بدايات الاستيطان بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.
تؤرخ الدراسات العلمية المعاصرة لبداية الاستيطان في الجزيرة العربية - حسب ما كشف حتى الآن من أدلة أثرية مادية - لأقدم مراحل العصر الحجري القديم ، مستدلة في ذلك بما كشف عنه علم الآثار من مستوطنات في شمالي المملكة العربية السعودية وجنوبيها، تلك المواقع التي أكدت وجود تجمعات بشرية تمكنت من صقل تجاربها الطويلة واستطاعت تسخير البيئة في صناعة أدوات حجرية يعدها المختصون من أقدم ما عرفته البشرية من تقنية في صناعة الأدوات الحجرية
إن المنطقة بتنوع تضاريسها وتوفر مصادر المياه فيها آنذاك، كانت مصدر جذب للعنصر البشري منذ أقدم مراحل الاستيطان البشري في الجزيرة العربية ، ولكن بسبب قلة الأبحاث العلمية المنظمة عن المنطقة، وتعرض كثير من أدلة تلك العصور - نظرًا لتقادم زمنها - للضياع والاندثار لم تُسجَّل سوى مواقع تعود إلى العصر الآشولي الأوسط نحو 250 ألف سنة قبل الوقت الحاضر، جاءت من مواقع متفرقة في حرة خيبر، وبالقرب من العلا، وتمثلت في مجموعات من الأدوات الحجرية المتنوعة كالفؤوس، والقواطع والمعاول ذات الأسطح الثلاثية، وأدوات الطرق ، وهذه الأدوات من بين الأدوات التي وظفها إنسان المنطقة في بعض جوانب اقتصاده المعيشي خلال تلك الحقبة الزمنية، وعلى ما يبدو في ضوء الاكتشافات الأثرية المعاصرة أن استيطان الإنسان استمر في منطقة خيبر، خصوصًا على ضفاف الأودية وبالقرب من سفوح الجبال التي عُثر فيها على عدد من المصنوعات الحجرية من بينها الأنصال والشفرات والمكاشط والأزاميل، وتميزت بتقنية عالية في الصنع، كما تظهر عليها سمات تقنية صناعة العصر الحجري الأوسط، ما يعني أن إنسان المنطقة كان مستقرًا ومتعايشًا - آنذاك - مع بيئته، ويسعى إلى تطوير أدواته مستفيدًا من التراكمات الحضارية وتجاربه المستمرة في محيطه البيئي في منطقة المدينة المنورة.
استمر إنسان المنطقة في توظيف موارد بيئته فيما يخدم تطوير سبل معاشه مستفيدًا من ذلك التحسن المناخي الذي طرأ على المنطقة خلال العصر الحجري الحديث (نحو عشرة آلاف سنة قبل الوقت الحاضر) الذي نتج منه تحول تدريجي نحو الجفاف، ما جعل التجمعات السكانية في أرجاء المنطقة تلجأ إلى التجمع حول مناطق تتوفر فيها مصادر المياه، ما أدى إلى نمو المجتمعات السكانية وإلى قيام ما يمكن أن يطلق عليه بداية نشوء المستوطنات السكانية، ويمثل ذلك ما كشف النقاب عنه على ضفاف وادي الغرس في حرة خيبر من منشآت معمارية تمثلت في سلسلة من الجدران المنخفضة، وما ينتشر فيها من مجموعة متنوعة من المصنوعات الحجرية كالمكاشط الصوانية والرُّحي والرقائق الحجرية المشحوذة الوجهين.
ويتجسد نشاط إنسان المنطقة خلال العصر الحجري الحديث بشكل واضح في تلك المنشآت المعمارية التي جاءت على هيئة دوائر حجرية ومذيلات تنتشر بشكل واسع ومكثف في حرة خيبر وفي حرة عويرض وعلى قمم الجبال وفي سفوحها، كما هو متمثل في تلك الدوائر الحجرية في جبل عير جنوبي المدينة المنورة، وفي الجهة الغربية من جبال البيضاء في الأجزاء الشمالية من المدينة المنورة، أو على ضفاف الأودية كتلك المنشآت المعمارية في وادي العقيق ووادي الغرس
وتشير مواقع العصر الحجري الحديث المكتشفة حتى الآن في المنطقة إلى أن ثمة تحولاً طرأ على أسلوب حياة الإنسان في المنطقة تمثل في ازدياد عدد سكانها، وقدرته على استغلال موارد البيئة في جمع القوت وبناء المنشآت المعمارية، وتحسن ملحوظ في تقنية صناعة أدواته الحجرية، ما مهد لنشوء المستوطنات التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة البدائية والصيد، ومع استمرار حركة التطور الثقافي لإنسان المنطقة تمكن من تدجين كثير من النباتات والحيوانات، ما كان له الأثر الواضح في تعزيز الاستقرار ونشوء المستوطنات والقرى والبلدات في المنطقة، وتزامن ذلك مع تزايد في وعي إنسان تلك الفترة الزمنية؛ فكثير من الرسوم الصخرية المنتشرة في أرجاء متفرقة من المنطقة، خصوصًا تلك العائدة للعصر الحجري الحديث ، تشهد أن إنسان المنطقة كان يسعى نحو تطوير سبل حياته، ما انعكس بدوره على تطور ملموس في فكره الديني والاجتماعي، ومهد لانتقاله من عصر ما قبل التاريخ إلى عصر ما يمكن أن يطلق عليه اسم عصر نشوء الحضارات القديمة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، تلك الفترة التي شهدت أنماطًا من التنظيمات الاجتماعية تبلورت في ظهور زعامات أو مشيخات تتولى إدارة شؤون التجمعات السكانية وتنظيمها، وشهدت هذه الفترة أيضًا تطورًا في المعتقدات الدينية، وتزايدًا في حركة الاتصال بين مناطق التجمعات السكانية، ما أدى إلى إثراء التجربة الإقليمية وظهور ملامح التأثير والتأثر بين المدن والقرى في الجزيرة العربية مع بلاد الشام والرافدين ومصر، وانعكس على تقدم في مجريات التطور الثقافي لإنسان المنطقة عبر مسيرة حياته الطويلة، الأمر الذي مهد لدخوله في مرحلة جديدة تبلورت خلال نهاية الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد، وظهرت نتائجها في نشوء الأنظمة السياسية ذات التركيبة المعقدة وفق مقاييس تلك الفترة.
وهكذا استطاع إنسان منطقة المدينة بفضل استغلاله الأمثل لمخرجات بيئته المحلية وتفاعله معها أن يسير من خلال نسق حضاري متجانس ومتدرج نحو التطور والارتقاء بمفاهيمه الفكرية والاجتماعية من عصر إلى آخر، بدأت ملامحه تتراءى بشكل واضح مع مطلع الألف الأول قبل الميلاد، حينما تمكن إنسان المنطقة من الانتقال من عهد المشيخة القبلية إلى عصر جديد تبلورت من خلاله مفاهيم الفكر السياسي، وأفضى إلى ما يمكن للمرء أن يسميه عصر الممالك العربية القديمة، وقد شهدت المنطقة خلال ذلك العصر قيام ممالك متتابعة ذات نظم سياسية تعتمد على توارث الحكم من الأب إلى الابن، ومن تلك الممالك العربية القديمة التي سادت في منطقة المدينة المنورة مملكة دادان، ومملكة لحيان، ومملكة الأنباط.
لم تتضح بعد - بسبب قلة الدراسات الآثارية والتاريخية في المنطقة - ملامح التكوينات السياسية التي سادت في المنطقة قبل الألف الأول قبل الميلاد؛ فالدراسات العلمية لم تقف حتى الوقت الراهن على أسماء الممالك والتنظيمات السياسية خلال تلك الفترة، هذا على العكس من الخلفية التاريخية عن المنطقة خلال الألف الأول قبل الميلاد وما يليه، إذ أمكن التعرف على أسماء عدد من الممالك والدويلات التي سيطرت على المنطقة أو أجزاء منها