بدايات الاستيطان بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 بدايات الاستيطان بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

 بدايات الاستيطان بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
ارتبط ذكر هبوط آدم صلى الله عليه وسلم على الأرض بمنطقة مكة المكرمة على أكثر من وجه، فلقد ورد في الأثر أنه أهبط بين مكة المكرمة والطائف أو على جبل الصفا  ،  في حين قيل كذلك باحتمالية وجود قبره في أحد أخشبي مكة المكرمة، وتحديدًا في الأخشب الشرقي أو جبل أبي قبيس شرقي الصفا، وهو ذلك الجبل الذي كانت له مكانة كبرى في الجاهلية، إذ كان أحد مواضع التنسك والاعتكاف، ودعي كذلك بالأمين لما روي من أن الحجر الأسود كان مستودعًا فيه حتى حينن
تميزت منطقة مكة المكرمة في عصورها القديمة بمظاهر طبوغرافية متنوعة تراوح بين السهول والأودية الجارية والجبال، كما تمتعت أيضًا بمواسم أمطار وفيرة، ما انعكس على الغطاء النباتي للمنطقة آنذاك، وأسهم في جعلها مصدر جذب للإنسان والحيوان خلال تلك العصور المبكرة، إذ تؤكد الدراسات الأثرية الحديثة أن المنطقة شهدت منذ أقدم العصور استيطانًا مبكرًا لجماعات سكانية كبيرة نسبيًا، مارست أنشطة حياتية ومهارات صناعية متنوعة دلت عليها بقايا أدواتهم الحجرية منذ ما يزيد على ربع مليون عام مضت  .  ويعد موقع وادي فاطمة بالقرب من ساحل البحر الأحمر بجوار جدة، وموقع جبل العرفاء في الطائف، وكذلك الجبال المطلة على منطقة بحرة  ،  من أبرز المواقع الدالة على وجود استيطان جماعي في المنطقة منذ ما يقرب من 250.000 عام قبل الوقت الحاضر
وتدل الأدوات الحجرية التي عثر عليها في تلك المواقع على اعتماد الجماعات التي كانت تسكنها على صيد البحر وطعامه من ضمن أنظمتها الغذائية، وكذلك ممارسة الأنشطة الحياتية والمهارات اليدوية والأشغال البدائية باستخدام الخشب والعظم 
ويطرح العثور على بعض الأدوات التي تعود إلى الصناعة الألدوانية في شمال المملكة وجنوبها   قضية هجرة بعض سلالات الإنسان القديم من منطقة أخدود أولدفاي في تنـزانيا وشرق إفريقية إلى القارات الأخرى
ويتجه كثير من الآراء إلى أن الإنسان في هجرته تلك قد سلك طريقين: أولهما عبر النيل حتى سيناء ومنه إلى شمال الجزيرة العربية، والآخر عبر مضيق باب المندب إلى جنوب الجزيرة العربية  ،  ثم منه شمالاً. وإذا كانت الأدوات الألدوانية من منطقة الشويحطية قرب سكاكا في شمال المملكة تعطي دلائل على الطريق الأول، فإن نوعية الأدوات نفسها من نجران في الجنوب تعطي الدلائل على المسار الثاني. وفي ضوء ذلك لا يستبعد أن إنسان هذه المرحلة قد توقف واستوطن بعض مواقع المنطقة الغربية من المملكة بين نجران وسكاكا في رحلته إلى الشمال، خصوصًا أن ظروفها البيئية والمناخية تيسر له ذلك. وثمة احتمال كبير أن تكون منطقة وادي فاطمة من بينها، وبوجه عام فإن منطقة وادي فاطمة تعد سجلاً لمسيرة استيطانية بشرية مستمرة، فهي تحتوي على اثنين وثلاثين موقعًا آشوليًا، وأربعة مواقع موستيرية، وموقع واحد يعود تاريخه إلى بدايات العصر الحجري الحديث، وبضعة مواقع أخرى للنقوش الصخرية تنتمي إلى العصر الحجري الحديث نفسه
واستمر الاستيطان متواترًا في الجزء الغربي من المملكة بعامة، إذ تشير أعمال المسح الأثري في منطقة مكة المكرمة إلى العثور على أربعة عشر موقعًا، في وادي فاطمة وفي حرتي شما والجموم  ،  وفي بعض المواقع الأثرية الأخرى في بحرة وجدة  ،  اتسمت أدواتها بطابع الصناعة الموستيرية المميزة لمرحلة العصر الحجري القديم الأوسط التي تنتهي تقريبًا قبل 40.000 عام من الوقت الحاضر  ،  وتتميز بصناعة الشظايا والمحكات الحجرية   واستخدام التقنية المسماة بالليفلوازية (شظايا مشطورة قرصية الشكل مسننة الأطراف تشبه ظهر السلحفاة)
أما ما يخص مرحلة العصر الحجري القديم الأسفل بين نحو 40000 و 10000 قبل الوقت الحاضر، فإن الدراسات الآثارية التي أجريت في المنطقة الغربية من المملكة - حتى الآن - وفي وادي فاطمة  على وجه الخصوص، لم تكشف أدلة كافية يمكن أن يستدل منها على حضارة إنسان هذه الفترة الزمنية  
وتميز العصر الحجري الحديث في منطقة مكة المكرمة، خصوصًا المرحلة المتأخرة منه - أي من الألف الخامس وحتى الألف الثالث قبل الميلاد - بكثرة معثوراته ووضوح معالمها. وتشتمل معثورات هذا العصر على عدد من الأدوات الميكروليثية (القزمية) بعامة، مثل النصال والشفرات الرفيعة، فضلاً عن أحجار الرُّحيِّ وبقايا بيض النعام الذي كان يستخدم للتخزين آنذاك. ولعل من أبرز ما يميز هذه الفترة من العصر الحجري الحديث هو ظهور نمط من الأبنية والمنشآت الحجرية ذات الاستخدامات المتنوعة  ،  يتجاوز عددها المئات، وقد أقيمت فوق سفوح الجبال أو أعلى مدرجات الأودية، وذلك على امتداد المنطقة بكاملها من تبوك شمالاً حتى مرتفعات عسير ومنخفضات غربي نجران جنوبًا. ولا ريب في أن العثور على هذا النوع من المنشآت الحجرية في منطقة مكة المكرمة يشكل دليلاً واضحًا على تواصل الاستيطان في المنطقة خلال الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد  ،  كما يستدل من بقايا المعثورات الأثرية العائدة إلى تلك الفترة على أن السكان كانوا - آنذاك - يعتمدون في تنمية اقتصادهم المعيشي على الرعي وتدجين بعض الحيوانات
ومن السمات المميزة لمرحلة العصر الحجري الحديث في منطقة وادي فاطمة نفسها بعض الملتقطات السطحية من النصال الحجرية  .  ولا شك في أن بعض المعثورات من المواد الفخارية الملونة وبقايا الأدوات النحاسية المتقنة - من موقع (سهي) في أقصى المنطقة الجنوبية الغربية للمملكة بالقرب من ساحل البحر الأحمر  ،  والمؤرخة من النصف الأخير للألف الثاني قبل الميلاد - تعد قرينة على تميز معطيات الحياة وتنوعها في سهول المنطقة الغربية القريبة من ساحل البحر الأحمر بشكل عام في هذه الفترة، مما يعزز من أن مثل هذه المواقع قد يكشف عنها مستقبلاً في محيط منطقة مكة المكرمة، وخصوصًا أن المنطقة بتنوع بيئاتها مؤهلة لقيام حضارة مشابهة لتلك التي قامت في موقع (سهي) وغيره من المواقع في جنوب غرب المملكة، ولا سيما أن السهول الساحلية الواقعة غربي مكة المكرمة بعامة، وسهول وادي فاطمة بشكل خاص، تمتعت - آنذاك - بوفرة المياه حتى بعد أن خيم شبح الجفاف على المنطقة منذ أواسط العصر النيوليتي، فظلت مكانًا للاستيطان منذ أقدم مراحل ما قبل التاريخ وطوال ما تلا ذلك من عصور تاريخية
وتدل الرسوم الصخرية المنتشرة في أمكنة مختلفة في المنطقة على ممارسة إنسان العصر الحجري الحديث حتى عصور قبيل الإسلام، الرعي والصيد، كما أنها تشير إلى نوع من التواصل والتفاعل بين سكان جنوب غرب الجزيرة العربية وسكان الصحراء الكبرى في إفريقية الشمالية  ،  وهو ما يعكس مدى الاستيطان وتحركات المجموعات البشرية في الجزيرة العربية بعامة. كما تدل بعض الرسوم والنقوش التي عثر عليها على الوضعين البيئي والديني اللذين اتسم بهما سكان المنطقة 
 
شارك المقالة:
59 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook