المدينة التي لا تنام

الكاتب: المدير -
المدينة التي لا تنام
"المدينة التي لا تنام




يقصدها العُشَّاق، ويتغزَّل بها الشعراء، ويَثمُل من رياح صباها المستنشقون، تزدحم شوارعها بالسائرين ليل نهار.

إن رأيتَها عن بُعد رقرقت العيون لها، وإن عايَنتها عن قُرب انهمَلت دموعُ الحبِّ والشوق.

ترابها عبير، وماؤها نمير، إن لامست جدرانها فهي ألين من الحرير، وإن سِرْت في أزقَّتها تَعِش راحة لا يجدها سلطانٌ ولا أمير.

 

يجتمع فيها المحبُّون من كلِّ لسان ولون، تجمعُهم لغةُ العشق والشوق، مقصدهم واحد، واجتماعهم يغيظ كلَّ حاسد وحاقد، لكن مقصد كلِّ راكع وساجد تقبيل آثارها ولقاء مَن فيها راقد.

عجيبة هي مدينة ترتاح النفوس في لقائها، وتطرَب الأرواحُ في هوائها.

كم تغنَّى بها المداح، وكم شهَقت لفِراقها الأرواح، وكم تنادى لها الناس في الليالي الملاح.

ينام على أعتابها القُصاد، وينهل مِن شذاها العُبَّاد، ويرتوي مِن مَعينها الآباء والأجداد.

مَن زارها أول مرة طار بجناح الشوق، ومَن كرَّر الزيارة ازداد من الجمال والبهاء.

 

القرب منها ترياق مُجرب، والمكث فيها أمرٌ مطلوب ومحبب، تتنادى الأرواح للقاء فيها، وتتعانق الأشواق عند رؤيتها.

تاج رأس المدن وعروس كلِّ بلد ووطن، يفوق جمالُها عقد اليمن، دواء كلِّ عليل ورِي كلِّ غليل، وللخيرات والبركات دليلٌ.

تستنهض الهِمم هناك، وتعلو المكارم فيها إلى أعالي القمم، مَن طلبها فاز ونجح، ومن حصل على مراده فيها نال الرُّتب والمِنح، ما أطيبَ هواءَها! وما أجمل صباحها ومساءها، وأعذب شرابها وماءها!

 

طبيبة مَن لا طبيب له، وحبيبة مَن لا حبيب له، وأنيسة من لا أنيس له.

ماذا أقول فيك يا حبيبةَ القلب ومنارة الشرق والغرب.

ملكت القلوب وأنرتِ الدروب، وضمَمتِ بين جنباتك الحبيب المحبوب.

إنها مدينة الشرف والكرامة والمحبَّة والسلامة.

مدينة منورَّة مِن ربها مقدَّرة، مُطيبة مُعطرة.

 

دعا لك الحبيب بالحب والطيب؛ فعن عائشة رضي الله عنه قالت: قدمنا المدينة وهي أَوْبَأُ أرض الله؛ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببتَ مكة أو أشد، وصحِّحها، وبارِك لنا في صاعِها ومُدِّها، وانْقُل حُمَّاها إلى الجُحْفة)).

ورغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في سُكناكِ الناسَ مهما اختلفت الألوان والألسن والأجناس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أناس يخرجون من المدينة إلى اليمن وغيرها بعد فتحها: ((والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يَدَعها أحدٌ رغبةً عنها إلا أبدل الله فيها مَن هو خير منه، ولا يَثبُت أحد على لأْوائها وجَهْدها، إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).

 

وجاءت منزلة الشهيد لمن مات فيها حائزًا كلَّ وعد، وناجيًا من كلِّ وعيد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل؛ فإني أشهَد لمن مات بها)).

تمرها دواء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل سبعَ تمرات مما بين لابَتَيْها حين يصبح، لم يَضرَّه سُمٌّ حتى يُمسي)).

 

وترابها شفاء، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيءَ منه، أو كانت به قُرحة أو جُرح، قال صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا، ووضع سفيان سبَّابته بالأرض، ثم رفعها: بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا؛ ليُشفَى به سقيمُنا.

بحق هي طيبةٌ تربتُها وطيبٌ تَمرُها، وطيِّبٌ هواؤها، ومُطيَّبٌ ظاهرُها وباطنُها.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها طيبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خَبَث الفضة)).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سمَّى المدينة يثرب، فليَستغفر الله عز وجل، هي طابة هي طابة)).

صلى الله وسلم وبارك على ساكنها سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook