الوفاء للشيوخ والعلماء

الكاتب: المدير -
الوفاء للشيوخ والعلماء
"أزمات تعصف بالأمة
مشاكل وحلول مقال رقم (?)
الوفاء للشيوخ والعلماء




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أما بعد:

فأعتقد أننا نعيش اليوم أزمةً في الوفاء عمومًا:

أزمة في الوفاء مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أزمة في الوفاء مع زوجاتنا وذرياتنا، أزمة في الوفاء مع آبائنا وأمهاتنا، أزمة في الوفاء مع إخواننا وأرحامنا، أزمة في الوفاء مع مساجدنا ووظائفنا، ومنها أزمة في الوفاء مع علمائنا ومربِّينا، والذي دفعني إلى الكلام عن هذه الأزمة أن بعض أهل السنة - وخاصة في العراق - اليومَ يعتقدُ أن سبب النكسة هم العلماء، فجفاهم وقسا عليهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر رأيت عندما تُوفِّي شيخُنا العلامة الشيخ مكي رحمه الله، تتسابق المنشورات بالتعزية والدعاء والحزن، ولكن سَرعان ما غابت هذه المنشورات عن الصفحات! وهنا أسأل: هل غيابُها عن الصفحات يعني غيابَها عن القلوب واللسان؟!

 

وهذا الحال مع كل العلماء الأحياء والأموات، فأردت في هذا المقال أن أبيِّن حقوق المشايخ والعلماء على طلابهم ومَن تعلَّم منهم، ومَن استمع إلى خُطبهم ومواعظهم، وفاءً منا لهم؛ إذ الوفاء خُلُق الأتقياء، وتاج الأصفياء، يتمسك به الأوفياء، ويَجحده الجهلاء، يتحلى به الفضلاء والنُّبلاء أمثالكم، ويتخلى عنه الأراذل والأغبياء، ولا يعني أني أَخصُّ كلَّ مَن لبس عمامةً أو ارتقى مِنبرًا، أو انتسب مظهرًا - لا حقيقةً - للعلماء، ممن غرَّتهم الأموال ولعِبت بهم الأهواء، وإنما أخص طلبةَ العلم العاملين والخطباء الثابتين والمخلصين، والشاعر يقول:

عِشْ ألفَ عامٍ للوفاءِ وقلَّما *** ساد امْرؤٌ إلا بحفظِ وفائِهِ

 

ولستُ في مَعرِض الدفاع عن موقفٍ أو التبرير لحدث، وإنما لبيان واجبنا تجاه مَن تعلَّمنا منهم واستمعنا لمواعظهم وصَحِبناهم؛ لأنهم الأَدِلَّاء إلى الله، وهم ورثةُ نبيه صلى الله عليه وسلم، فأقول:

1- الدعاء لهم بظهر الغيب، وهذا من أعظم عُرى الوفاء لهم؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: (ما صليتُ منذ مات شيخي حماد، إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لأَستغفر لمن تعلَّمت منه علمًا أو علَّمته علمًا).

وقال أبو يوسف رحمه الله: (إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أَبوَيَّ).

وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ما بتُّ منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له)، والنماذج كثيرة.

 

2- الصبر على ما يَصدر منهم، فإذا ما رأى أحدُنا من شيخه أو إمام مسجده ما يَكرَهه، أو يعدُّه عيبًا - فعليه أن يَصبِر عليه، وأن يَحفظ له حسناته الأخرى؛ قال الشيخ عبدالقادر الكيلاني رحمه الله: (لا تَهرُبوا من خشونة كلامي، فما ربَّاني إلا الخَشِنُ في دين الله عز وجل، ومَن هرَب مني ومن أمثالي ... لا يُفلح).

 

وقال أحد السلف: (مَن لم يَحتمِل ذلَّ التعلُّم ساعةً يَعِش في ذُل الجهل أبدًا).

وقال آخر: (لا يَمنعكم سوءُ ما تعلمون منا أن تَقبَلوا أحسنَ ما تسمعون منا).

وقال آخر: مَثَل الذي يغضب على العالم مَثَل الذي يغضب على سواري الجامع.

 

وقال آخر:

إن المعلمَ والطبيبَ كليهما
لا يَنصحان إذا هما لم يُكرَما
فاصْبِرْ لدائك إنْ جفوتَ طبيبَهُ
واقنَعْ بعلمِك إنْ جَفوتَ مُعلِّمَا

 

3- التوقير والاحترام لهم، من غير غُلو ولا إطراء؛ يُذكر أن الناس كانوا في مجلس ابن مهدي رحمه الله لا يتحدَّث أحد منهم في مجلسه، ولا يبري قلمًا، ولا يقوم، كأنهم على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة هيبةً واحترامًا له.

وقال الربيع تلميذ الشافعي رحمهما الله: (والله ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له).

وقال الإمام أحمد رحمه الله: (لزمتُ هشيمًا أربع سنين ما سألتُه عن شيءٍ إلا مرتين هيبةً له).

 

4- الحذر من التسقيط والتجريح، وهذا مرضٌ أُصيب به بعضُ المسلمين، تسقيط المشايخ وعدم الاعتداد بعلمهم وفتواهم لهفوةٍ أو موقف، وقد تُنسب لهم هذه الهفوات زورًا وبهتانًا؛ كان الشافعي رحمه الله يقول: (الحر مَن راعى وِداد لحظةٍ، وانتمى لمن أفاده لفظةً).

 

وكان محمد بن واسع رحمه الله يقول: (لا يبلغُ العبدُ مقام الإحسان حتى يُحسنَ إلى كل مَن صحِبه، ولو ساعة)، وكان رحمه الله إذا باع شاةً يُوصِي بها المشتري، ويقول: (كان لها معنا صُحبة).

 

5- التثبُّت في النقل عنهم وإليهم، فلا يَحل لطالب العلم أن ينقلَ إلى شيخه ما يُوغِر الصدر ويثير النفس، ويَزرع البُغض، وعليه أن يتثبَّت في النقل عنه، فلا ينقل عنه كل ما سمِعه من شيخه، وإن الشيخ قد يخصُّ تلاميذه وطلابه ببعض الأمور التي لا يريد أن يطَّلع عليها غيرهم، وعليه أن يتذكَّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع)).

 

6- الذب والدفاع عنهم بحقه، وهذا مِن حق الشيخ على طلابه ومُستمعيه أن يدافعوا عنه، ويرفضوا ما يُنسَب إليه مما لا يَصِح عنه، أو لا يليق بأمثاله؛ ففي الحديث: ((مَن ذبَّ عن عِرض أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يَعتقه من النار))، هذا الفضل لمن ذبَّ عن مسلم، فكيف بمن ذَبَّ عن ورثة الأنبياء، وهم العلماء وطلبة العلم.

 

7- إقالة عثراتهم، وعدم نشر زَلاتهم، وهذا من الواجب على الطالب أن يغفر زَلة شيخه ولا يَنشرها، لذلك قيل: زلاتُ العلماء تُطوَى ولا تُروى، ولا نُقلدهم فيها؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (ويل للأتباع مِن عثرات العالم، قيل: كيف؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد مَن هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يَمضي الأتباع).

 

قال سلمان التيمي: (لو أخذتَ برُخصة كلِّ عالم، اجتمَع فيك الشرُّ كله).

وختامًا يقول الأصمعي رحمه الله: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل وعهدَه، فانظر إلى حنينه لأوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.

 

فما هي إلا كلمة أقولها اعترافًا بالتقصير لمشايخنا، وسبيلًا للتذكير لإخواننا، واستشعارًا لهموم أوطاننا؛ عسى الله عز وجل أن يرزقنا الوفاء لمشايخنا وعلمائنا الأحياءِ منهم والأموات، وأن يغفر لنا ما مضى، ويُكرمنا بالاستقامة فيما بقِي، وأن يَمُنَّ علينا بحُسن الخاتمة، اللهم آمين!

 


"
شارك المقالة:
25 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook