ورد في القرآن الكريم ما يذكّر النّاس بفضل ربّهم ونِعمه عليهم، وكثُرت الآيات الكريمة التي عدّدت تلك الفضائل والإحسان، منها قول الله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ*قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، وقال أيضاً: (هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمسَ ضِياءً وَالقَمَرَ نورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعلَموا عَدَدَ السِّنينَ وَالحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلَمونَ)، وقال في خلق الحيوانات: (وَالخَيلَ وَالبِغالَ وَالحَميرَ لِتَركَبوها وَزينَةً وَيَخلُقُ ما لا تَعلَمونَ)، وبعد فيض النِّعم التي ذُكرت في القرآن جُملةً أو مُفصّلة قال: (وَإِن تَعُدّوا نِعمَةَ اللَّهِ لا تُحصوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ)، فنِعم الله -تعالى- على عباده عظيمة وجليلة لا يُحصيها من أراد ذكرها وتعدادها.
والله -تعالى- عدّد في كتابه الكريم النّعم التي أنعم بها على عباده، وأوجب الشكر عليها ومدح الشّاكرين وذمّ جحود النّعم وكفرانها، حيث قال: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، وقال أيضاً: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وأخبر الله -تعالى- عباده أنّهم محاسبون يوم القيامة عن كلّ نِعمة تقلّبوا فيها في الحياة الدّنيا، حيث قال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، فكان ذلك الإخبار حُجّة على الإنسان أنّه سيُسأل عن النّعم التي أوتيها في الحياة الدنيا.
ذكر الطبريّ في تفسير الآية الكريمة التي جاء فيها: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)، إنّ الله -تعالى- سيسأل الإنسان عن النّعيم التي أعطاه إيّاه في الدّنيا، واختلف العلماء في تفسير المقصود بالنّعم، على النحو الآتي:
والصحيح أنّ كلّ الأقوال تدخل في النّعيم الذي تنعّم به الإنسان في الدنيا، والله -تعالى- جعل لفظ النّعيم في الآية الكريمة لفظاً عاماً يشمل كلّ النّعم التي تمتّع بها الإنسان في حياته، وورد في سيرة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه خرج ذات مرّةٍ من بيته جائعاً فالتقى بعمر وأبي بكر رضي الله عنهما، فكان ما أخرجهما هو ما أخرجه للبحث عن الطعام، فمشوا جميعهم حتى وصلوا إلى بيت رجل من الأنصار يُضيفونه فرحّب بهم وفرح بهم، وجاء بعذق فيه بُسر وتمر ورطب وقدّمه إليهم، ثمّ ذبح لهم شاةً، فأكلوا من الشّاة والعذق، فلمّا شبعوا قال لهم الرّسول صلى الله عليه وسلّم: (والذي نفسي بيده لتُسأَلُنَّ عن هذا النعيمِ يومَ القيامةِ، أخرجَكم من بيوتِكم الجوعُ، ثمّ لم ترجِعوا حتى أصابَكم هذا النَّعيمُ).
وكان جابر -رضي الله عنه- إذا سُئل عن تفسير الآية يقول: هو المأكلُ والمشربُ، وقال غيره أنّ النّعيم هو شبع البطون أو الغداء والعشاء، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّ أولَ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ أنْ يقالَ لهُ: أَلمْ أَصِحَّ لكَ جِسْمَكَ، وأَرْوِكَ مِنَ الماءِ البارِدِ)، وقال القاضي عياض في شرح الحديث إنّ المراد بالسؤال عن الصّحّة والارتواء أنّها هل أوصلت إلى شكر الله -تعالى- والثّناء عليه، وإذا كان الإنسان مطالباً بشكر الله -تعالى- على نِعمه على البدن، فلا بدّ أن تكون المُطالبة بشكر نعم الرّوح والقلب بإنزال القرآن الكريم والهداية والتوفيق للطّاعات أولى بالشّكر ومعرِفة الفضل، فهي مِنّة من الله -تعالى- اختُص بها أهل الإيمان عن سواهم، وذكر الله -تعالى- أنّ الدين والإيمان هو نِعمة منه امتنّ بها على عباده حين قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
يحرص المسلم الذي عرف نِعم الله -تعالى- عليه وعرف واجبه بالشكر يحرص على أن يؤدّي شكر تلك النّعم على أكمل وجه، وأُولى تلك الخطوات الإكثار من الدّعاء لله -تعالى- أن يوفّق العبد لأداء الشّكر، وقد وجّه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه إلى سؤال الله -تعالى- أن يُعينهم على ذلك، إذ قال موصياً معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا معاذُ واللهِ إني لَأُحبُّك وقال أوصيك يا معاذُ لا تدَعَنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ أن تقول: اللهمَّ أَعِنِّي على ذِكرِك وشكرِك، وحُسنِ عبادتِك)، فكان التنبيه إلى أن يستعين المسلم بربّه -عزّ وجلّ- ليكون عبداً شكوراً لنِعمه وفضله، ويصل المسلم إلى غاية الشّكر بتحقيق أركانه كلّها، وهي: شكر القلب وشكر اللسان وشكر الجوارح، وفيما يأتي تفصيلها:
موسوعة موضوع