العهدان الأموي والعباسي في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 العهدان الأموي والعباسي في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية

 العهدان الأموي والعباسي في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية.

 
لم يتبدل وضع منطقة عسير السياسي والإداري خلال عهد الخلافة الأموية في القرنين الأول والثاني للهجرة، ولا سيما بعد القضاء على حروب الردة، ثم دخولها تحت مظلة الخلافة الإسلامية في المدينة، ثم في دمشق وبغداد فكان الخليفة هو الذي يولي الولاة والعمال على الولايات، ولم تكن منطقة عسير ولاية مستقلة، وإنما كانت تابعة (إداريًا) لوالي الحجاز، أو مكة المكرمة، وهذا الوالي هو الذي يعين من قبله من يتولى أحوال البلاد في كلٍّ من عسير وما جاورها من البلدان  
 
ومن يوازن بين أوضاع عسير الإدارية والسياسية في عهد الخلفاء الراشدين 11 - 41هـ / 633 - 661م، وبين أوضاعها في عهدي خلفاء بني أمية وبني العباس 41 - 656هـ / 661 - 1258م، فإنه يجد أن أوضاعها في الفترة الأولى أفضل وأقوى؛ لقربها من عاصمة الخلافة الإسلامية في المدينة، وكذلك قربها من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -  .  أما أحوالها في عصور بني أمية وبني العباس فقد أصبحت جزءًا من ولاية الحجاز التي صارت مليئة بالفتن والثورات ضد الخلفاء الأمويين والعباسيين، بل أصبحت عسير وعموم بلاد جنوب الجزيرة العربية ميدانًا للثورات السياسية والمذهبية، كما أنها صارت بيئة مناسبة للنـزاعات والصراعات القبلية المتنوعة  
 
ونجد الحسن الهمداني الذي عاش أوائل القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع / التاسع والعاشر الميلاديين يحفظ لنا بعض المعلومات السياسية والحضارية عن أجزاء من منطقة عسير، وهي معلومات يندر أن نجدها في مصادر أخرى. فيذكر بعض النواحي في مرتفعات عسير، مشيرًا إلى أسماء الأفخاذ والبطون التي تسكنها فيقول:
 
"... الرفيد بلد حصون وزروع لعنـز... وسعيا، ويسكنها البشريون من الأزد، وقد يقال: إنهم من (بلحارث) ثم يصلاها عنقة، ويسكنها بنو عبدالله بن عامر من عنـز، ثم تندحة، وهي: العين من أودية جرش، وفيها أعناب وآبار، وساكنه بنو أسامة من الأزد، ورأيت بعضهم ينجذب إلى شهران العريضة، والعيباء بلد مزارع لبني أبي عاصم من عنـز، ويليها وادي طلعان كثير المزارع لبني أسد من عنـز والقرعاء لشيبة من عنـز"  
 
وأضاف الهمداني إلى ذلك قوله: "فالرفيد يسكنه حازمة من عنـز، والعوص يسكنه بنو حديد من عنـز، والراكس يسكنه بنو غنم من عنـز، والعين يسكنها بنو العراص من عنـز، وتمنية يسكنها بنو مالك من عنـز، والمسقي لشيبة من عنـز"  ،  وهذه المواطن التي أشار إليها هذا الجغرافي الفَذُّ تقع اليوم ضمن حاضرة أبها، بل إنها تقع إلى الجهات الجنوبية والشرقية من المدينة نفسها 
 
كما يذكر أسماء مواطن وبطون كثيرة في الجزء الشمالي من منطقة عسير، وبخاصة سروات الحجر بن الهنؤ الأزدي وحاضرتها مدينة النماص، فيقول:
 
"بطون الأزد: مما يتلو عنـز إلى مكة منحدرا الحجر، باطنها في التهمة، ألمع ويرفي ابنا عثمان في أعالي حلي، وعشم  ،  وذاك قفر الحجر، وتنومة والأشجان، ونحيان، ثم الجهوة: قرى بني ربيعة من الحجر، وعاسرة العرق، وأيد، وحضر، ووراءه قرى لبني ربيعة من أقصى الحجر أيضًا، وحلباء قرية لبني مالك بن شهر قبيلة الحجر على هذا يمانية مصال لعنـز، ومن شآميها بلد الوس، والفزع من خثعم، وشرقها ما جاور بيشة من بلد خثعم، وأكلب، وغوريها بلد بارق" 
 
وتحظى بلاد الحجر (بللحمر، وبللسمر، وبنو شهر، وبنو عمرو) من الهمداني بعناية جيدة، فيذكر أسماء بعض القرى والمراكز الحضارية، مثل: عبل، وصبح، وباحان، وبني ثعلبة، وبني نازلة في سروات بللحمر. كما يواصل ذكر مراكز أخرى في سراة وتهامة بللسمر وبني شهر وبني عمرو فيذكر تنومة، وسدوان، والجهوة، والأشجان، ونحيان، وساقين، وخاط، والخضراء، وحلباء، والعرق، وأيد (صدريد)  ،  ولا يقتصر على ذكر أسماء هذه المواطن، ولكنه يشير إلى أسماء البطون والأفخاذ التي تقطنها، بل يذكر أحيانًا مساحاتها وعدد المنازل أو القرى التي توجد بها، وما يتوافر في بعضها من زروع وآبار ومصادر اقتصادية أخرى  .  ومن رحلات الهمداني بين اليمن والحجاز، نجده يذكر بعض الولايات المحلية المحدودة في منطقة عسير فيذكر مدينة جرش وحكامها فيقول: "جرش هي كورة نجد العليا، وهي من ديار عنـز ويسكنها ويترأس فيها العواسج من أشراف حِمْير"  ،  وقد دلّنا ذلك على أن العواسج الحميريين هم حكام جرش، ولكنه حينما سمى بلدة جرش كورة، فإنه بعد ذلك سمى الجهوة في سراة الحجر مدينة، وجعلها أكبر من جرش، إذ قال: "الجهوة مدينة السراة أكبر من جرش"  ،  وذكر حاكمها يومئذ بقوله: "وصاحبها الجابر بن الضحاك الربعي من نصر بن ربيعة بن الحجر من بني أثلة رؤوس بني نصر بن ربيعة بن شهر بن الحجر"  ،  وفي سراة الحجر أيضًا ذكر الهمداني موضعي: الأشجان، ونحيان، ولكنه سمى الأول قرية، والثاني واديًا، إذ قال: "ثم الأشجان قرية كبيرة ليس في السراة قرية أكبر منها بعد الجهوة"  ،  وقال:"ثم نحيان وادي مستقبل القبلة"  ،  وذكر أن حاكميهما عندئذ هما: "علي بن الحصين العبدي من بني عبد بن عامر، وابن عمه الحصين بن دحيم"  ،  وأضاف إلى ذلك قوله:" ووراء الجهوة زنامة العرق وهي لجابر بن الضحاك"  ،  وقال بعد ذلك: " ثم الباحة والخضراء: قريتان لمالك بن شهر"  ،  وهذه الأسماء تمثل ولايات القرنين الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين، وبخاصة: جرش، والجهوة، والأشجان، ونحيان، ويبدو أن هذه الإمارات الصغيرة لم تستمر، إذ يرد بعد ذلك القول بخراب جرش في أواخر القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي نتيجة للحروب التي وقعت بين عنـز بن وائل وبين أهل مدينة جرش من العواسج  ،  وقيل: سنة 653هـ / 1255م على يد قوات صقر بن حسان اليزيدي  ،  ولربما كان التاريخ الثاني أقرب إلى الصواب؛ لأننا نجد ذكرًا لمدينة جرش ومخلافها في مصادر القرنين السادس والسابع الهجريين  
 
أما الجهوة في سراة الحجر فقد قيل بخرابها سنة 819هـ / 1416م، "عندما طرقت المنطقة جيوش الغُز المماليك"  ،  وقامت على أنقاضها مدينة النماص، "واتخذت مركزًا للمنطقة بعد تدمير مدينة الجهوة التي تقع إلى الشرق منها"  ،  ولعل مدن جرش والجهوة والأشجان وغيرها في منطقة عسير، اختفت أو بدأت فيها علامات التدهور والانهيار، إثر الوباء الشديد الذي وقع في بلاد السراة سنة 597هـ / 1201م، ويشير إليه ابن كثير فيقول: "وقع فيها وباء شديد ببلاد عنـز بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت فيها ثماني عشرة لم يبقَ فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم ولا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه، وغضبه وعقابه... "  
 
ونجد بعض مصادر العصور الإسلامية الوسيطة تشير إلى ملامح الأحوال السياسية المحلية في سروات عسير وما جاورها شمالاً وجنوبًا من السروات، وبخاصة مشيخات القبيلة في هذه البلاد، وما هي عليه من الاستقلال والفوضى؛ فهذا ابن المجاور في أوائل القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي يصف أحوال هذه البلاد فيقول:
 
"يحكم على كل قرية شيخ من مشايخها، كبير القدر، والسن، ذو عقل وفطنة، فإذا حكم بأمر لم يشاركه ولا يخالفه أحد فيما يشيره عليهم ويحكمه فيهم، وجميع من في هذه الأعمال لم يحكم عليهم سلطان، ولا يؤدون خراجًا، ولا يسلمون قطعة، إلا كل واحد منهم مع هوى نفسه، بهذا لا يزال القتال دأبهم، ويتغلب بعضهم على مال بعض، ويضرب قرابة زيد على أموال عمرو، وهم طوال الدهر على هذا الفن... وهم في دعة الله وأمانه، وهم فخوذ يرجعون إلى قحطان وغيرهم من الأنساب"  
 
وقال أيضًا: "فأما السرو فإنهم قبائل وفخوذ من العرب ليس يحكم عليهم سلطان، بل مشايخ منهم وفيهم، وهم بطون متفرقون"  
 
ومن يستقرئ تاريخ بلاد عسير، يرى صحة أقوال ابن المجاور، فأعيان القبائل وشيوخها كانوا هم القوة الرئيسة الحاكمة التي تدير شؤون أفراد قبائلها من دون الرجوع إلى حكومة رسمية تتولى أمور البلاد عنهم. وقد بقي هذا الوضع سائدًا حتى عهد الدولة السعودية في العصر الحديث إذ حلت المؤسسات الحكومية محل مشيخات القبائل، وصار عموم الناس يحتكمون إلى المؤسسات الإدارية الرسمية  
 
ويستمر ابن المجاور في وصف طبيعة سروات عسير حتى الطائف فيقول:
 
"جميع هذه الأعمال قرى متقاربة بعضها من بعض في الكبر والصغر، وكل قرية منها مقيمة بأهلها، كل فخذ من فخوذ العرب، وبطن من بطون البدو في قرية، ومن جورهم لا يشاركهم في نـزلها وسكنها أحد سواهم، وقد بني في كل قرية قصر من حجر وجص، وكل من هؤلاء ساكن في القرية له مخزن في القصر، يخزن في المخزن جميع ما يكون له من حوزه وملكه، وما يؤخذ منه إلا قوت يوم بيوم، ويكون أهل القرية محتاطين بالقصر من أربع ترابيعه"  
 
وهذه البلاد وما جاورها من السروات يراها المشاهد حتى اليوم مزدحمة بالقرى المتقاربة والحصون المتنوعة في أحجامها ومساحاتها وأهداف عمرانها  ،  وكما قال ابن المجاور: "فيها من الأمم والبلاد والمدن والقرى ما لا يعد ولا يحصى، ولا تحويه أقلام الدواوين... "  .  ويصف ابن جبير عام 579هـ / 1183م أهالي سروات عسير حتى الطائف فيقول: "لا ملبس لهم سوى أزر أو جلود يستترون بها، وهم مع ذلك أهل بأس ونجدة، لهم القسي العربية الكبار كأنها قسي القطانين لا تفارقهم في أسفارهم"  .  وأشار إليهم في هذا الجانب ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي فقال: "هم شجعان أنجاد لباسهم الجلود، وإذا وردوا مكة هابت أعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم"  ،  ثم قال: "ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم"  ؛  لما يمتازون به من الصدق والأمانة وحسن الصحبة. كما وصف الهمداني أهل سروات قحطان وشهران وعسير (جنب، وعنـز، والحجر) حتى الطائف، بالفصاحة، فقال: "ثم الفصاحة من العرض في وادعة فجنب، فيام فزبيد... فأرض سنحان، فأرض نهد، وبني أسامة، فعنـز، فخثعم، فهلال، فعامر بن ربيعة، فسراة الحجر... "   ويشير هذا الجغرافي إلى الفصاحة عند بعض بطون الجزيرة العربية وقبائلها، ويذكر مستوى كل عشيرة أو قبيلة، لكنه عندما يأتي إلى الحديث عن سروات عسير، يذكر أن الفصاحة فيهم  ،  ثم يشير إلى "أن أسافل سروات هذه القبائل... دون أعاليها في الفصاحة"  ،  ولقد أصاب من قال: "أفصح الناس أهل السروات"  ،  وربما ساعد أهل سروات عسير وما جاورها على ثباتهم في لغتهم أن جبالهم كانت "أحصن الجبال للدفاع، ورجالها من صفوة العرب"  ،  حيث احتفظ ساكنوها بفصاحتهم لصعوبة أرضهم وقلة الواصلين إليها  .  ولقد امتدح ابن جبير لغتهم حينما شاهد رجالاً منهم في موسم الحج، فقال: "والقوم عرب صرحاء فصحاء... لم تغزهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السيرة المدنية"  ،  وقال: "أما فصاحتهم فبديعة جدًا"  
 
ونجد بعض ملامح حياة أهل عسير في شيء من مظاهر حياتهم الحضرية، إذ هم أصحاب رعي، وزراعة، وصناعات يدوية، وتجارة. فقد عملوا في مهنة الرعي واشتغلوا بها، فالهمداني يذكر بعض مواطن الرعي فيقول: "والصحن مراعٍ لبني شهر"  ،  وأشار إلى سراة الحجر فقال: "في غربيها البقر وأهل الصيد، وشرقيها من نجد أهل الغنم والإبل"  ،  ولقد اشتهر مخلاف جرش بكثرة الإبل والأبقار والأغنام  
 
أما الزراعة فتكاد تكون من المهن الرئيسة عند أهل عسير، فالهمداني يشير إلى الزراعة بقوله: "... ثم تندحة وهي العين من أودية جرش، وفيها أعناب وآبار"  ،  ومن أهم ثمار مخلاف جرش (عسير حاليًا) الزبيب والتمر، والدليل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أهل جرش عن خلط الزبيب بالتمر  ،  ويعد العنب الجرشي من أجود أصناف العنب، وقد أثنى على جودته المؤلفون الأوائل، أمثال الأصمعي فقال:"فأما الجرشي فأبيض صغار الحب، أول العنب إدراكًا"  ،  وفي "لسان العرب" إشارة إلى العنب الجرشي أيضًا فيقول: "ضرب من العنب أبيض إلى الخضرة رقيق صغير الحب، وهو أسرع العنب إدراكًا"  ،  ويؤكد البكري والإدريسي   أيضًا على جودة عنب جرش.
 
ويشير الهمداني إلى الزراعة بسروات الحجر في عسير فيقول: "وبسراة الحجر: البر، والشعير، والبلسن، والعتر، واللوبياء، واللوز، والتفاح، والخوخ، والكمثرى، والإجاص والعسل"  ،  وقال أيضًا: "وبخاط نخلات"  ،  وفي نحيان "التفاح، واللوز، والثمار"  .  كما يشير ابن بطوطة إلى بلاد السراة الممتدة من الطائف حتى أبها في عسير فيقول:إنها "مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات"  ،  كما يؤكد الإدريسي الحقيقة القائلة بكثرة النخيل في بلاد جرش وما حولها  
 
أما المهن والحرف الصناعية في منطقة عسير (مخلاف جرش قديمًا) فهي متعددة، ونجد بعض المصادر التاريخية المبكرة تذكر بعضها، فكتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل جرش في عدم خلط الزبيب مع التمر يدل على أنهم كانوا يجمعون هذين النوعين ثم يعصرونهما فيخرج لهم شراب النبيذ؛ ولهذا نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تلك المهنة  .  كما ازدهرت دباغة الجلود وخرازتها في مخلاف جرش  ،  ومما ساعد في نشاط هذه المهنة توافر المواد الخام المتمثلة في جلود المواشي، ومواد التصنيع، بالإضافة إلى وفرة أشجار القرظ الذي يعد من أفضل المواد المستخدمة في الدباغة  .  وقد اشتهر الأديم الجرشي حتى صار يصدر إلى خارج الجزيرة العربية  
 
ومن الصناعات الحربية التي اشتهر بها مخلاف جرش (عسير) صناعة الدبابات والمجانيق والعرادات، والدبابات التي كانوا يصنعونها كانت آلة من الخشب مغطاة بجلود البقر يدخل فيها الرجل، ويقربونها من الحصن المحاصر لينقبوه، وهي تقيهم مما يرمى عليهم من حجارة  .  أما المجانيق والعرادات فهي من آلات الحصار التي ترمى بوساطتها الحجارة الثقيلة على الأسوار  
 
ويذكر أن الأغنياء من أهل مكة المكرمة والطائف، وغيرهم من حواضر شبه الجزيرة العربية، كانوا يذهبون إلى بلاد جرش ليتعلموا بعض الصناعات الحربية، بقصد حماية أنفسهم وأموالهم، وممن ذهب إلى هناك - أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عروة بن مسعود الثقفي وغيلان بن سلمة؛ سارا إلى جرش وأقاما فيها يتعلمان صناعة العرادات والدبابات أثناء محاصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدينة الطائف  .  هذه الرواية وغيرها من الروايات تؤكد ما كانت تحتله جرش (عسير) من مكانة مهنية، خصوصًا في المهن الحربية  
 
أما الحياة التجارية في عسير فلم تكن أقل من غيرها من الأعمال الأخرى، ولولا نشاطها التجاري لما راجت فيها الصناعات ذات الإنتاج الحيواني، والمنتوجات الزراعية التي كانت تفيض عن الحاجة وتصدر إلى أسواق الحواضر الكبرى في اليمن والحجاز، ونجد مؤلفي العصور الإسلامية الوسيطة يفصحون عن صادرات سروات عسير وما جاورها إلى أسواق الحجاز، فابن جبير يشير إلى تصديرهم كثيرًا من الأطعمة والحبوب إلى أسواق مكة، ثم مقايضتها مع سلع أخرى يحتاجونها في أوطانهم  .  كما يذكر ابن بطوطة رخص الأسعار في أسواق الحجاز عندما يأتي إليها أهالي سروات الطائف حتى عسير بسلعهم المتعددة ممثلة في: الحبوب، والسمن، والعسل، والزبيب، والزيت، واللوز  ،  كما يصف أحوال أهل مكة الاقتصادية بسبب وفادة هؤلاء السرويين إليهم فيقول: "فيرغد عيش أهلها، وتعمهم المرافق"  ،  وأضاف ابن المجاور إلى ذلك قوله: "فإذا دخلوا مكة - يقصد أهل السراة من الطائف إلى أبها - ملؤوها خبزًا من: الحنطة، والشعير، والسويق، والسمن، والعسل، والذرة، والدخن، واللوز، والزبيب، وما شابه ذلك... "  
 
ومما زاد في النشاط التجاري لمخلاف جرش (عسير) قربه من الطريق التجاري الذي كان يأتي من صنعاء مارًا بشرق مخلاف جرش حتى بيشة ثم الطائف ثم مكة المكرمة  .  ومن المؤكد أن القوافل التجارية كانت تعرج علـى مخلاف جرش طلبًا للراحـة والتزود مـن سلعها، مثل: الحبـوب والعنب، وبعض الصناعات الجلدية، وبعض المواشي، مثل: الإبل وغيرها، وهذه السلع توجد جميعها في أسواق جرش.
 
ولم تكن الطرق التي تخرج من اليمن إلى بيشة حتى الطائف ومكة هي الوحيدة التي تجتاز منطقة عسير، وإنما كان هناك طرق أخرى، إحداها تأتي على قمم السروات من بلاد قحطان حتى أبها ثم تواصل شمالاً عبر سروات الحجر وغامد وزهران حتى الطائف. وقد تتفرع هذه الطرق من شمال أبها إلى فرعين، أحدهما يواصل سيره عبر السروات إلى الطائف، والآخر ينحدر غربًا من سروات أبها إلى محائل ثم يواصل سيره حتى يلتقي بالطريق الساحلي الذي يربط جازان بمكة المكرمة. وتوجد هناك طرق صغيرة تربط بين الأجزاء التهامية والسروية تسمى"عقبات" ومفردها"عقبة". وهناك طرق تنحدر من أعالي السروات شرقًا حتى تصل إلى تثليث وبيشة ورنية والخرمة وتربة عند سفوح جبال السروات من الشرق. كما أن هذه الطرق جميعها لا تخلو من المحطات التجارية التي تقام فيها الأسواق الأسبوعية وأحيانًا الموسمية. كما توجد عدة أسواق في قرى منطقة عسير السروية والتهامية وهجرها وحواضرها  
 
لقد كان إقليم عسير (مخلاف جرش قديمًا) يمثل حلقة وصل رئيسة بين اليمن والحجاز؛ لما يتوافر به من مؤهلات بشرية واقتصادية واجتماعية تجعله يؤثر فيما حوله ويتأثر به، مع أن اختلاف تضاريسه من مرتفعات ومنخفضات جعلته إلى حدٍّ ما في معزل عن القوى السياسية والإدارية في كل من: اليمن والحجاز، وبخاصة في العصر الإسلامي الوسيط، فكانت القبيلة هي القوة السياسية التي تحكم أوطانها، وإن اتصلت ببعض القوى الرئيسة في الحجاز، أو في بلاط الخلفاء الأمويين أو العباسيين، فإن ذلك لا يتجاوز فقط الاعتراف بشرعية الخلافة أو الإمارة دون الالتزام بأي تبعات سياسية أو إدارية أو مالية تفرضها السلطة المركزية على هذا الإقليم.
 
شارك المقالة:
126 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook