الفراغ الدعوي

الكاتب: المدير -
الفراغ الدعوي
"الفراغ الدعوي




إنَّ المتأمِّل في واقع الشَّباب اليوم، يلمس عُزوفًا عن أصلٍ أصيل؛ ألا وهو الدَّعوة إلى الله عزَّ وجل.

 

الدَّعوة التي هي أساس قيام هذا الدِّين وتبليغه وحث الناس إليه، وترغيبهم في فضائله وأحكامه، وسننِه ونظمه.

 

الدَّعوة التي وعاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما أنزلَت عليه: ? يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ? [المدثر: 1، 2]، فقال لزوجه خديجة رضي الله عنها: ((ولَّى زمان النَّوم يا خديجة)).

 

الدَّعوة التي من أجلها قام النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم صائحًا في قريش، وارتاد من أجلها الأسواقَ ومَجامعَ النَّاس، ودخل بين القبائل في الحجِّ، وسافر إلى الطَّائف وأُوذِي، وهاجَر إلى المدينة، وقاتَلَ في بدر وأُحُد والمَشاهد.

 

الدَّعوة التي من أجلها ضحَّى الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم بالغالي والنَّفيس في سبيلها؛ فضحَّى صهيب بماله، فحين خرج مهاجرًا تَبعه نَفر من المشركين ليَمنعوه فأدرَكوه، فوقف واستخرج نبالَه من كنانته وقال لهم: يا معشر قريش، تَعلمون أنِّي مِن أَرماكم، والله لا تَصِلون إليَّ حتى أَرميكم بكلِّ سهم معي، ثمَّ أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء، فقالوا له - كما روى الحاكم في مستدركه -: أتيتَنا صعلوكًا فكثُر مالُك عندنا، ثمَّ تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركتُ مالي لكم، هل تخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، فدلَّهم على الموضع الذي خبَّأ فيه مالَه بمكَّة، فسمحوا له بإتمام هِجرته إلى المدينة المنورة، بعد أن ضحَّى بكلِّ ما يملك في سبيل دينه، بلغ خبرُ صهيب رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد أن لَحق به بالمدينة المنورة، فقال له صلوات الله وسلامه عليه: ((رَبح البيع أبا يحيى))، وتلا قولَ الله تعالى: ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [البقرة: 207]، وفي رواية أخرى قال صهيب رضي الله عنه: وخرجتُ حتى قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحوَّل منها، فلما رآني قال: ((يا أبا يحيى، ربح البيعُ))، ثلاثًا، فقلتُ: يا رسولَ الله، ما سبقني إليك أحد، وما أَخبرك إلاَّ جبريلُ عليه السلام؛ رواه الحاكم.

 

وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه في تفسيره لقول الله تعالى: ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [البقرة: 207]: نزلَت في صهيب بن سنان وأصحابه، اشترى نفسَه بماله من أهل مكة.

 

وضحَّى حَرام بن مِلحان بنفسِه؛ وذلك أنَّ عامر بن مالك بن جعفر أبا براء ملاعب الأسنة الكلابي قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدى له، فلَم يقبل منه وعرَض عليه الإسلام، فلم يُسلِم ولم يبعد، وقال: لو بعثتَ معي نفرًا من أصحابك إلى قومي لرجوتُ أن يجيبوا دعوتَك ويتَّبعوا أمرك، فقال: ((إنِّي أخاف عليهم أهل نجد))، فقال: أنا لهم جارٌ أن يعرِض لهم أحد، فبعث معه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من الأنصار شَبَبَة يسمَّون القُرَّاء، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فلما نزلوا ببئر مَعونة - وهو ماء من مياه بني سُلَيم، وهو بين أرض بني عامر وأرض بني سليم، كلا البلدين يعد منه وهو بناحية المعدن - نزلوا عليها وعَسكروا بها وسرحوا ظهورَهم، وقدَّموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطُّفيل، فوثب على حرام فقتلَه، وذلك في صفر سنة 4 من الهجرة.

 

وقد روى البخاريُّ بسنده عن ثمامة بن عبدالله بن أنس أنَّه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: لما طُعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بِئر معونة، قال بالدَّم هكذا؛ فنضحَه على وجهه ورأسه، ثمَّ قال: فزتُ وربِّ الكعبة.

 

وضحَّى أبو بكر بكل شيء في سبيل ذلك؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله))، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلتُ في نفسي: ما يُبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدُّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ، وكان أبو بكر أعلَمَنا، قال: ((يا أبا بكر لا تبكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنتُ متَّخذًا خليلاً من أمَّتي، لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكنْ أخوَّةُ الإسلام ومودَّته، لا يَبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ، إلاَّ باب أبي بكر)).

 

وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعتُ عمر بن الخطَّاب، يقول: أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالاً، فقلتُ: اليوم أَسبِق أبا بكرٍ إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قلت: مثلَه، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: ((يا أبا بكرٍ، ما أبقيتَ لأهلك؟))، قال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه، قلتُ: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا.

 

مشكلتنا هذه الأيام أنَّنا نجد عزوفًا عن الأعمال الدَّعوية من طلبة العِلم وخرِّيجي العلوم الشرعية، وذلك في نواحٍ شتَّى: في مجال الإمامة والخطابة، في مجال التدريس والتعليم والوَعظ، في مجال التربية وتعديل السلوك، في مجال إدارة المكاتب الدَّعوية والمؤسسات الخيرية، وفي مجال إدارة حلقات تَحفيظ القرآن الكريم، كل ذلك بسبب حُجَجٍ واهية، وأسباب واهمة، فمِن قائل: لا زلتُ في مرحلة الطلَب، أو هناك من هو خيرٌ منِّي، أو لا أريد الارتباط في هذه المرحلة، أو يتحجَّج بالزَّواج والانشغال بالأبناء، أو بانشغاله في عالَم المال والأعمال، وبتتبُّع الرَّبيع ومواطن الماء والمطر، وكل هذا خُسرانٌ مبين في حياة الشباب المستقيم.

إذا كَانَ يؤذيك حر المصيف
ويبس الخريف وبرد الشِّتا
ويلهيك حُسنُ زمان الرَّبِيع
فأخذُك للعِلم قل لِي متى

 

يتخرَّج الطالِب في الكليات الشرعيَّة وهو يتَّقد حماسًا للبَذل والعطاء، وعند أول عقَبة تخبو عزيمته، وتَنطفئ همَّته، وتجده بعد عدَّة سنوات قد أصبح من عامَّة الناس، فقد ضيَّع أكثرَ ما يَعرف من العِلم بسبب عدَم المراجعة والتدارس، والانشغال بالملهيات المعاصِرة، ويصبح أكثر علمِه ومعظم ثقافَته ما يقرؤه في واتسابه وجواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

لا تزال الجهات الدعويَّة في كلِّ مكان تَحتاج الكوادرَ المؤهَّلة التي تحمل همَّ الدَّعوة على عاتقها وتنطلق بالدعوة - بالعلم النافع والعمل الصالح - إلى برِّ الأمان، ولا أصعب عليَّ من رؤية عملٍ دعويٍّ ارتبط بشخصيَّة واحدة؛ يَعمل إذا عمل، ويتوقَّف إذا تقاعَد أو سافَر، دون بناء عمل مؤسَّسيٍّ تتكامَل فيه الأقسام تحت هدفٍ ورؤية واضحين.

 

ما سبق هو واقع مرٌّ، حرصتُ أن أشخِّصه كما رأيتُه، وسأذكر بعضَ النِّقاط التي تساعِد في العلاج إن شاء الله:

? تدريب طلاَّب الجامعات في الجهات الدَّعوية المختلفة؛ ليَعرف واقعها، وتَبني عنده تصوُّرًا واضحًا لحال المؤسسات الدعوية، وتغرس فيه الإيمان بأهميَّة العمل الدَّعوي المتكامل في بناء الشخصيَّة الإسلامية.

 

? استقطاب الطلاَّب للجهات الدعويَّة، وتوفير أوقات عمل تتناسَب مع طبيعة مرحلتهم، وتوفير المكافآت التي تُغري بالاستمرار في العمل والتفرُّغ له.

 

? بيان أهميَّة الدَّعوة إلى الله، وحاجة الدَّعوة إلى كلِّ فرد من أبنائها، سواء في البرامج الشرعيَّة أو التربوية أو الإدارية.

 

? ما يناسبك قد لا يناسب غيرَك؛ فالواجب أن يعلم كل واحد ما يَصلح مع شخصيَّته وتوجُّهه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّر لِما خُلق له))، وكَتب أحدهم للإمام مالك رحمه الله ينكر عليه اشتغالَه بالعلم ويدعوه للتفرُّغ إلى العبادة، فكتب إليه الإمام مالك: إنَّ الله قَسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجلٍ فُتِحَ له في الصلاة ولم يُفتَح له في الصوم، وآخر فتح له في الصَّدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد... ونَشر العِلم من أفضل أعمال البرِّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظنُّ ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانا على خيرٍ وبرٍّ.

 

هذه الأفكار جزء من الحلول، وهي بحاجة من المختصِّين إلى بيان الواقع، ودَفع النَّاس إلى الناس، وزيادة الدِّراسات المنهجيَّة، وإيجاد الحلول والارتقاء بالدعوة إلى الله.

 

أسأل اللهَ أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يثبِّتنا على طريق الحق.. آمين.


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook