الوعظ المباشر

الكاتب: المدير -
الوعظ المباشر
"الوعظ المباشر




أن يقابل الواعظ الموعوظين، ويخاطبهم وجهاً لوجه، فيبين لهم حقيقة ما يعظهم إليه، وفضائله، وثمراته الطيبة المشهودة، والموعودة أعظم أثراً وأقرب إلى تحقيق المقصود من الموعظة.

 

وميزة هذا النوع: أن الواعظ يعرف مدى قبول الموعوظين، وانشراح صدورهم للموعظة من ملامح وجوههم ليعاملهم بما تقتضيه حالهم، ويتمكن من المحاورة بينهم وبينه حتى يصل بهم إلى حال القبول والاقتناع[1].

 

1. من مواعظ النبي - صلى الله عليه وسلم -:

لقد أكثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموعظة المباشرة في وعظه لصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، ومما يدل على ذلك ما جاء عن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه - قال: كنا في جَنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد، وقعدنا حوله، ومعه مخصرة[2] فنكس[3] فجعل ينكت[4] بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة[5] إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد تب شقية أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة.

 

وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة. ثم قرأ ? فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ? [الليل: 5][6] [7].

 

وقد سار على ذلك سلف هذه الأمة المباركة وإلى وقتنا المعاصر في الاهتمام بالمواعظ المباشرة من خلال خطب الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والمحاضرات التي تلقى في المساجد، وغيرها مما له الأثر البليغ في الموعوظين.

 

2. مواعظ الصحابة رضي الله عنهم:

أ/ موعظة سلمان الفارسي لأبي الدرداء - رضي الله عنهما -:

عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: آخى النبي - صلى الله عليه و سلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة[8] قال لها: ما شأنك؟. قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل، قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا. فقال له سلمان: إنَّ لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً؛ فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: صدق سلمان [9].

 

ب/ موعظة علي بن أبي طالب للفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -:

قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: ( عظني يا أبا الحسن قال: لا تجعل يقينك شكاً، ولا علمك جهلاً، ولا ظنك حقاً، واعلم أنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت، فأمضيت، وقسمت فسويت، ولبست فأبليت. قال: صدقت   يا أبا الحسن) [10].

 

3. مواعظ السلف الصالح - رحمهم الله تعالى -:

قال عمرو بن ميمون بن مهران - رحمهما الله تعالى -: (خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول فلم يستطع الشيخ يتخطاه، فاضطجعت له، فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده، فدفعنا إلى منزل الحسن البصري، فطرقت الباب، فخرجت جاريةٌ سداسيةٌ، فقالت: من هذا؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن. فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم. قالت: يا شقي، ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء؟ قال: فبكى الشيخ، فسمع الحسن بكاءه، فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد، إني قد أنست من قلبي غلظةً فاسللن لي منه. فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم ? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ? [الشعراء: 205- 207] [11] . قال: فسقط الشيخ، فرأيته يفحص برجله كما تفحص الشاة المذبوحة؛ فأقام طويلاً، ثم أفاق؛ فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا. فأخذت بيد أبي فخرجت به، ثم قلت: يا أبتاه، هذا الحسن؟ قد كنت أحسب أنه أكبر من هذا قال: فوكز في صدري وكزةً، ثم قال: يا بني، لقد قرأ علينا آيةً، لو تفهمتها بقلبك لألفيت لها فيه كلوماً) [12].

 

 

من خلال ما سبق تبين: أن الموعظة المباشرة كانت من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهدي صحابته الكرام - رضي الله عنهم - وهدي السلف الصالح - رحمهم الله تعالى -، وقد كان لها الأثر الحسن في ترقيق القلوب القاسية، وتنبيه العقول الغافلة، والزهادة في الدنيا، والإقبال على الآخرة. فتراهم عند الوعظ سرعان ما ينقادون إلى الحق طواعية من غير إكراه.

 

فالناس بحاجة إلى المواعظ التي تأسر قلوبهم، وتؤثر فيها، ومن ثمَّ تلين جلودهم، وتطمئن نفوسهم إلى ذكر الله تعالى، وما نزل من الحق.




[1] رسالة في الدعوة إلى الله، محمد بن صالح العثيمين، ص: 13، ط 1424هـ، مدار الوطن للنشر، الرياض. (بتصرف يسير).

[2] مِخْصَـرة هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لما يريد وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للإتكاء عليها. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 11/ 496.

[3] فنكّـس أي اطرق. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 11/ 496.

[4] أي الضرب المؤثر في الأرض. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 10/ 597.

[5] أي مصنوعة مخلوقة. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 11/ 496.

[6] سورة الليل، آية: 5.

[7] رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله، 1/ 458، رقم الحديث ( 1296).

[8] معنى ( متبذلـة) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة، والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 4/ 210.

[9] رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، 2/ 694، رقم الحديث ( 1867).

[10] تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل، لابن عساكر، 42/ 493-494.

[11] سورة الشعراء، الآيات: 205، 206، 207.

[12] تاريخ الرقة ومن نزلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والفقهاء والمحدثين، أبو علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن القشيري الحراني، تحقيق: إبراهيم صالح، ص: 47-48، ط1، 1419هـ1998م، دار البشائر، بيروت.


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook