، وهي السياسة التي لجأت إليها حكومة الاتحاد والترقي في أقاليم الدولة كلها تنفيذًا لتوجهاتها القومية الطورانية، وتم بالفعل افتتاح أول مدرسة في مكة المكرمة في عام 1301هـ / 1883م؛ وهي المدرسة الرشدية التي تعد في تسلسل التنظيم التعليمي العثماني معادلة للمرحلة المتوسطة، ومدة الدراسة فيها ثلاث سنوات، وكانت تدرس المواد باللغة التركية؛ ولهذا لم يلتحق بها سوى أبناء الموظفين العثمانيين وأبناء من كانت لهم صلة بالحكومة العثمانية، أما بقية أهالي مكة المكرمة فلم يرسلوا أبناءهم إلى الدراسة فيها خوفًا من تتريكهم ومن إرسالهم إلى السلك العسكري
كما أنشأت الحكومة العثمانية في عام 1305هـ / 1887م مدرسة رشدية أخرى في مدينة جدة، وكانت مثل نمط مدرسة مكة المكرمة نفسه، إذ تدرس موادها باللغة التركية، وهو ما جعل أهالي جدة يمتنعون عن إرسال أبنائهم للدراسة فيها خوفًا من التتريك، ولم ينضم إليها سوى أبناء الموظفين العثمانيين الذين بلغوا ثمانية وثلاثين طالبًا يعلمهم معلمان فقط
وكانت كلتا المدرستين تعلم مواد مختلفة منها المواد الدينية كالقرآن الكريم والتوحيد والتفسير، إضافة إلى مواد اللغة العربية مثل: الصرف والإملاء والخط، ومواد أخرى كالحساب والجغرافية والتاريخ والهندسة والرسم وقواعد اللغة التركية وإملائها
شكلت في البداية لجنة للمعارف برئاسة أمين سر الولاية، ثم أصبحت هيئة مستقلة برئاسة أمين بك أفندي، وهي التي قررت تأسيس أربع مدارس ابتدائية في مكة المكرمة ويقبل فيها طالبان من كل قبيلة من القبائل المجاورة لمكة المكرمة، ويكون إجمالي عدد الطلاب المقبولين فيها في كل عام مئة طالب، إضافة إلى افتتاحها مدرسة ليلية تضم مئة طالب وتدرس العلوم الدينية والمعلومات المدنية. كما افتتحت في عام 1326هـ / 1908م مدرسة حكومية لتعليم اللغة التركية في جدة، وبعدها بعامين افتتحت مدرستان ابتدائيتان في قريتي النـزلة وبني مالك   اللتين كانتا في تلك الفترة تجاوران جدة، أما في وقتنا الراهن فهما من أحياء مدينة جدة وفي قلبها
ومن المظاهر الثقافية الأخرى التي شهدتها منطقة مكة المكرمة خلال هذه الفترة إنشاء المطابع والصحف، فقد أنشأت الحكومة العثمانية أول مطبعة لها في المنطقة في عام 1300هـ / 1882م، وهي مطبعة ولاية الحجاز، وكانت تهتم بطباعة كتب علماء الحرمين. وحسب إحصائية سالنامة الحجاز بلغ عدد الكتب التي طبعتها ونشرتها المطبعة في عام 1303هـ / 1885م خمسة وأربعين كتابًا. كما شهدت مكة المكرمة في عام 1327هـ / 1909م إنشاء مطبعتين أخريين هما المطبعة الماجدية ومطبعة شمس الحقيقة واسمها التركي (شمس حقيقت)
ولا شك أن هذه المطابع أسهمت في نشر الثقافة والمعرفة في ربوع مدن مكة المكرمة وقراها، وكان لها تأثيرها الإيجابي في تحريك الركود المعرفي الذي عانت منه طوال فترة الحكم العثماني
ومما ساعد أيضًا في نشر الثقافة والمعرفة إنشاء الصحف؛ فبعد أن كان أهالي الحجاز كافة يعتمدون في قراءة الصحف والمجلات على ما يفد إليهم من مصر والشام أصبحوا يقرؤون صحفًا حجازية بحتة هي حجاز، وشمس الحقيقة (شمس حقيقت)، والإصلاح الحجازي، وصفا الحجاز، والرقيب، وبعضها - كما هو واضح من اسمها - كان يطبع وينشر باللغة التركية مثل حجاز وشمس حقيقت، وكان إنشاء هذه الصحف خلال عامي 1326 و 1327هـ / 1908 و 1909م
أخذت الحياة الثقافية والفكرية والمعرفية تتسع في أرجاء المنطقة بمثل هذه المظاهر والوسائل الثقافية، وبدأت تساير ما كان يحدث من حراك ثقافي ومعرفي في أقاليم وبلدان أخرى مثل الشام ومصر اللتين شهدتا حركة وتطورًا فكريًا منذ بدايات القرن الثالث عشر الهجري نتيجة لاتصالهما بأوروبا وإنشاء مدارس الإرساليات والمطابع والصحف منذ الحملة الفرنسية على مصر والشام
إن منطقة مكة المكرمة لم تشهد طوال فترة الحكم العثماني استقرارًا أمنيًا وتطورًا تنمويًا شاملاً في جميع شؤون حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية بمثل ما كانت تشهده مناطق أخرى، سواء مجاورة لها كمصر وبلاد الشام، أو بعيدة كما في أوروبا التي كانت تشهد تسارعًا حضاريًا كبيرًا نقلها إلى أن أصبحت من القوى المؤثرة في العالم، ونعمت شعوبها بازدهار وتطور كبيرين
 
شارك المقالة:
55 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook