العهدان الأموي والعباسي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهدان الأموي والعباسي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

العهدان الأموي والعباسي في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
ساد الاضطراب شبه الجزيرة العربية عمومًا ومنطقة الباحة خصوصًا بعد انتهاء عصر الخلفاء الراشدين، وأهمل ذكرها في طيات المصادر، واستمر ذلك الإهمال خلال العصر الإسلامي الوسيط، ولعل ذلك يرجع إلى عدد من الأسباب يأتي في مقدمتها انتقال حاضرة الخلافة الإسلامية، ومركز الثقل السياسي والزعامة من الحجاز إلى خارجه، أي من المدينة المنورة إلى خارج شبه الجزيرة العربية، حيث انتقلت العاصمة أولاً إلى الكوفة في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إلى دمشق ثم إلى بغداد، وقد أدى انتقال السلطة المركزية، والزعامة السياسية، إلى خارج الجزيرة العربية إلى ظهور عدد من المشكلات والعقبات السياسية التي كان لها انعكاسها على النواحي الحضارية، منها:
 
تقلص الدور السياسي لشبه الجزيرة العربية فتحولت جميع أجزائها إلى مجرد ولاية عادية ضمن ولايات الدولة الإسلامية، بعد أن كانت مقرًا للسلطة المركزية في عصري الرسالة والخلافة الراشدة، ولم تعد تشكل أهمية عند خلفاء بني أمية وبني العباس، فيما عدا حواضر الحجاز الكبرى التي ظلت لها مكانتها الدينية والسياسية في هذين العصرين لكونهما - مكة المكرمة والمدينة المنورة - مقرًا للحرمين الشريفين بما لهما من مكانة مقدسة في نفوس المسلمين، كما أن السيطرة عليهما، والقائم على خدمتهما وإسباغ الحماية عليهما، يحوز الرضا والتأييد السياسي والروحي من عامة المسلمين وخاصتهم فترتفع مكانتهم، ومن ثَمَّ تتحقق المكاسب السياسية لأولئك الساسة لكونهم رعاة للمقدسات الإسلامية.
 
كما أصبحت أجزاء شبه الجزيرة العربية الأخرى خلاف مكة المكرمة والمدينة المنورة المقدستين، منذ عصري بني أمية وبني العباس وعلى مر القرون الإسلامية الوسيطة هامشية، فلم تعد لها الأهمية والقدر اللذان كانت عليهما في عصري الرسالة والخلفاء الراشدين، ويعود ذلك في رأينا إلى البعد الجغرافي لمعظم أجزاء الجزيرة العربية عن الحاضرة السياسية للدولة الإسلامية ويرجع - أحيانًا - إلى صعوبة التضاريس، ما أثر في سهولة الاتصالات فيما بين تلك البقاع والعاصمة، وهذان السببان نلاحظهما في بلاد السروات التي تعد بلاد غامد وزهران (تهامة وسراة) جزءًا منها  
 
أ - بعض الفتن والحركات السياسية:
 
1 - ثورة أبي حمزة الخارجي:
 
ويدعى المختار بن عوف الأزدي السلمي الدوسي الزهراني، ومستقره في مدينة البصرة بالعراق، وكان معاصرًا للخليفة الأموي مروان بن محمد 127 - 132هـ / 744 - 749م وقد اعتاد أبو حمزة ارتياد مكة المكرمة في كل مواسم الحج لنشر مذهبه الخارجي وتحريض الناس على الفتنة، بغية القضاء على الخلافة الأموية، وخلع مروان بن محمد. وفي عام 128هـ / 745م التقى (المختار) بأحد رجال حضرموت ويدعى، عبد الله بن يحيى الكندي الذي اقتنع بدعوته، ودعاه للذهاب معه إلى حضرموت لنشر دعوته بين قومه، وأشارت بعض المصادر إلى أن الكندي رغَّبه في ذلك بقوله: "إنني رجل مطاع في قومي فاذهب معي إلى بلادي لتجد النصرة والمنعة"، وبالفعل استحسن أبو حمزة الرأي، وخرج بصحبة الكندي إلى بلاد حضرموت، حيث طفق أبو حمزة ينشر أفكاره، ودعا بالخلافة إلى عبد الله بن يحيى الكندي الذي تلقب بـ "طالب الحق"، ثم اجتمع من حولهما عدد كبير من بلاد حضرموت وما حولها، فتكون لهما جيش كبير توجها به إلى مدينة صنعاء فاستولوا عليها وطردوا عمال بني أمية منها، ثم امتد نفوذهما حيث خرج أبو حمزة الخارجي على رأس جيش قوامه ألف رجل فعبر بلاد صعدة ونجران وسروات عسير والباحة حتى دخلوا مكة المكرمة فاستولوا عليها وواصلوا طريقهم شمالاً إلى المدينة المنورة فاستطاعوا السيطرة عليها  ،  ووصلت أخبار تلك الحركة الخارجية واستيلائها على أغلب بلاد اليمن والسروات والحجاز إلى مسامع الخليفة مروان بن محمد فأعدّ جيشًا قوامه أربعة آلاف مقاتل وأسند قيادته إلى عبد الملك بن عطية السعدي عام 130هـ / 747م، فخرج على رأس هذا الجيش قاصدًا المدينة المنورة، ونجح في إلحاق الهزيمة بأبي حمزة الخارجي الذي خرج فارًا إلى مكة المكرمة، فلحق به ابن عطية ليهزمه للمرة الثانية، ويتمكن من قتله، وتشتيت شمل أنصاره، وأرسل خبره إلى مروان بن محمد يبشره بالنصر وقهر الخوارج  
 
أما أنصار الخارجي فقد عاد من نجا منهم إلى صنعاء مرورًا بسراة غامد وزهران، وأجزاء من بلاد نجران، وأخبروا طالب الحق بالهزيمة، فخرج على رأس مجموعة من أنصاره إلى أرض نجران ثم بيشة والباحة، ومنها اتجه إلى الطائف ليأخذ بثأر أبي حمزة ورجاله، ويمنع زحف الجيش الأموي إلى اليمن، فالتقى بأبي عطية في نواحي الطائف، حيث ألحق القائد الأموي الهزيمة بطالب الحق وقتله مع عدد كبير من رجاله، ومزق الخوارج كل ممزق، ولم ينجُ إلا من لاذ بالفرار إلى صنعاء، وتشير المصادر إلى تفاصيل المعركة حيث تذكر صمود الخوارج وذودهم عن أنفسهم ببسالة إلى أن تمكن الأمويون من زعيمهم (طالب الحق) فقتلوه، عندئذٍ فتّ في عضدهم وهزموا  
لم يكتفِ ابن عطية بالقضاء على الخوارج في الحجاز، وقتل أبي حمزة، وطالب الحق بل رأى ضرورة استئصال شأفتهم بالكلية من بلاد اليمن، فتوجه إلى نجران ثم صنعاء فغادرها أتباع طالب الحق، وما زال ابن عطية يلاحقهم في كل صقع من أصقاع اليمن حتى قضى على ثورتهم  
 
2 - ثورات العلويين وغيرهم:
 
وتتابعت الفتن وحركات المعارضة ضد خلافة بني العباس. وكانت الحجاز وبلاد اليمن وما بينها أرض تهامة والسراة، مسرحًا لعدد من هذه الثورات، ولا سيما ثورات العلويين الذين كانوا من أكثر العناصر معارضة، حيث أثاروا عددًا من القلاقل في وجه بني العباس، وهددوا استقرار الخلافة وسيطرة عمالها في تلك البلاد  
 
وتشير المصادر إلى أن العلويين قد انتهزوا نشوب النـزاع بين الأمين والمأمون، ووجدوا في ذلك فرصة سانحة لنشر دعوتهم في البلاد، فخرج محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا على المأمون بالكوفة عام 199هـ / 814م، وصار يدعو إلى آل الرضا من آل محمد، وعاونه في نشر دعوته قائد جنده أبو السرايا ابن منصور الشيباني الذي استولى على الكوفة، وطرد ولاة بني العباس منها  .  وعندما توفي محمد بن إبراهيم ولى أبو السرايا بدله غلامًا من العلويين يدعى محمد بن محمد بن يزيد، ثم أرسل ولاة من العلويين إلى مكة والمدينة وبلاد السراة واليمن، وكان داود بن عيسى بن موسى واليًا على مكة والمدينة من قِبل الخلافة العباسية، حينما وجه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس العلوي، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فدخلوها دون قتال، وقد شجع ذلك بعض العلويين بزعامة إبراهيم بن موسى بن جعفر وجماعة من أهل بيته بمكة على مد الثورة إلى بلاد السراة فشملت الطائف، وامتدت حتى وصلت إلى تربة وبلاد غامد وزهران وجرش (عسير)، فيما وصلت إلى نجران وصنعاء دون مقاومة تذكر، حتى إن إسحاق بن موسى بن عيسى بن عباس والي اليمن من قِبل المأمون عندما سمع بقدوم إبراهيم بن موسى فرّ هاربًا  .  وتذكر المصادر أن إبراهيم بن موسى نكل بكل من اعترض طريقه، وأسرف في القتل حتى لقب بالجزار، واستولى على كثير من الأموال والذخائر خلال الطريق من الحجاز إلى الباحة ونجران ثم صنعاء  
 
وبعد أن تمت السيطرة للعلويين على اليمن، رغب إبراهيم بن موسى بالعودة إلى مكة المكرمة والمدينة لإحكام السيطرة عليهما فخرج من اليمن قاصدًا الحجاز عبر بلاد نجران وجرش والباحة حتى وصل إلى مكة، ولكنه لم يستطع السيطرة عليها، حيث سبقه الخليفة المأمون بإرسال جيش كبير إليها عام 200هـ / 815م بقيادة إسحاق بن هارون الرشيد لحفظ الأمن في الحرمين، وقمع أي بادرة للفتنة والعصيان، وتصدى هذا الجيش لإبراهيم بن موسى وألحق به الهزيمة، وفرق جموعه وعاد إلى اليمن مهزومًا، وضاعت هيبته، بعد هزيمته، ومقتل أبي السرايا في بلاد العراق على يد جيش عباسي آخر لتنتهي أحداث هذه الثورة العلوية التي كادت تفصل بلاد الحجاز والسراة ونجران وصعدة وصنعاء عن بلاد الخلافة العباسية  
 
ومنذ القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي بدأ الضعف يدبُّ في جسم الخلافة العباسية، فقام بعض أهل السروات وتهامة وأعلنوا انفصالهم عن ولاية الحجاز، وقام أمير من الحراميين في حلي بن يعقوب بتهامة  ،  واستقل ابن طرف بمخلاف حكم في منطقة جازان  ،  وقامت ثورة في بلاد عك والأشاعرة في بعض الأجزاء من تهامة  .  وفي أثناء عصر الخليفة العباسي المأمون وبعض من أجزاء مخاليف السروات، ومنها: الباحة، ونجران، وما يليها جنوبًا، وبعض الأجزاء التهامية، وعندئذٍ التفت المأمون إلى تلك المناطق الجنوبية، فبعث محمد بن زياد إلى حرب الأشاعرة، والعكيين في تهامة، وكانوا أكثر الأطراف خطورة تجاه الخلافة في تلك البلاد، وقال لـه: "أسمعني صوتهم"، أي يقاتلهم بقوة لا هوادة فيها، فوصل ابن زياد مزودًا بالمال والرجال وأهل الرأي، وتمكن من إخماد ثورة الأشاعرة وغيرهم، بل التنكيل بهم  .  وتفرغ لسكان السروات وتهامة والمناطق الأخرى التي أعلنت انفصالها عن الولايات التابعة لها، فاستعمل الترغيب والترهيب ودعوة المنشقين إلى الوحدة، وعدم الخروج على الجماعة، والرجوع إلى طاعة الخليفة، وتعهد بإرجاع كل منهم إلى إمارته، فوافقوا وعادوا إلى الطاعة، وقاموا بإرسال الخراج، ولكن هذا الأمر لم يستمر، فبعد موت محمد بن زياد، جاء من بعده أمراء ضعاف لم يستطيعوا إحكام القبضة على البلاد التي كانت في حوزة الدولة الزيادية، فقام كل أمير أو شيخ قبيلة يستقل بناحيته، أما مخاليف تهامة والسراة الممتدة من شمال نجران حتى الطائف فقد بقيت شكليًا أو اسميًا مرتبطة بعامل الحجاز  
 
ب - الأوضاع العامة في المنطقة وما جاورها:
 
لا نجد ما يوضح لنا تاريخ بلاد غامد وزهران وما حولها بعد القرنين: الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين، وإنما أشارت بعض المصادر إلى أحداث سياسية حدثت في بلاد اليمن أو بلاد تهامة أو السراة، الواقعة إلى الجنوب من مدينتي الطائف ومكة المكرمة التي اكتسبت صبغة العمومية، وأحيانًا نجد فيها شذرات تشير إلى تاريخ المدن الكبرى، مثل: زبيد، وصعدة، وصنعاء، وهي أسماء لا تعطينا ما نريده عن تاريخ الديار الغامدية والزهرانية في العصر الإسلامي الوسيط، ولا تبين لنا مدى مشاركة أهلها في المضمار الحضاري للحواضر السابقة الذكر. ولعل في كتب الجغرافيا والرحلات ما يلقي بصيصًا من الضوء على بلاد غامد وزهران خلال الفترة محل البحث، حيث جرت العادة أن تذكر الكتب محل الإشارة السروات وتهامة الواقعة بين نجران وجازان جنوبًا والطائف ومكة شمالاً، وفيها بلاد غامد وزهران، وبخاصة عندما تذكر الطرق التجارية المارة بها والواصلة بين حواضر اليمن والحجاز.
 
فابن الفقيه يقول: ".... سراة بين تهامة ونجد أدناها بالطائف، وأقصاها قرب صنعاء، والسروات أرض عالية، وجبال مشرفة على البحر من الغرب وعلى نجد من الشرق، والطائف من سراة بني ثقيف، وهو أدنى السروات إلى مكة، ومعدن البرم هي السراة الثانية، بلاد عدوان في برية العرب، وبها معدن البلور... "   ويذكر ياقوت معلومات جيدة، ومكملة لما ذكره ابن الفقيه فيقول "... والسراة الثالثة أرض عالية وجبال مشرفة على البحر الأحمر من الغرب وعلى نجد من الشرق، وسراة بني شبابة... "  ،  ثم يشير إلى بعض الأجزاء الواقعة إلى الغرب من السروات فيورد الآتي "... وبأسفل السروات أودية تصب إلى البحر الأحمر منها: الليث، وقنونا، والأحسبة، وضنكان، وعشم، وبيش، ومركوب، وعليب"  .  ويتفق كل من القزويني وياقوت الحموي على أن أهل السراة القاطنين من الطائف شمالاً حتى صعدة جنوبـًا مـن أفصـح الناس لغة، وأكثر مَنْ اتسمت ألسنتهم ببلاغة القول، كهذيل القاطنة بجوار الطائف، وبجيلة وثقيف وأزد السراة (غامد وزهران) وما جاورها  .  وزيادة في القول يضيف المقدسي من أبناء القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، معلومات أكثر تفصيلاً من سابقيه، فيذكر أسماء بعض المواقع بين صعدة ونجران جنوبًا والطائف شمالاً، حيث يقول:
 
"القبائل تأخذ من السروات نحو أهل الشام فتقع في أرض الأغرّ بن هيثم، ثم تخرج إلى ديار يعلى بن أبي يعلى، ثم إلى سردد، ثم إلى ديار عنـز بن وائل في بني غزية، ثم تقع في ديار جرش، والعتل وجلاجل، ثم إلى ديار الشقرة وبها خثعم، ثم في ديار الحارث (غامد وزهران) ثم في شكر وعامر، ثم في بجيلـة، ثم في فهم، ثم في بني عاصم، ثم في عدوان، ثم في بني سلول، ثم في مطار.... "  .  ويستدل ممّا ذكره المقدسي أنه ربط بين ذكر الأمكنة الواقعة بين صعدة والطائف والقبائل القاطنة فيها.
 
ويشير ابن المجاور (رحالة ومؤرخ من القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي) إلى معلومات تختص بالنواحي السياسية والحضارية لأهل تهامة والسراة، لا نجدها عند غيره، فيقول: "فأمّا السرو فإنها قبائل وفخوذ من العرب ليس يحكم عليهم سلطان، بل مشايخ منهم، وفيهم بطون متفرقون.... "  
 
وفي مكان آخر يتحدث عن المناطق الواقعة بين صعدة والطائف، وبخاصة الأجزاء السروية الممتدة من نجران إلى غامد ودوس بن زهران فيذكر أن تلك المناطق جميعها قرى متقاربة بعضها من بعض في الكبر والصغر، ثم إن كل قرية مقيمة بأهلها، وكل فخذ أو بطن من سكان البادية في قرية، ومن جورهم لا يسكن قراهم ولا ينـزلها أحد سواهم، ثم يواصل حديثه عن تلك الأجزاء وأهلها فيقول:
 
"وقد بني في كل قرية قصر من حجر وجص، وكل واحد من أهل القرية له مخزن في القصر يخزن فيه جميع ما يكون له من حوزه وملكه، ولا يأخذ منه إلا قوت يوم بيوم، ويكون أهل القرية محيطين بالقصر من أربع ترابيعه، ويحكم على كل قرية شيخ من مشايخها كبير القدر والسن ذو عقل وفطنة، فإذا حكم بأمر لم يشاركه ولا يخالفه أحد فيما يشير عليهم ويحكم فيهم، وجميع من في هذه الأعمال لم يحكم عليهم سلطان، ولا يؤدون خراجًا، ولا يسلمون قطعة وكل واحد منهم مع هوى نفسه، وبهذا لا يزال القتال دأبهم ويتغلب بعضهم على مال بعض، ويضرب قرابة زيد على أموال عمرو، وهم طول الدهر على هذا الفن، وجميع زرعهم الحنطة والشعير وشجرهم الكروم والرمان واللوز، ويوجد عندهم من جميع الفواكه والخيرات، وأكلهم السمن والعسل، وهم في دعة الله وأمانه، وهم فخوذ يرجعون إلى قحطان وغيرهم من الأنساب.... "  
 
وهكذا أورد لنا ابن المجاور نصًا يؤكد ما تحويه منطقة سروات غامد وزهران وجرش (عسير) وما جاورها من حصون ومخازن لغرض الحرب وتخزين المواد الغذائية عند الحاجة، وما نشاهده الآن في هذه البلاد ما هو إلا رموز تدل على صحة الروايات السابقة. وقد تبين لنا في مقابلاتنا مع كبار السن في عدد من الأمكنة من بلاد غامد وزهران التهامية والسروية حول الحصون  ومهماتها أن لها مهمّتين: مهمّة حربية، ومهمّة اقتصادية إذ تعد هذه الحصون مستودعات لخزن الحبوب. كما تبين لنا من الأقوال والمشاهدة أن البنية الاجتماعية في تلك المناطق تعتمد على القبيلة التي تعد الوحدة الأساسية في المجتمع، ويعد شيخ القبيلة هو السيد الحاكم لا ينازعه أحد في سلطان، وهو الذي يعلن الحرب، وهو الذي يطفئها مع المشايخ الآخرين، ولهذا ينعم بقية الأفراد في المجتمع القبلي بالأمـن بمقدار ما يمنحه الشيخ لهم، ويصحب المعارك عادة السلب والنهب  .  ويذكر ابن المجاور عن السرويين بعض العادات في الجنائز فقـال: "وأهل السراة يرثون البنت عند الموت... وللقوم عصبية عظيمة، فإذا مات أحدهم لا يحمل جنازته إلا الشبان، ومع ذلك يقولون: سلّم سلمك الله هذا ما وعد الله نعم القاضي! وهم يتداولون بالنعش إلى المقبرة، وهم الذين يحفرون القبر.... "  .  ومن أطعمتهم اللحم، والسمن، والخبز، ومن أكثر الأسماء شيوعًا بينهم سالم، وغانم، وقاسم، ومفرج، ومفرح، وراشد، وناجي، وجابر، ولاحق، وصابر، وسعيد، ومساعد، وظافر، وفاتك، ومالك وغيرها أسماء كثيرة  .  ومن اهتمامهم بالضيف، أنه إذا أطعم لصّ أو قاتل طعام صاحب البيت، فإنه لا يقتل إلا بعد خروجه من البيت، وبعد مدة من الزمن حتى ينتهي مفعول الطعام الذي أكله  .  ويشير ابن المجاور أيضًا إلى بعض عادات السرويين الغامديين والدوسيين ومن جاورهم في الكرم، خصوصًا الذين تغلب عليهم البداوة، ومنها أنهم يؤخرون الغداء أو العشاء من أجل ضيف يقدم عليهم، فإن حصل ذلك ينحر لـه على قدر مكانته، فقد يُنحر لـه جمل، وإن كان عابر سبيل تُذبح له شاة، ويقسم صاحب الدار الرغيف إلى ثلاثة أو أربعة أقسام يضعها أمام الضيف تكريمًا لـه، ثم يقدم لـه اللحم المطبوخ بعد أن يثرد عليه الخبز، ويهرق عليه السمـن أو المرق، فيشرب بادئ الأمر المرق، ثم يوزع اللحم على الثريد، وقد يطلق أحيانًا، على هذا الصنف من الطعام اسم العربية  ،  ومن عادات السرويين أيضًا أن يكون في مخازنهم صنفان من الحبوب، ذرة وقمح، يقدم خبز القمح للضيف، وخبز الذرة للأسرة، وينم هذا السلوك عن إيثار الضيف وتقديمه على الأهل. وما قصة الرجل الذي ينحر بعيره لضيوفه، أو يقدم لهم أفضل ما لديه وهو في حالة الفقر، إلا دليل واضح على أعلى مراتب الإيثار.
 
وإشارة ابن المجاور إلى أن بلاد تهامة والسراة بما فيها أرض غامد وزهران كانت تحكم بشيوخ القبائل المستقلين بسلطتهم في ديارهم قول صحيح عمومًا، ومن حيث المركز الاجتماعي الذي عرف لشيوخ القبائل العربية على مرِّ التاريخ قبل الإسلام وبعده  ،  ولكن الذي عرف في ظل الدولة الإسلامية، وبخاصة بعد انتقال الخلافة من الحجاز إلى بلاد الشام ثم العراق في العهدين الأموي والعباسي أن شبه الجزيرة العربية تحولت إلى عدد من الولايات التابعة لمركز الخلافة، ومن أكبر ولايات شبه الجزيرة العربية منطقتا الحجاز واليمن، وبخاصة الأجزاء التي تشمل الحواضر الحجازية واليمنية الكبرى، فيما بقيت منطقة الباحة الواقعة بين المنطقتين السابقتين تابعة في أغلب الأحيان لوالي الحجاز الذي يتخذ من مكة المكرمة أو المدينة المنورة مقرًا لـه  .  ومن الواضح في بعض كتب التراث الإسلامي، خصوصًا كتب الجغرافيا والرحلات، أن منطقة تهامة والسراة كانت مقسمة إلى مناطق أو مراكز حضارية، ويطلق على كل قسم إما مخلاف أو عمل (جمع أعمال)، أو كورة (جمـع كور). فاليعقوبي تحت عنوان سماه (مكة وأعمالها) ذكر أجزاء عدة تابعة من الناحية الإدارية لوالي مكة المكرمة، ومن تلك الأعمال الواقعة إلى الجنوب من مكة والطائف ذكر ما يلي في الأجزاء السروية: "تبالة وأهلها خثعم، ونجران لبني الحارث بن كعب، فقد كانت منازلهم في الجاهلية، والسراة (ومنهم غامد وزهران) وأهلها من الأزد"  .  وفي الأجزاء التهامية أشار إلى عشم،  وذكر أنها معدن الذهب، وبيش، والسرين، والأحسبة، وعثر، وكل هذه المناطق تقع على ساحل البحر الأحمر بين مكة المكرمة شمالاً وجازان جنوبًا  .  وفي موضع آخر ذكر أربعة وثمانين مخلافًا في جنوب الجزيرة العربية، منها بعض الأجزاء التي تقع ضمن مساحة دراستنا، مثل: تبالة في بلاد السراة، وقنونا، ويبه، وضنكان، في الأجزاء التهامية  .  ويورد ابن خرداذبة بعض الإيضاحات عن مخاليف مكة المكرمة، فيذكر أن الطائف، وعكاظ، وبيشة، وتبالة، وجرش، والسراة  ،  ونجران في الأجزاء السروية، وضنكان، وعشم، وبيش في الأجزاء التهامية، وجميعها تابعة لإمارة مكة المكرمة أو الحجاز بشكل عام  
 
ويمكن القول: إن عموم بلاد تهامة والسراة كانت في الغالب تابعة لولاية مكة المكرمة، بل وأثبتت بعض الروايات التاريخيـة أنَّ والي الحجاز كان في بعض الأحيان يمنح تعيينًا من الخليفة يتضمن ولايته على الحجاز واليمن معـًا، وأحيانًا أخرى تضاف لـه ولاية بلاد اليمامة إلى جانب المنطقتين السابقتين  .  أما المنطقة التي تقع بين الحجاز واليمن، والتي يطلق عليها اسم (تهامة والسراة) ومنطقة الباحة (غامد وزهران) جزء منها، فمن دون شك أنها كانت تتبع إداريًا لوالي مكة المكرمة من حيث دفع الزكاة إلى بيت مال المسلمين، ومن ثَمَّ يكون الولاء للخلافة الإسلامية، لكن الذي لا شك فيه أن ما أشار إليه ابن المجاور من حيث اضطراب الأمن وانتشار الفوضى بين أهل هذه البلاد كان أمرًا واقعًا، بل إن شيوخ القبائل كانوا إلى عهد قريب، أقوى عنصر في المجتمع، وإليهم تؤول الأمور الخاصة بأبناء مجتمعاتهم، والخاصة بالعلاقات الخارجية بينهم وبين غيرهم من خارج حدود منطقتهم.
 
ولم يكن سكان منطقة الباحة أو عموم التهاميين والسرويين منغلقين على أنفسهم، كان بعضهم يسافر إلى حواضر شبه الجزيرة العربية، وبخاصة مدن الحجاز الكبرى، فيعملون بالتجارة، ويؤدون الحج والعمرة، بل ويمتلك بعضهم الدور والعقار  .  وقد حفظ لنا الجغرافيون والرحالة المسلمون الأوائل بعض المعلومات القيّمة التي تؤكد ذهاب أعداد كبيرة من السرويين، مثل: (أهل غامد وزهران) إلى مكة المكرمة من أجل أداء واجباتهم الدينية، والمتاجرة في بعض سلعهم التي يجلبونها معهم من بلادهم إلى أسواق مكة في أثناء مواسم العمرة في رمضان وفي موسم الحج، وأول من شاهدهم ودوَّن لنا ملاحظاته عنهم في أسواق مكة المكرمة، الرحالة الفارسي ناصر خسرو خلال القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، حيث أشار إلى كثرتهم في مكة في أول رجب من كل سنة، وفي عيد الفطر، وفي موسم الحج  .  وفي القرن السادس الهجري وبداية القرن السابع زار مكة المكرمة الرحالة الأندلسي، محمد بن جبير، فوصف أحوال السرويين الذين يأتون من بلاد الباحة وما حولها إلى مكة المكرمة ومعهم قوافل الأرزاق، والفواكه، مبديًا سروره وإعجابه بذلك، ووصف أولئك القوم البسطاء - حسب ما شاهدهم - بالشجاعة، والنجدة، والمروءة  .  ويؤكد الرحالة ابن المجاور ما ذكره كل من ناصر خسـرو وابن جبير، فيشـير إلى أن سرويي منطقة الباحة وما جاورها من السروات إذا دخلـوا مكة المكرمة ملؤوها من الحنطة، والشعير، والسويق، والعسل، والذرة، والدخن، والزبيب، واللوز، وما شابه ذلك، ولذلك يقول أهل مكة: "حاج العراق أبونا نكسب منه الذهب، والسرو أُمُّنا نكسب منه القوت"  .  وعندما زار ابن بطوطة مكة المكرمة في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر الميلادي، شاهد السرو من أهل غامد وزهران وغيرهم من بلاد تهامة والسراة في أسواقها يبيعون ويشترون، وشاهدهم يطوفون حول الكعبة يؤدون الحج أو العمرة، وقد أورد في رحلته نبذًا مما شاهده في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية، فقال:
 
".... ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب واللوز فترخص الأسعار بمكة، ويرغد عيش أهلها وتعمهم المرافق. ولولا أهل هذه البلاد (ويقصد أهل السراة) لكان أهل مكة في شظف من العيش. ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم، ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم، ووقع الموت في مواشيهم، ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم، وظهرت فيهم البركة ونمت أموالهم. فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم، وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين. وبلاد السرو مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن لهم صدق نية وحسن اعتقاد. وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية تتصدع لرقتها القلوب، وتدمع العيون الجامدة فترى الناس حولها باسطي أيديهم، مؤمنّين على أدعيتهم، ولا يمكن غيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر لتزاحمهم على ذلك. وهم شجعان أنجاد ولباسهم الجلود، وإذا وردوا مكة هابت أعراب الطرق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم، ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم" 
 
وليس ابن بطوطة هو الذي انفرد بهذه التفصيلات، بل ذكرها بالإضافة إليه بعض المؤرخين والجغرافيين والرحالة فأثنوا على خصوبة تربة السراة وكثرة خيراتها، وعلى ما تحلَّى به أهلها من الشجاعة والسلوك الجيد والقيم الطيبة  
وسكان بلاد غامد وزهران كانوا يتأثرون ويؤثرون فيما حولهم من بلاد تهامة والسراة، أو في بلاد الحجاز التي كانوا على صلات سياسية وحضارية بها منذ العهد الجاهلي وخلال العصور الإسلامية المختلفة. وربما كان موقع بلادهم على الطريق التي تربط بين اليمن والحجاز من الأسباب الرئيسة التي جعلت سكان هذه البلاد يكونون على علم بما يدور من أحداث في الحواضر الكبرى من شبه الجزيرة العربية، مثل: مكة المكرمة والمدينة المنورة وصنعاء وغيرها  
 
شارك المقالة:
43 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook