المباهلة.

الكاتب: حنان حوشان -
المباهلة.

المباهلة.

 

المباهلة

 
جعلَ اللهُ -سبحانه وتعالى- الاختلافَ من السُّننِ الكونيّةِ في جميعِ خلقه، فلم يخلقهم على نفسِ رجلٍ واحدٍ؛ من حيث الشكل، واللون، والطبيعة البشريّة، والسجايا، والأخلاق، والصفات؛ ففي البشرِ الأبيض والأسود، والقصير والطويل، والمؤمن والكافر، والعاصي والمُطيع، ومنهم حَسَنُ الخُلقِ ومنهم السيّئ، وكلُّ ذلكَ من سننِ اللهِ في كونهِ، وهو دليلٌ على عظمةِ ما خلق الله تعالى، وقدرتهِ على التنويعِ الموجودِ بينَ البشرِ مع أنّهم خُلِقوا من نفسٍ واحدةٍ، ومن بينِ الأمورِ التي تتعلق بالاختلافاتِ بينَ النّاسِ ما يُسمّى بالمباهلةِ، فما معنى المباهلة في اللغة والاصطلاح؟
 
 
 

تعريف المُباهلة

 
المباهلةُ في اللغة: هي مصدر باهَلَ يُباهل مُباهلةً، وهي الاجتماعُ بينَ الخصمينِ، ودعاءُ كلِّ واحدٍ منهما على الطرفِ الآخرِ، يُقال: باهل القومُ القومَ؛ أي لعنَ بعضهم بعضاً، والتَبَهُّل هو: العَناءُ بطلبِ شيءٍ ما، وأبهلَ الشّيءَ: إذا تركَه، فيُقال: أَبهلَ الرّجلَ؛ أي تَرَكه، وأبهلَ النّاقة؛ أي تركها وأهملها.[]
المباهلةُ في الاصطلاح: أَن يجتمعَ قومان لإبطالَ الباطلِ وإحقاقَ الحقِّ إِذا اختلفوا في شيءٍ ما، ويُلعَنُ الظالمُ منهما.[]
 
 

مشروعيّة المباهلة

 
الأصلُ في مشروعيّةِ المباهلةِ قولُ اللهِ تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)،[] يقولُ الإمامُ ابنُ قيّم الجوزيّة -رحمه الله- في تفسيرِ هذهِ الآيةِ: (السُّنَّة في مجادلةِ أهلِ الباطلِ إذا قامت عليهم حُجَّةُ اللهِ ولم يرجعوا، بل أصرُّوا على العنادِ، أن يدعوَهم إلى المباهلةِ، وقد أمر اللهُ -سبحانه- محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم- بذلك، ولم يقل الله تعالى: إنَّ ذلكَ ليس لأُمّتك مِن بعدك).[]
 
 
وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: (جاءَ العاقبُ والسيّدُ صاحبا نجرانِ إلى رسولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يريدان أن يُلاعِناه، قال: فقال أحدُهما لصاحبِه: لا تفعل فواللهِ لئن كان نبيّاً فلاعنا لا نفلحُ نحن، ولا عقِبُنا من بعدِنا، قالا: إنّا نعطيكَ ما سألتَنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثنَّ معكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، فاستشرفَ لهُ أصحابُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال: قُم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلمّا قامَ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هذا أمينُ هذهِ الأمّةِ)،[] وذكرَ ابنُ حجر العسقلانيّ: (مشروعيَّةُ مباهلةُ المخالِفِ إذا أصرَّ بعدَ ظهورِ الحُجَّة)، وكثيرٌ منَ العلماءِ المتقدِّمينَ والمتأخرينَ طلبوا المباهلةَ، ومنهم: الأوزاعيُّ، وابنُ تيمية، وابنُ قيّم الجوزيّة، وابنُ حجر العسقلانيّ، وغيرهم.[]
 
 
ولا تجوزُ المباهلةُ إلّا فيما يخصُّ الأمورَ الشرعيّةَ المهمّةَ التي يحصلُ فيها اشتباهٌ بين فريقين ما، ممّا يوثّرُ على المجتمعاتِ، ولا سبيلَ لدفعِ هذا الاشتباه والعناد إلّا بالمباهلةِ، ولا يصحُّ ذلك إلّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ وتقديمِ النُصّحِ والسعيِ لإزالةِ الشُبهة، وهي ليست خاصّةً بالنبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- معَ النَّصارى، فحُكمها العُموم لسيّدنا محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- ولأمّتهِ معَ النَّصارى وغيرهم، فالأصلُ في أحكامِ الشريعةِ الإسلاميّةِ العموم ما لم يأتِ ما يُخصِّصها، والمباهلةُ التي وقعَت في زمنِ النبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- مع نصارى نجران هي جزئيّة تطبيقيّة لعمومِ الآيةِ.[]
 
 
 

شروط المباهلة

 
حتّى تقع المباهلة صحيحةً وفقَ الشّرع، فلا بُدَّ أن تتوفَّرَ فيها عدَّة شروط، ومن أهمِّ تلكَ الشروط ما يأتي:[]
 
إخلاصُ النيَّةُ للهِ -سبحانه وتعالى- بحيث يكون غرضُ المباهلةِ إحقاق الحقِّ ونصرته، وإبطال الباطلِ ودحضه، وخذلان أهلهِ، ولا يكون القصدُ من المباهلةِ غلبة الطرفِ الآخر والتشفِّيَ به، أو يكونَ القصدُ حبَّ الظهورِ، والانتصار لهوى النفسِ وغيرِ ذلك من النوايا المفسدة للمباهلةِ.
اللجوءُ إلى المباهلةِ بعدَ قيامِ الحُجَّةِ على الفريقِ المُخالفِ؛ بالأدلّةِ والبراهينِ الواضحةِ القاطعةِ الصحيحةِ.
إصرارُ الفريقِ المخالفِ على الباطلِ وعناده للحقِّ واتباعه لهواه؛ فالمباهلةُ تؤدّي إلى غضبِ اللهِ -تعالى- ولعنتهِ على المخالفِ، وذلك لا يجوزُ إلّا للمخالفِ حقيقةً .
لا تكون المباهلةُ إلّا في أمورِ الدينِ المهمَّةِ التي تحقِّقُ مصلحةَ المسلمينَ وتدفعُ الشرورَ عنهم، فلا تجوزُ المباهلةُ في المسائلِ الفرعيةِ الاجتهاديَّةِ المختلَف فيها.
 
 

آية المباهلة

 
إنَّ سببَ نزولِ آية المباهلةِ أنَّ نصارى نجران قدِموا إلى النبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- في المدينةِ المنورةِ، وادَّعو أنَّ عيسى -عليه السلام- ابنُ اللهِ وأنَّهُ إلهٌ، فنهاهم النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن ذلك وأخبرهم أنَّ عيسى -عليه السلام- نبيُّ اللهِ -تعالى- وعبدٌ له، وأقامَ النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- الأدلّةَ والبراهينَ على ذلك، إلّا أنَّ نصارى نجران أصرّوا على الباطلِ ولم يرتدعوا عن ذلك، فأمرَ اللهُ -سبحانه وتعالى- نبيَّهُ محمداً -صلّى الله عليه وسلّم- بدعوةِ نصارى نجران للمباهلةِ، وأن يحضرَ كلُّ قومٍ بأهلهم وأبنائهم، فأحضرَ النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- علياً بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- وزوجتهُ فاطمة الزهراءِ -رضي الله عنها- والحسنَ والحسين رضي الله عنهما، وقد روى سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- في ذلك: (دعا رسولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- عليّاً وفاطمةَ وحسناً وحسيناً، فقالَ: اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهلي)،[] فتشاورَ وفدُ نصارى نجران في قبولِ دعوةِ النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- للمباهلةِ فعزموا الأمرَ على عدمِ الإجابةِ؛ لأنّهم يعلمون أنَّ إجابتهم لدعوةِ النبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- توصلهم إلى الهلاكِ، فصالحوا النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، وأعطوه الجِزية.
شارك المقالة:
66 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook