العهد النبوي في منطقة القصيم في المملكة العربية السعودية.
لقد كانت قبائل المنطقة - شأنها في ذلك شأن معظم قبائل الجزيرة - تنظر إلى أهل مكة ومن لحق بهم بحلف أو جوار على أنهم أهل الكعبة وسدنتها، وأن هذه البلدة المقدسة هي مركز العرب الديني، كما أضاف نشاط قريش التجاري ورحلات تجارها إلى مكانة قريش بُعدًا آخر حَدَا بمعظم القبائل إلى الحرص على تقوية صلتها بمكة، ومن جانب آخر فإنَّ قريشًا حرصت على تقوية صلتها بجزء من قبائل المنطقة، ومنها تلك الفصائل القبلية التي تنتشر قرب وادي الرمة الذي يعد عقدة المواصلات شمالي الجزيرة العربية، فقد تطلبت الحاجة إلى توفير الأمن والسلام للقوافل القرشية في الجزيرة استقطاب تلك القبائل ودمجها في الأنشطة المكية، فاشتركت فصائل من تميم في تنظيم سوق عكاظ والإدارة في السوق، وكذلك الإشراف على الإجازة والإفاضة في موسم الحج ، ولم تكن الاعتبارات الدينية والمصلحية وحدها هي التي جعلت علاقات مكة بقبائل المنطقة تبدو متينة وقوية، فهناك الروابط النسبية حيث تنتمي قريش وقبائل المنطقة إلى مضر.
ولما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام بمكة كانت معظم القبائل العربية متأثرة بما تقوله الزعامة المكية عن الدعوة بحكم أنها تتأثر بقريش في المعتقد والنظر إلى عبادة الأصنام، وقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة دعوة بعض الوافدين إلى مكة من ممثلي القبائل العربية ممن يأتي في موسم الحج، فقد عرض رسول الله دعوته على قبائل غطفانية بعضها ممن ينتشر في غربي المنطقة وما جاورها كفزارة وبني عبد الله، إلا أن موقفها كان سلبيًا، وروى أبو نعيم الأصبهاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى منازل عبس وهم نازلون بمنى وهو نازل بالجمرة الأولى ومعه زيد بن حارثة فدعاهم فما استجابوا له إلا أن ميسرة بن مسروق العبسي قال له: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه، وعاد القوم إلى ديارهم وفي الطريق سألوا بعض الكتابيين عن الرسول صلى الله عليه وسلم فذكروا لهم صفته، وهنا دعا ميسرة القوم إلى الإيمان برسول الله، لكن القوم رجعوا إلى بلادهم وأبى عليهم رجال عبس أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد جاء في بعض الروايات أن بعض العبسيين رأى ما يتعرض له المؤمنون بمكة من إيذاء إلا أنه ليس من المؤكد أن يكون قد أسلم في تلك الفترة. ومع جهود الرسول صلى الله عليه وسلم في عرض الإسلام على القبائل إلا أن تلك القبائل ذات المصالح مع مكة وقوافلها لم يشأ زعماؤها تقبل الدعوة خشية فوات تلك المصالح إلى جانب معوقات أخرى، كما أن تلك القبائل المنتشرة في عمق الصحراء، المتجولة بين الأمكنة التي لا تملك مستقرات ثابتة، ليست مهيأة أساسًا لحمل الدعوة وإجارة صاحبها عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لتضع مجموعة القبائل البدوية المنتشرة منازلها في غربي المنطقة وشمالها الغربي أمام وضع جديد نشأ في البلدة التي ترتبط معها تلك البادية بوشائج اجتماعية واقتصادية لكونها تمتلك سوقًا جاذبة لها، إضافة إلى أن المدينة بلدة زراعية منتجة تأخذ منها تلك البوادي السلع والغلات. ويلاحظ أن أسدًا وفزارة أخذتا موقفًا معاديًا من الدولة الإسلامية، ومع تطور الأحداث شاركتا إلى جانب قريش واليهود وسُليم في التحالف ضد المسلمين . وقبل ذلك كانت بعض سرايا المسلمين قد توجهت إلى بعض نواحي المنطقة إما لملاحقة قوافل قريش أو لتأديب بعض القبائل التي ظنت بالمسلمين ضعفًا.
فقد شهدت حدود القصيم الشمالية الغربية عند القردة (أو الفردة) سرية زيد بن حارثة الموجهة نحو إحدى قوافل قريش . وفي المحرم من السنة الرابعة اتجهت سرية إسلامية نحو قطن من منازل بني أسد حيث كان طليحة وخويلد ابنا سلمة يزمعان حرب المسلمين والإغارة على المدينة؛ ويعلل ذلك برغبتهم في أخْذ خيرات المدينة والتقرب إلى قريش. ومع أن هناك من حذرهم مما عزموا عليه إلا أنهم عصوه وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنباء تحركهم فأرسل أبا سلمة المخزومي إلى أرض بني أسد ومعه 150 رجلاً فجد في السير وانتهى إلى قطن، وهو من مياههم، وأغار على سرح لهم وأفلت سائرهم
ومن السرايا الموجهة إلى بني أسد سرية غمر مرزوق من مياه بني أسد وقائدها عكاشة بن محصن الأسدي ، وهو من أسد الحجاز. ويعود تاريخ هذه السرية إلى ربيع الأول سنة 6هـ / 627م، كما بعث النبي صلى الله عليه وسلم غالبًا الليثي إلى بعض فروع غطفان وهم بالميفعة وراء بطن نخل (الحناكية). وهذه السرايا كانت تؤدي دورًا تعليميًا وثقافيًا لم تبرزه كتب المغازي ولم تُعن بتسجيله إذ بنيت على تفاصيل ما يرد في كتب الأيام والحروب العربية، لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم قُراء وفقهاء إلى أعراب نجد ، كما قرأ نفر من أصحابه على أحد زعماء العرب من باب الرقية ، ولقد شكلت بعض القيادات القبلية عاملاً معوقًا لانتشار الإسلام في المنطقة خشية أن تقوض الدعوة تأثيرهم السياسي وتلغي قدرتهم على استقطاب الفئات المحكومة من قبلهم، فهؤلاء نظروا إلى الدعوة على أنها قوة مزاحمة لهم تسعى إلى تغيير الأوضاع المتأصلة وتسعى إلى الانتشار والتأثير في الأفراد.
ومع مرور الزمن أخذ الإسلام ينتشر بين بعض القبائل، حيث نجح المسلمون في جذب بعض أفرادها وتثقيفهم، ومن ثَمَّ أدى ذلك إلى سريان الإسلام بين هذه المجاميع القبلية ذات التفكير الفطري البسيط. ومما أسهم في انتشار الإسلام بين قبائل المنطقة تعاظم قوة الدولة الإسلامية في المنطقة وتنامي نفوذها، خصوصًا بعد غزوة الحديبية، فقد أصبحت هذه القبائل أمام دولة قوية تسيطر على المدينة وما جاورها بكل حزم وقوة. وأدركت تلك القبائل وغيرها ما ينطوي عليه بقاؤها موالية لقيم قريش من الأضرار المادية والسياسية، ثم إن عقلاء القوم أدركوا زيف عبادة الأصنام التي أصلتها الزعامة المكية في نفوس العرب. يتبين ذلك عندما نستعرض عددًا من المواقف التي عبر من خلالها أولئك الأعراب البسطاء المضلَّلين عن إدراكهم زيف عبادة الأصنام، مثل قول القائل:
وقلـت لنفسي حين راجعت حزمها أهـذا إلــه أبكـم ليس يعقـل
وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 9هـ / 630م وفدٌ من أسد حيث التقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مؤشرًا على رغبتهم في الارتباط بالدولة الإسلامية، وورد أن وفدًا من عبس قدم إلى المدينة والتقى بالنبي صلى الله عليه وسلم، كذلك وفد على المدينة جماعة من بني عبد الله الغطفانيين . وفي السنوات التي أعقبت فتح مكة كانت تأتي النبي وفود مبايعة له من قبائل شتى ومن مناطق مختلفة.