الوعظ العملي

الكاتب: المدير -
الوعظ العملي
"الوعظ العملي




العامة وأشباه العامة هم سوادُ الأمَّة الأعظم، ولهم على الخاصة - لا سيما العلماء والرؤساء - حقوقٌ وواجبات، ولعل أخصَّ هذه الحقوق ذِكرًا، وأمسَّها حاجة، هي الهداية إلى الخير، والقيادةُ إلى الحق، وضرب المُثُل العليا في مكارم الأخلاق وجلائلِ الأعمال، ولن يكون ذلك إلا إذا كان الخاصةُ أنفسهم أسوةً حسنة وقدوة صالحة، فقد شهِدت التجارِب أنه لا خيرَ في أمرٍ لا يصحبه ائتمار، ولا في قول لا يؤيده فعلٌ.

 

قيل لعبد الواحد صاحب الحسن: بأيِّ شيء بلغ الحسنُ فيكم ما بلغ، وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقال: إن شئتَ عرَّفتُك بواحدة أو باثنتين، فقلت: عرِّفني بالاثنتين، فقال: كان إذا أمر بشيءٍ أعمَلَ الناسِ له، وإذا نهى عن شيء أترَكَ الناسِ له، قلت: فما الواحدة؟ قال: لم أرَ أحدًا قط سريرتُه أشبهُ بعلانيته من الحسن.

 

وورد أعرابي البصرة، فقال: مَن سيد هذا المصر؟ قالوا: الحسن بن أبي الحسن، قال: فبماذا ساد أهلَه؟ قالوا: استغنى عما في أيديهم من دنياهم، واحتاجوا إلى ما عنده من أمر دينهم، فقال الأعرابي: هكذا فليكن السيد حقًّا.

ويروى أن عمر الفاروق رضي الله عنه كان يقول لبَنيه: الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطيرُ إلى اللحم.

 

وما لنا نذهب بعيدًا، وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل التراب على ظهره الشريف في حفر المسجدِ الذي بناه أولَ مَقْدَمِه إلى المدينة، وكان يشارك أصحابه في حفرِ الخندق وحراسته، وأمر أصحابَه أن يحلُّوا من عمرتهم بالحلق أو التقصير في صلح الحديبية، فشق ذلك عليهم؛ لما رأوا في شروط قريشٍ من القسوة البالغة؛ حتى تباطؤوا في تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا بالحلاقِ وحلق، فتبِعوه كلُّهم، إلى غير ذلك من المثل العليا، وصدق الله إذ يقول: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? [الأحزاب: 21].

 

وللقدوة الصالحة تأثيرٌ رائع، وهداية عجيبة في تثقيف الطباع وتهذيبِ النفوس، ونحن نُشاهِد أن الطفل الذي ينشأ بين أبوينِ صالحين يحاكيهما ويسير على نهجهما، كما أنه إذا نشأ بين أبوين طالحين، أو في بيئة منحطة، تأثرت تربيته تأثرًا واضحًا.

ولا عجب إذ رفعت القدوةُ الصالحة أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم من رعاة أغنام، إلى ساسة عظام، فملؤوا الدنيا عدلًا، ونشروها علمًا.

وما أشبه العامة والخاصة بالأبناء والآباء، يقلِّدونهم ويجارونهم، ويرَون أن الحسن ما استحسَنوه، والقبيح ما تركوه، غير آبهين بأمرٍ لم يؤتمر، ونهيٍ لم يُجتنب.

 

وربما كان إثم مَن يقول ما لا يفعل أشدَّ وأعظم؛ ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ? [الصف: 2، 3].

حقٌّ على العالم أن يكون قدوةً حسنة للمتعلمين، وعلى الرئيس أن يكون مثلًا حيًّا للمرؤوسين، ((وكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).

قلت لصاحبي: ما بال الناس يتجاورون ولا يتزاورون؟ وها نحن هنا في الحي أنفنا على العام ولما نجتمع مرة واحدة!

قال: إن الدنيا قد شغلت الناس وأَلْهَتهم عن هذا الواجب، خلاف ما عهدنا أيامَ الآباء والأجداد.

قلت له: إن الطبائع مختلفة، والتقليد - قاتله اللهُ - هو الذي جرَّ على الناس هذا البلاء.

 

وإذا كان حقًّا على معلم الناس ومؤدِّبهم أن يبدأ بنفسه فيقومها، فإن حقًّا واجبًا على الخاصة إذا أرادوا إصلاح العامة، أن يعالجوا أنفسَهم، وأن يصلحوا شؤونهم، ولا عليهم بعد ذلك إذا لم يعظوا ولم يتكلَّموا، فإن هذا هو الوعظ الصامت، والهَدْي العملي، وهو خيرٌ عاقبةً وأحسن تأويلًا.

 

وإن مِن الظواهر السيئة، والعادات البغيضة التي تجافي الدينَ والخلق، والعقل والحكمة، والتي جرفت بتيَّارها القوي كلَّ الناس على سواء، حتى لا منجاة لأحد منها ولا فكاك: عادةَ التكلف الممقوت، والظهور الكاذب، وتطلع كلٍّ إلى مَن هو فوقه مالًا ودنيا، وحظًّا وجاهًا.

 

وأعجبُ العجَب أن الناس جميعًا يشكون منها مرَّ الشكوى، ويَألَمون أشدَّ الألم، ولا يفكرون في الخلاص منها والتغلب عليها.

تغلغلت هذه العادة المقيتة في جميع مظاهرنا وحاجاتنا؛ من ملبس، ومطعم، ومشرب، ومسكن، إلى غير ذلك مما ننوء به حملًا.

وفي الحق إنها لطاقة كبرى لا يجدي فيها العظة والتذكير، ولا ينفع فيها إيعاد ولا تهديد، وكيف والواعظ مغمورٌ في تيارها، وواقع في شَرَكِها؟ وفي شهر رمضان كثير من هذه المظاهر التي تنافي حكمة الصيام.

 

وما أكثر التكلُّف والتكليف في الاستعداد للعيد، وختام هذا الشهر بالديون الطاغية، فواجب الخاصة أن ينبذوا التكلفَ والتقليد جانبًا، والمرهِقات البالغة، ويسيروا على منهج الحكمة والسداد، وأن يأخذوا العامة في كلِّ شأن من شؤونهم، وفي كل ناحية من نواحيهم بالمُثُل العليا، والهداية القويمة، وأن يذكروا دائمًا قولَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((صِنفانِ مِن أمتي إذا حلُموا حلُم الناس، وإذا فسَدوا فسَد الناس: العلماء، والأمراء)).


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook