قد أحاط ربُّنا بكلِّ شيء علما، وقهرَ كلَّ مخلوق عزَّةً وحُكما، لا يُخرَجُ عن سُلطانهْ، ولا يُستغنى عن فضله وإحسانهْ، أوجدَ الخلقَ من العدَمْ، وأمدَّهم بوافر النِّعَمْ، وصبغ الإنسانَ بفِطرة التَّوحيد والإيمان، وبثَّ من الدَّلائل على وجوده ووَحدانيَّته ما يأخذُ بناصية عبده إليهْ، ويُلزِم قلبَه وعقلَه بالإقبال عليهْ. ثم أرسل بعد ذلك الرسُلَ وأنزل الكتب؛ ليُرشدَه إلى ما يُصلِحُ به معاشَه ومعادَه، فلا يضلُّ في دنياهْ، ولا يَشقى في أُخراهْ.
ونَعِمَ البشَرُ بتوحيد ربِّهم وعبادته وحدَه لا شريك له قرونًا عشَرة، ثمَّ دبَّ إليهم الشِّركُ، فاختلفوا وافترقوا، وتعاقبَت على ذلك الأمم؛ ? وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ? [ فاطر: 24]؛ فموفَّقٌ مستجيبٌ لداعي الإيمانْ ? رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ? [ آل عمران: 193]، ومفتونٌ مخذولٌ بالكفر والنُّكرانْ، لم يرفَع بهُدى الله رأسا، ولم يزدَد بآياته إلَّا بؤسا، حالُه كحال الملأ من قوم فرعونَ الذين جحدوا من بعد ما رأَوا الآياتِ بيِّنةً مُبصِرة ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ? [النمل: 14]، وكحال الذين استحبُّوا العمى على الهُدى ? وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? [فصلت: 17].
وكلُّ من استكبر مُعرضًا عن الهداية؛ أعرض اللهُ عنه، ووَكَلَهُ إلى نفسه، وصرَفه عن الحقِّ، وأركسَه في خَبَثه؛ جزاءً وِفاقًا، وقضاءً عدْلًا ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? [الأنعام: 110].
قد رُفعَتِ الأقلام، وجفَّتِ الصُّحفُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وكلٌّ ميسَّرٌ إلى عمله الذي كتبه الله عليه بسابقِ علمه ? فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ? [فاطر: 8].
والتَّالي للقرآن حقَّ التِّلاوة إذا ما تدبَّر قولَ العليم الخبير: ? وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ? [المائدة: 41]؛ وَجِلَ قلبُه، وخشيَ على نفسِه، ولجأ إلى ربِّه عائذًا به من شرِّ فتن الليل والنَّهار، فالأمر كلُّه إليه، والعبد فقيرٌ بين يدَيه، يتقلَّب بين فضله وعدله.
فاللَّهم عاملنا بفضلك وكرمك، ولا تَكِلْنا إلى أنفُسنا طَرفةَ عين.
[1] كتبه: أ. رامي بن أحمد ذو الغنى، مجاز في الشريعة الإسلاميَّة من جامعة دمشق، المدير الأكاديميُّ والتعليميُّ بمدارس أضواء الهداية الأهليَّة في الرياض.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.