المقامة الامتحانية

الكاتب: المدير -
المقامة الامتحانية
"المقامة الامتحانية




حكى مسلم بن عبدالله قال: أضنَتْ جسميَ الغموم، وأرَّقت عينيَّ الهموم، وصرتُ في ليلٍ غائرٍ نجمُه، ونهار كالحٍ وجهُه، فولجتُ بحارَ الأفكار، وقلت: لا بدَّ من الدُّرِّ ولو غار، فاهتديتُ حينئذٍ إلى دُرَّة، لا تساويها بَدْرَة، فقادني ذاك التفكير، إلى إتيان عالم بصير، مشهور بالفِكر الراجح، ومعروف بالعمل الصالح، وكنتُ قد قرأتُ في الكتاب المصون: ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ? [النحل: 43].

 

فلمَّا وصلتُ إلى داره، وموضع سكنِه وقراره، طرقتُ الباب، وهيَّأتُ السؤال لأنال الجواب، فأجابني حين طرقت، ورحَّب بي إذ نزلت، فقال لي: ما الذي أتى بك، وما نزل بباك، فقلتُ: يا من صرتم للأمة نِعْمَ المنهل، وأزلتم عنها المشكلَ والمعضل، جعلكم الله حرَّاسًا للدين، وغيثًا للظامئين، وأساة للجاهلين، وكهفًا للسائلين، إنِّي قد جئتُكم لأكشف عن نفسي كُربة، وأحوز بلقياكم قُربة، فقال: سل عمَّا بدا لك، فقلت: نزلَت بساحتي الهموم، وقيَّدَتني بأغلالها الهموم، ورمَت بي في الأسر، وزارَتني بنات الدَّهر، فهل تجدون لأسري من إطلاق، ولدياجي حياتي من إشراق؟

 

فقال: لا تحزن، يا أبا محجن، واسمع منِّي دواء شافيًا، وحرزًا واقيًا، أما علمتَ أنَّك في هذه الدنيا طالب، وأمامك امتحان أنت ناجح فيه أو راسب، أسئلتُه معلومة مقدَّمة، حرصًا ممَّن يختبرك ورحمة، لكن للامتحان موضوع، فمرتفع فيه أو موضوع، وله أسئلة، ليست مُعضلة، وهناك أسباب نجاح، بها الفوز والفلاح، ومكان أُعدَّ للاختبار، وتقدير للنَّاجحين الأخيار، وثمار وفوائد، وجوائز وعوائد.

 

أمَّا عنوان الموضوع، فهو الإيمانُ المشروع، الذي به يُمتحنون، قال الله تعالى: ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ? [العنكبوت: 2]، أمَّا الأسئلة فهي المذكورات، في قول ربِّ الأرض والسموات: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ? [البقرة: 155]، وفي قوله جلَّ عمَّا يصِفون: ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? [الأنبياء: 35]، أمَّا المكان، الذي جعل للامتحان، فهو هذه الحياة، ففيها الخسارة أو النَّجاة، فما دمتَ في عِداد الأحياء، فأنت معرَّض للابتلاء، فلتأخذ فيها الحذَر، وتتزوَّد منها قبل السَّفَر، ولتصبر في دار الظعن، قبل وصولك للوطَن؛ لأنَّك ما دمتَ في أرض الغربة، فأنت متنقل من كُربةٍ إلى كُربة، وأمَّا أسباب التفوُّق، ومراقي التسلُّق، فهي في قول الله: ? وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ?[البقرة: 45]، أمَّا تقدير النجاح، وجائزة التقدم في السَّاح، فهي في قول الله لِمن يَعُون: ? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? [البقرة: 155 - 157]، فقول ذي النِّعمة: ? أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ?، تَقدير امتياز، للسَّابق يوم فاز، وقوله تعالى: ? وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? درَجة الشَّرف، فكن ممَّن عرَف، وما انحرَف، أمَّا فائدة الاختبار، فكما قال العزيز الغفَّار، في كتابه المبين: ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ? [العنكبوت: 3]، وقول ربِّ العالمين: ? وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ? [العنكبوت: 11]، أمَّا ثمرته فالاختِبار كسب درجة عاليَةٍ في الإيمان، وتَطهير للنَّفس من الكِبر والأدران، وهو مَصدر للحسنات، ومذهبة للسيئات، يشد العزائم، ويورث المكارم، ويصفِّي العقائد، ويكشف عن صِدق العابد، فمن اختُبر صَلُبَ عوده، وتحقَّقَت مع الأيام سعوده؛ هذا في الحياة الدنيا، وأمَّا في الحياة الأخرى، فكما قال ربُّ الأرباب: ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر: 10]، فلا يُقدر له قدر، ولا يحدُّ له أجر؛ وإنَّما فضل عظيم، من الربِّ الكريم، ثمَّ أنشد:

أفَما اتَّعظتَ بما سمِعْ
تَ عن البلاءِ المستطَرْ
ووعيتَ ما يَثنيك عنْ
مرَض التسخُّطِ والضَّجرْ
وعرفتَ سنَّة عيشِنا
دومًا به خيرٌ وشرّْ
لستَ الوحيد من العبا
دِ فكم خلائق تُختبرْ
فاردُد أمورَك للكري
مِ فإنَّه نعم الوَزَرْ
وارفع يديْك وقل له:
عبدٌ أحاط به الضَّرَرْ
واعلم بأنَّ إلَهَنا
ذو حكمةٍ فلتعتبرْ
سبحانه عددَ الحَصى
ليسَت تُحيط به الفِكَرْ
وبذا تعيش مدى الحيا
ةِ على الهناءِ بلا كدرْ

 

قال الراوي: فلمَّا سمعتُ نثرَه ونظمَه، وحسن ما وعظ به وأتمَّه، قلتُ: بلى والله اتَّعظت، وعن تسخُّطي انزجرت، فشكرتُ له دواءه، وعظَّمتُ في نفسي سماءه، وخرجت وقد سلختُ عنِّي لباسَ الشكوى، وتلفَّعتُ بثياب الصَّبر على البلوى، وتيقَّنتُ أنَّ ما أصابني لم يكن ليُخطئني، وما أخطأني لم يكن ليُصيبني، رُفعَت الأقلامُ عن كتابتها، وجفَّت الصُّحُف عن الكتابة فيها.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook