الهجر الشرعي من الوسائل النفسية في الدعوة

الكاتب: المدير -
الهجر الشرعي من الوسائل النفسية في الدعوة
"الهجر الشرعي من الوسائل النفسية
في الدعوة

 

الوسائل النفسية هي الوسائل التي تعتمد على تحليل النفس البشرية وسلوكياتها، وإثارتها، مع حسن استغلال التأثير البيئي والمؤثرات الواقعة على المدعو، فهي تركز على الكشف على دواخل النفس وأسرارها الخفية التي لا يمكن أن تعرف إلا من خلال خالق النفس، حيث شرح أحوالها في القرآن، ووضع أسساً لكل أنواع النفوس البشرية، في تنوع عام لا تخرج عنه نفس أي فرد من الناس.[1]

 

والدعوة الإسلامية تسعى من خلال الوسائل النفسية، إلى ضبط السلوك بعد تعديله والتحكم فيه ورعايته، ثم محاولة التنبؤ وتخمين ما يؤدي إليه هذا السلوك الصادر من هذا الشخص، ما ضرره أو مصلحته، فعلى الداعية أن يتابع المدعوين حتى يستطيع معرفة السلوك وعوامل انحرافه، ثم يراقب نتيجة العلاج، ويتعهد الداء لكيلا ينبت مرة أخرى بسبب مؤثرات البيئة.

 

ومن المهمات النفسية المفيدة في الدعوة، مراعاة الفروق الفردية بين المدعوين، ودراستها ومعرفة تأثير ذلك في سلوكهم ونفسياتهم[2].

 

كذلك معرفة الدوافع النفسية التي تصد عن الحق، والعوامل التي غرست هذه الدوافع، في عقولهم وقلوبهم، سواء أكانت دوافع عقدية أم سلوكية أم فكرية،[3] يلي ذلك البحث عن أفضل سبل العلاج.

 

ومن الوسائل النفسية التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء غزوة الفتح، ما يلي:

الهجر:

إذا أطلق الهجر الشرعي فإن المراد به نوعان، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

الأول: ترك المنكرات وعدم شهودها، كما في قوله تعالى: ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ? [الأنعام: 68] [4]، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه))[5].

 

والثاني: العقوبة عليها على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حتى أنزل الله توبتهم[6].

 

وهو أيضا ضرب من ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[7]، فإن الهجر إعلان من المسلم عن سخطه وبغضه للمعصية، ولفعلها ولفاعلها على قدر هذه المعصية[8]، كما أن فيه تعليما وتبليغا لمن حوله من الناس بالمخالفات الشرعية، وإيحاء لهم بأهمية إنكارهم هم أنفسهم على صاحب المنكر.

 

وهجر من جهر بالمعاصي وأعلنها، سنة سواء أكانت معاصي قولية أم فعلية أم اعتقادية[9]، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية رضي الله عنهما، لما تلقياه في الطريق، قبل أن يدخل مكة، فانزعج النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنهما، لأنه بدت منهما أمور في أذيته صلى الله عليه وسلم، فتذلل له أبو سفيان حتى رقَّ له صلى الله عليه وسلم ثم أسلما[10]، وكذلك إعراضه عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه وهو نوع من هجره لعظم ذنبه وردّته عن الإسلام، ثم عفا عنه أيضا صلى الله عليه وسلم .

 

مميزات أسلوب الهجر:

1- أنه لا بد للداعية فيه من مراعاة المصلحة المترتبة عليه، وترجيح تحققه عنده، لأن المقصود إصلاح المدعو، وإلا تحول الداعية إلى غيرها من الوسائل.

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله عن ذلك: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر)[11].

 

2- مراعاة اختلاف المدعوين ونفسياتهم، فوسيلة الهجر ليست نافعة مطلقا مع أي إنسان، بل إن بعض الناس قد ينفر منها أكثر، بينما ينتفع بالتأليف واللين والرفق أكثر من انتفاعه بالشدة والهجر، وهذا يستلزم البصيرة من الداعية والخبرة بنفوس البشر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، والثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من كثير من المؤلفة قلوبهم، ولكن لما كان أولئك سادة مطاعون في عشائرهم، كانت المصلحة الدينية في تألفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم[12].

 

3- لا بد في الهجر من الإخلاص لله تعالى، لأنها من الأعمال التي أمر بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرا غير مأمور به، كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله، وليس كذلك، فينبغي للداعية أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه، فالأول مأمور به، والثاني منهي عنه، وذلك لأمرين:

الأمر الأول: أن الهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز لأكثر من ثلاثة أيام، كما جاء في الصحيحين : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[13].

 

الأمر الثاني: أن الهجر من العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لتكون كلمة الله هي العليا، والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله، فيوالي المؤمن وإن ظلمه لأن الظلم لا يقطع الموالاة، ويعادي الكافر وإن أعطاه وأحسن إليه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطنتهم أعداء الشريعة)[14].

 

4- وسيلة الهجر تقتضي أن يكون المنكر ظاهرا ومعلوما عند مرتكبه أنه منكر، وذلك يستلزم تعريفه بالمنكر، ونصحه قبل هجره، يقول الإمام أحمد رحمه الله :( إذا علم أنه مقيم على معصية وهو يعلم بذلك، لم يأثم - يعني الهاجر - إن هو جفاه حتى يرجع ، وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكِرا ولا جفوة من صديق)[15].

 

5- إن هجر الداعية للكافر أو للفاسق، يبعده عن الوقوع في المداهنة المنهي عنها، فالداعي إذا لم يتمكن من تغيير المنكر، فإن هجره مرتبة من مراتب الإنكار المؤثرة، لأن صاحب المنكر قد يشعر بخطيئته، وعظم أمرها عند من ينكر عليه، فيدعوه ذلك إلى تركها.

 

وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم من تمكن من هجر صاحب المنكر- بعد نصحه- ولم يفعل، ووعده بالعقاب، فقال: (إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة، فنهاه الناهي تعزيراً، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره بالأمس على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)[16].

 

وفي سكوت الداعية ومداهنته خطر عظيم عليه هو ذاته، وعلى من حوله من المسلمين، إذ أن مخالطتهم لصاحب المنكر - دون إنكار عليه - يؤدي إلى اعتيادهم على رؤية المنكرات وإضعاف حس الإنكار لديهم ، مما يؤدي إلى ضعف إيمانهم وقلوبهم[17]، وقد يقع هو ذاته في المعصية، ففي هجرهم له حماية وصيانة من الوقوع في الإثم.

 

6- أن الهجر أنواع: فمنه ما يكون كلية كهجر الكفار، ومنه ما هو هجر كلي لمدة مؤقتة حسب ما تقتضيه مصلحة صلاح المدعو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الثلاثة الذين خلفوا، وكما فعل مع أبي سفيان وعبد الله بن أبي أمية[18].

 

ومنه ما هو هجر جزئي كالهجر في بعض جوانب التعامل فقط، مثل هجر الزوجة في المنام لتأديبها[19].




[1] بتصرف، علم نفس الدعوة: د. محمد زين الهادي من ص 79- 82.

[2] بتصرف، المرجع السابق من ص 93- 94. وقد سبق الحديث عن هذه الجزئية راجع مبحث مراعاة المدعوين.

[3] سبق الحديث عن ذلك في مبحث أسباب الصدود عن الحق.

[4] سورة الأنعام جزء من آية 68.

[5] صحيح البخاري كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 1/ 9.

[6] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 28/ 203.

[7] انظر درجات تغيير المنكر ص 36.

[8] بتصرف، حقيقة الولاء والبراء في معتقد أهل السنة والجماعة: سيد سعيد عبد الغني ص 535.

[9] بتصرف، الآداب الشرعية والمنح المرعية 1 /258.

[10]انظر سير أعلام النبلاء 1/ 203.

[11] الفتاوى: ابن تيمية 28/ 206. وانظر حقيقة الولاء والبراء سيد عبد الغني ص 541.

[12] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 28/ 206.

[13] صحيح البخاري كتاب الأدب باب الهجرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث 7 /91، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي 4 /1984 ح 2560 واللفظ له.

[14] الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 268.

[15] المرجع السابق 1/ 258.

[16] أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني ورجاله ورجال الصحيح 7/ 269 وروى نحوه أبو داود في سننه كتاب الفتن باب الأمر والنهي 4 /120 ح 4336، وذكر المنذري أن الرواية منقطعة، وقال: وأخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجه مرسلا. انظر مختصر سنن أبي داود 6 /186 ح 4169.

[17] وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم القلب الذي يقبل الفتن ويتشربها بأنه ( أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا). سبق تخريجه ص 298.

[18] وذلك عندما قدما عليه أثناء مسيره إلى مكة، فأعرض عنهما.

[19] بتصرف، درجات تغيير المنكر ص 42- 43.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook