المجتمع الإسلامي المنشود: مبادئ توجيهية من المرحلة المدنية (دولة المدينة المنورة)

الكاتب: المدير -
المجتمع الإسلامي المنشود: مبادئ توجيهية من المرحلة المدنية (دولة المدينة المنورة)
"المجتمع الإسلامي المنشود
مبادئ توجيهية من المرحلة المدنية (دولة المدينة المنورة)

 

تمهيد:

الإسلام دين الله الحقُّ الخاتم؛ لذا أنزله الله وهو يحوي في طيَّاته كلَّ جوانب الهداية والرَّشاد، وألزم أتباعَه ألاَّ يتجاوزوها إلى غيرها، ? قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ? [الأنعام: 162، 163]، ولمَّا جعل الله الإنسان خليفةً في الأرض، كان من وسائل تَحقيق تلك الخِلافة إقامةُ مجتمعٍ مسلم، ومجتمع المدينة المنورة هو المثال الحيُّ للمسلِمين في كلِّ زمان ومكان؛ ليتخذوه نبراسًا يهديهم حين تَعصف بهم الأهواءُ وتتنازعهم السياسات.

 

شكَّلَت الهجرةُ النبويَّة من مكَّة المكرمة إلى المدينة المنورة منعطفًا حاسمًا في مسار التاريخ الإسلامي؛ وذلك نظرًا لِما أسَّسَت له من تحوُّلات عميقة وجذريَّة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي...؛ فقد بات من المتفق عليه بين المؤرخين أنَّ حدَث الهِجرة كان إعلانًا لبزوغ مَرحلة الدَّولة الإسلاميَّة، بعد مرحلة الدَّعوة في مكَّة المكرمة، وقد وضع الرسولُ صلى الله عليه وسلم خِلال هذه المرحلة الجديدة المعالمَ الأساسيَّة للمجتمع الإسلامي في كلِّ أبعادها؛ الفرديَّة والجماعية، العامَّة والخاصة...، شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مستقره بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بدَّ منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشؤون الآتية:

1 - صِلَة الأمَّة بالله:

بناء المسجد.

الأذان لدعوة النَّاس إلى الصلاة.

 

2 - صِلة الأمَّة بعضها بالبعض الآخر:

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

الوثيقة أو الصحيفة النبوية (دستور المدينة المنورة).

 

3 - صِلة الأمَّة بالأجانب عنها، ممَّن لا يدينون دينها:

الوثيقة أو الصحيفة النبويَّة (دستور المدينة المنورة).

 

4 - إنشاء البنية التحتية:

اختيار الموقع الجغرافي.

تخطيط الأحياء السكنية.

إنشاء المرافق الاجتماعية والاقتصادية (السوق والشوارع والطرق والمرافق العامَّة... إلخ).

 

5 - حماية الدولة الناشئة:

بناء الجيش[1].

 

1 - بناء صلة الأمة بالله (بناء المسجد):

كان أول ما قام به الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجِد؛ وذلك لِتظهر فيه شعائرُ الإسلام التي طالَما حورِبَت، ولتقام فيه الصلواتُ التي تربط المرءَ بربِّ العالمين، وتنقِّي القلبَ من أدرانِ الأرض وأدناس الحياة الدنيا.

 

عن أنَس بن مالِكٍ، قال: إنَّ رسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قدم المدينة...، ثُمَّ إنَّه أمر بالمسجد... [2].

 

ومكانَة المسجِد في المجتمع الإسلامي تَجعله مصدر التوجيه الروحي والمادِّي، فهو ساحَة للعبادة، ومَدرسة للعِلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطَت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام[3].

 

2 - بناء صلة الأمة بالله (الأذان لدعوة الناس إلى الصلاة):

يَحتاج الفردُ المسلم إلى ما يَربطه دائمًا بالله؛ فكانت الصلاة، ثمَّ جاء الأذان ليكون وسيلةً تذكِّره بذلك الرِّباط وتقوِّيه عنده، وقد اختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأذان وسيلةً خاصَّة بالمسلمين، وكرِه لهم أن يتشبَّهوا في ندائهم للصلاة بغيرهم[4].

 

3 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

كان من أولى الدَّعائم التي اعتمدها الرسولُ صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحي والتنظيمي للأمَّة وللدَّولة والحُكم - الاستمرار في الدَّعوة إلى التوحيد والمنهج القرآني، وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي خطوة لا تقلُّ أهميَّة عن الخطوة الأولى في بِناء المسجد؛ لكي يتلاحمَ المجتمعُ المسلِم ويتآلَف، وتتضِح معالِم تكوينه الجديد.

 

إنَّ المجتمع المدني الذي أقامه الإسلامُ كان مجتمعًا عقديًّا يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلاَّ لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه؛ إذ يتَّصل بوحدة العقيدة والفِكر والرُّوح.

 

إنَّ الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أهمِّ الآثار والنتائج المترتِّبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربِّي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة[5].

 

4 - الوثيقة أو الصحيفة النبوية (دستور المدينة المنورة):

نظم النبيُّ صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكَّان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا أوردَته المصادرُ التاريخيَّة، واستهدف هذا الكتابُ أو الصحيفة توضيحَ التزامات جَميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سمِّيت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلَقَت الأبحاث الحديثة عليها لفظ (الدستور)[6].

 

كان هاجس بناء ورصِّ الجبهة الداخليَّة لدولة المدينة حاضرًا بقوَّة في الإستراتيجية التنمويَّة التي قادها الرسولُ صلى الله عليه وسلم منذ وصوله إلى المدينة؛ لذلك عمل على إقرار دستور متكامِل في حينه ينظم العلاقات ويحدِّد حقوق وواجبات كلِّ الحساسيات التي كانت تكوِّن المجتمع المدني؛ فبالإضافةِ إلى المسلمين الذين يتشكَّلون من الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين، كان هناك المشركون (الأوس والخزرج) واليهود، والأعراب الذين كانوا يَعيشون على تخوم المدينة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اطمأنَّ إلى الجبهة الإسلاميَّة من خلال عمليَّة المؤاخاة؛ فإنَّه لأجل احتواء أو ضَبط العناصر الأخرى خاصَّة اليهود، وأَمْن جانبهم - عَمل على موادعتهم؛ لتكون المدينة كلُّها - مسلمها وكافرها - يدًا في يد أمام الأعداء من الخارِج، ومجمل ما نصَّت عليه هذه المعاهدة / الموادعة[7]:

للجماعة الإسلاميَّة شخصية دينيَّة سياسية مستقلَّة بها.

 

الحريَّة الدينية مكفولة للجميع ما لم يحصل مِن طرف ظلم أو إثم.

 

يتعاون سكَّان المدينة من مسلمين وغيرهم ماديًّا وعسكريًّا وأدبيًّا، في الدِّفاع ضد أي عدوانٍ خارجي.

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرئيس الأعلى لسكَّان المدينة، وإليه يَرجعون في كلِّ ما يَختلفون فيه.

 

الأمَّة تضم الجماعةَ التي تعتقد عقيدةً واحدة بصرف النظر عن اعتبارات القرابة أو الأرض أو النَّسَب أو اللغة...، فالمسلمون يؤلِّفون أمَّة واحدة، واليهود يؤلِّفون أمة واحدة...، وتؤلِّف هذه الأمم كلها المجتمعَ الإسلامي الذي يَخضع لنظام الإسلام.

 

5 - إنشاء البنية التحتية[8]:

اختيار الموقع الجغرافي.

تخطيط الأحياء السكنية.

إنشاء المرافق الاجتماعية والاقتصاديَّة؛ (السوق والشوارع والطرق والمرافق العامة... إلخ).

 

6 - حماية الدَّولة الناشئة (بناء الجيش):

أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإجراء تعداد سكَّاني في السنة الأولى من الهِجرة، وبعد المؤاخاة مباشرة، وكان الإحصاء للمسلمين فقط، أو حسب نصِّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((اكتبوا لي مَن تلفَّظ بالإسلام من الناس))، فبلغ تعداد المحارِبين منهم فقط (1500) ألفًا وخمسمائة رجل[9]، فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا الإحصاء تساؤلَ تعجُّبٍ واستغراب: (نَخاف ونحن ألف وخمسمائة؟!)؛ لأنَّهم كانوا قبل لا ينامون إلاَّ ومعهم السلاح خوفًا على أنفسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمنع خروجهم ليلاً فُرادى حمايةً لهم من الغَدر، وبعد هذا التعداد مباشرة بدأَت السرايا والغزوات، وهذا الإجراء الإحصائي يَدخل ضمن الإجراءات التنظيميَّة في تطوير الدَّولة الناشئة[10].

 

قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتطبيق قول الله تعالى: ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ? [الأنفال: 60]، وكان منهجه صلى الله عليه وسلم في تكوين المجاهِد المسلم يَعتمد على نهجين متوازنين: التوجيه المعنوي، والتدريب العملي[11].

 

من أهداف الجهاد في سبيل الله تعالى؛ (كما يلخصها د. علي الصلابي)[12]:

1 - حماية حريَّة العقيدة.

2 - حماية الشعائر والعبادات.

3 - دفع الفساد عن الأرض.

4 - الابتلاء والتربية والإصلاح.

5 - إرهاب الكفَّار وإخزاؤهم، وإذلالهم وتوهين كيدهم.

6 - كشف المنافقين.

7 - إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض.

8 - دفع عدوان الكافرين.

 

الخلاصة: شرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدَّولة الجديدة على قواعد متِينة، وأسس راسِخة، فكانت أولى خطواته المبارَكة الاهتمام ببناء دعائم الأمَّة؛ كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاةِ بين المهاجرين والأنصار على الحبِّ في الله، وإصدار الوثِيقة أو الدستور الإسلامي في المدينة الذي ينظِّم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشرِكي المدينة، وإعداد جيشٍ لحماية الدَّولة، والسعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حلِّ مشاكل المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الربَّاني في كافَّة شؤون الحياة؛ فقد استمرَّ البناء التربوي والتعليمي، واستمرَّ القرآن الكريم يتحدَّث في المدينة عن عظَمَة الله وحقيقة الكون، والترغِيب في الجنَّة والترهيب من النَّار، ويشرع الأحكامَ لتربية الأمَّة، ودَعم مقومات الدَّولة التي ستحمل نشرَ دعوة الله بين النَّاس قاطِبة، وتجاهد في سبيل الله.

 

وكانت مسيرة الأمَّة العلميَّة والتربويَّة تتطوَّر مع تطوُّر مراحل الدَّعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدَّولة، وعالَج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأزمةَ الاقتصاديَّة بالمدينة من خلال المنهج الربَّاني، واستمرَّ البناءُ التربوي؛ ففُرِض الصيام، وفُرضت الزكاة، وأخذ المجتمعُ يَزدهر والدولةُ تتقوى على أسس ثابتة وقوية[13].

 

[1] انظر أيضًا فقه السيرة؛ محمد الغزالي ص: 136، ومجلة الوعي الإسلامي العدد: 485، فبراير 2006 (الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية) ص: 52.

[2] رواه البخاري (428)، ومسلم (524).

[3] فقه السيرة؛ محمد الغزالي ص: 137.

[4] انظر قصَّة الأذان في سنن أبي داود حديث رقم (498).

[5] السِّيرةُ النَّبوية - عرضُ وقائع وتحليل أحدَاث؛ علي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 213، 215).

[6] السِّيرةُ النَّبوية - عرضُ وقائع وَتحليل أحدَاث؛ علي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 323).

[7] التاريخ الإسلامي؛ محمود شاكر (1/ 161).

[8] مجلة الوعي الإسلامي العدد: 485، فبراير 2006 (الهجرة النبوية وتأسيس المدينة الإسلامية) ص: 52.

[9] انظر: الوثائق السياسية، حميد الله، ص65.

[10] السِّيرةُ النبوية - عرضُ وقائع وتحليل أحدَاث؛ علي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 366).

[11] السِّيرةُ النبوية - عرضُ وقائع وتحليل أحدَاث؛ علي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 357).

[12] السِّيرةُ النبوية - عرضُ وقائع وتحليل أحدَاث؛ علي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 358).

[13] السِّيرةُ النبوية - عرضُ وقائع وَتحليل أحدَاث - عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي (1/ 299).


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook