اجتمع فتيان قريش وشبابها في الليلة التي حدّدوها لتنفيذ مؤامرتهم التي تقتضي أن يضرب الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- مجموعةٌ من شباب قريش بسيوفهم ضربة رجل واحد فيتفرّق دمه بين القبائل، ووقفوا أمام بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينتظرون خروجه لينفّذوا خطّتهم، فكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج من بين هذه الجموع المراقبة له، ويضلّلهم حتى لا يتّبعوه ويفسدوا عليه خطته، فأمر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن ينام في فراشه، ويتغطّى ببردته، فلمّا نظر المشركون من فتحة الباب اطمأنّوا على سلامة خطّتهم، لكن حدث في ذلك الوقت إحدى المعجزات، بأن أخذ الله أبصارهم، وضرب على قلوبهم حتى خرج عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يروه، وأخذ حفنة من تراب فجعلها على رؤوسهم، فلم يبق واحدٌ منهم إلا وقد وصل التراب إلى رأسه.
المهاجرون والأنصار هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورفقائه، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، وهم أفضل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك قوله صلوات الله عليه: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، فقد امتلأت قلوبهم بمحبة الله تعالى ورسوله، والإيمان به، وتصديقه، ونصره والدفاع عنه لنشر هذا الدين، فلم ولن يوجد في الناس من هم أفضل منهم إيماناً، ولا أحسن منهم أخلاقاً، فالمهاجرين هم الذين أسلموا قبل فتح مكة وهاجروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وسكنوا فيها، وتركوا مكة المكرمة وفيها أهلهم وأموالهم، كلّ ذلك في سبيل نيل رضا الله -تعالى- ورغبةً فيما عنده، ونصرةً لهذا الدين، لذلك عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حبّهم من الإيمان، وكرههم من النفاق، واستحقّوا أن يمدحهم الله -تعالى- في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، فهذه الآية تبيّن فضل المهاجرين، وتذكر صفاتهم التي سيتم بيانها فيما يأتي:
الهجرة هي أسلوبٌ من أساليب نشر الدعوة، وطريقةٌ للمحافظة عليها من البغي والعدوان، ولهذا كانت الهجرة منهج الأنبياء السابقين لسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يبحثون عن الأراضي الخصبة التي تحتضن دعواتهم، وينثرون بذورهم الطيبة الصالحة فيها، ومن الأنبياء الذين هاجرو سيدنا إبراهيم -عليه السلام- الذي هاجر من الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام، وسيدنا لوط عليه السلام، وسيدنا موسى -عليه السلام- الذي أمره الله -سبحانه- بالخروج من بلده، إذن لم يكن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أوّل من هاجر من الرسل، بل سبقه بالهجرة عددٌ من الرسل استجابةً لأمر الله سبحانه، فسنّوا بذلك الهجرة لمن أتى بعدهم من النبيّين والمصلحين، وقد ثبت بالتجربة أن الهجرة من أنجح الوسائل لنشر الدعوة، فالدعاة عندما يهاجروا بدينهم مخلصين لله هجرتهم، يُيَسّر الله -تعالى- أمورهم مما يُقرّب الناس منهم، ويجعلهم يفتحون قلوبهم لهم، ويؤازرونهم في دعوتهم، وينشرون عقيدتهم، ويوسّع الله أرزاقهم، ويغرقهم في النعم، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ).
بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإرساء أسس الدولة الإسلامية التي سينشؤها في المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد قام بذلك حتى يجمع المهاجرين والأنصار في دائرةٍ واحدةٍ، ويصبحوا نسيجاً واحداً مترابطاً برباط العقيدة الإسلامية، وليس برباط القوميّة أو العصبيّة وغير ذلك مما كانوا يجتمعون عليه قبل الإسلام، وهكذا صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- أسمى وأقوى رباط، وهو رباط المؤاخاة والحب والموالاة في الله، وقد كان هدف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وراء ذلك إزالة وحشة الغربة عن المهاجرين، ومؤانستهم بعدما فارقوا ديارهم وأهلهم، وقد بلغت مؤازرة الأنصار لهم إلى حدّ التوارث، ولكن عندما أعزّ الله الإسلام، وجمع شمله، وأذهب وحشته، وقويت أواصر العقيدة، أصبح التوارث بالقرابة والرحم فيما بين المسلمين، ولكن بقيت أواصر المودّة والموالاة بين المسلمين قويّة، بالرغم من كل المحاولات التي قام بها اليهود والمنافقين لزعزعة الاستقرار وإفساد ذات البَيْنِ فيما بين المهاجرين والأنصار.
موسوعة موضوع