قال تعالى: ? وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ? [الأعراف: 31]، قال الجُرجاني في التعريفات: الإسراف: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس، وتجاوُز الحد في النفقة، وقيل: أنْ يأكل الرجل ما لا يحل له، أو يأكل مما يحل له خارج الاعتدال ومقدار الحاجة، وقيل: الإسـراف تجاوز في الكَمية، فهو جهل بمقادير الحقوق، وصـرف الشـيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، بخلاف التبذير[1].
وهذا الصنف من الناس الذي لا يحبه الله جل جلاله ذكره القرآن الكريم في الآيتين مع الطعام والشراب واللبس، قال تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ? [الأنعام: 141]، وقال تعالى: ? يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ? [الأعراف: 31]؛ ذلك أنَّ الطعام والشراب يحرِّك شهوات البطن، وكأن الإنسان الذي يمارس الإسـراف في الطعام والشراب يقترب من الأخلاق البهيمية، ويتنكر للمقام البشري الذي خلقه الله جل جلاله وكرمه.
أما الإسراف في اللبس، فإنه يحرك شهوة الكِـبْر في قلب الإنسان، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ))[2]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظرُ الله إلى مَنْ جرَّ ثوبَهُ خُيلاءَ))[3].
وجاء في الكسب للشيباني: وكل أحد منهي عن إفساد الطعام، وفي الإفساد الإسـراف؛ وهذا لما روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال، وعن كثرة السؤال، وعن إضاعة المال[4]، ثم الحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الإفساد والسَّرَف والمخيلة والتفاخر والتكاثر.
وأما السَّرَف، فحرام؛ لقوله تعالى: ? وَلَا تُسْرِفُوا ?... الآية [الأعراف: 31]، وقال جل وعلا: ? وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ? [الفرقان: 67]، فذلك دليل على أنَّ الإسراف والتقتير حرام، وأن المندوب إليه ما بينهما، وفي الإسـراف تبذير، وقال الله تعالى: ? وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ? [الإسراء: 26]، ثم السَّـرَف في الطعام أنواع، فمن ذلك: الأكل فوق الشبع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من البطن، فإنْ كان لا بد فثُلُثٌ للطعام، وثُلُثٌ للشراب، وثُلُثٌ للنَّفَس))[5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يكفي ابن آدم لُقيمات يُقِمْنَ صُلبَه، ولا يُلام على كفاف))، ولأنه إنما يأكل لمنفعة نفسه، ولا منفعة في الأكل فوق الشبع، بل فيه مضـرَّة، فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة، أو شرًّا منه، ولأنَّ ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره، فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض، فهو في تناوله جَانٍ على حق الغير، وذلك حرام، ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه، والأصل فيه ما رُوي أنَّ رجلاً تجشَّأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((نحِّ عنا جُشَاءَك، أمَا علمت أنَّ أطول الناس عذابًا يوم القيامة أكثرهم شبعًا في الدنيا؟)).
ولما مرض ابن عمر رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب مرضه فقيل: إنه أتخم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وممَّ ذلك؟))، فقيل: من كثرة الأكل، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه لو مات لم أشهَدْ جنازته، ولم أُصَلِّ عليه))، ولما قِيلَ لعُمَر رضي الله عنه: ألا نتخذ لك جوارشاً؟ قال: وما يكون الجوارش؟ قيل: هاضوم يهضم الطعام، فقال: سبحان الله! أوَيَأكلُ المسلمُ فوقَ الشبع؟![6].
[1] التعريفات، الجرجاني، ص38.
[2] صحيح البخاري، ج3، ص1285، حديث: 3297 .
[3] صحيح البخاري، كتاب اللباس، ج5، ص2181، حديث: 5446.
[4] أخرج البخاري في صحيحه، 2/ 1404، عن كاتب المغيرة بن شعبة، قال : كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أنِ اكتب إليَّ بشـيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)).
[5] أخرج ابن حبان في صحيحه، 12/ 5236، عن المقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شـرًّا من بطن، حسبك يا بن آدم لقيمات يقمن صلبك، فإنْ كان لا بد فثُلثٌ طعام، وثُلثٌ شـراب، وثُلثٌ نَفَس)).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.