بذرة الخير من ينميها؟

الكاتب: المدير -
بذرة الخير من ينميها؟
"بذرة الخير من ينميها؟




خرجتُ لخطبة الجمعة متأخرًا لبعض الوقت.. ركبتُ سيارتي متوجهًا إلى مسجدي الذي تفصلني عنه عشرُ دقائق عندما تكون الشوارع ليست مزدحمة.

 

صعِدتُ الكوبري (الجسر) الذي يوصلني إلى الحي الذي فيه المسجد.

 

أثناء مسيري فوق الجسر انفجر إطارُ السيارة الخلفي، ولم يُمْهلني حتى أصبحتِ السيارة تتحرك ببطءٍ شديد، وتمزق الإطار تمامًا، ومن الصعب والمخاطرة أن أتركها فوق الجسر وأذهب.

 

واصلتُ السيرَ بالسيارة ببطء شديد حتى نزلتُ من أقرب نزول في الجسر، في منطقة صناعية لا تكاد السيارات تمشي فيها في مثل هذا الوقت، فضلًا عن أن أجد سيارة أجرة.

 

أوقفتُ السيارة جانبًا، وتأبَّطت مشلحي ونزلت سريعًا، وكنتُ أحمل همَّ المشي إلى الشارع الرئيسي لأجدَ سيارة تحملني إلى المسجد، ولكن بمجرد نزولي إذ بسيارة قادمة من أعلى الجسر تسير بسرعة، أشرتُ لها بيدي فتوقفتْ لي مباشرة، وقال لي صاحبها: اصعَد، صعِدتُ، فقال لي: يبدو أنك أنت الخطيب وقد تأخَّرت عن الخطبة؟ قلتُ: نعم، وذكرت له ما جرى لسيارتي.

 

سألني عن موقع المسجد، وسار سريعًا يختصر الطرقات، قلت له: تمهَّل، سنصل إن شاء الله، وبدأ يتخطَّى السيارات، ومن الطريف أنه تخطَّى إحدى السيارات وكادت تصطدم بسيارته، وصاح عليه صاحبها، فأشار إليه معتذرًا: سامحني يا شيخ، أنا في مهمة دينية!

 

اقترَبْنا من المسجد، أخرجت محفظتي لأعطيَه أجره، فلم أجد صرفًا، قلت له: ليس لدي غير فئة خمسمائة ريال، هل لديك صرف؟

قال: لا.

قلت له: إذًا صلِّ معنا، وأحضر لك النقود بعد الجمعة، ولعلك ترجعني إلى البيت.

قال: أنا مسافر.

قلت له: احضر الجمعة حتى لو كنت مسافرًا.

قال: عفوًا أنا جُنُب.

قلت له: إذًا انتظرني إلى بعد الصلاة.

قال: سأنتظرك بعيدًا عن المسجد حتى لا يراني الناس فيتَّهموني، وربَّما كفَّروني، ثم سكت قليلًا، وقال: سأجعل المشوار لوجه الله.

قلت له: جزاك الله خيرًا، ويسَّر لك أمورك.

فقال لي بصوتٍ خافت حزين: بل ادعُ الله لي يا شيخُ بالهداية والصلاح، والله حتى الصلاة ما أصلي!

 

دعوتُ له ونزلت وأنا حزين عليه أنه لا يصلي، ولكن كان شيء في داخلي يقول: لعل الله سخَّره لي ليوصلني حتى أخطب بالناس وتقام الجمعة، ويكون ذلك سببًا في هدايته وصلاحه، بل ربما تأخُّري عن الخروج من المنزل، وانفجار إطار السيارة، وعدم وجود صرف في محفظتي، و...، كل ذلك تهيئة وسبب لأن ينالَ أجر عمله كاملًا، وأن تتحرك بذرة الخير في قلبه، ويكتب الله له توبةً وصلاحًا بعد ذلك.

 

هذه القصة فيها دروس؛ من أهمها:

• أن بذرة الخير موجودةٌ عند أغلب الناس، ولكن تحتاج إلى مواقف مؤثرة تحركها من مكامنها، وإلى مَن يسقيها ويُحييها ويحسن رعايتها، فمع وقوع هذا الرجل في المعاصي والآثام، بل وتركه للصلاة التي هي عمود الدين، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))؛ رواه الخمسة إلا البخاري - فإن بذرةَ الخير التي في داخله حرَّكها هذا الموقف، وغريزة الخير في سُويداء قلبه سَعَت لأن يكون لها مبادرة في خدمة دين الله، والمشاركة في الدعوة، ونفع الآخرين، وإجلال لمَن يحسب أنهم يَدْعون إلى دين الله وإلى الخير، والله سبحانه يقول: ? إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ? [الأنفال: 70]، قالها الله لأَسْرى المشركين الذين جاؤوا يحاربون دين الله وينصرون الشرك والكفر، فكيف بمَن عاش بين المسلمين ومِن أبوين مسلمينِ وأسرة مسلمة، ويقر بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته، ويقول: إني مِن المسلمين؟!

 

• المَنبت الحسن في الغالب لا يولد إلا ثمرةً طيبة وغرسًا مستقيمًا، وإن ذبل زمنًا أو اعوجَّ، فإنه يحنُّ إلى أصله، فينبُت من جديد ويقف يانعًا.

 

• الفطرة السليمة مهما أصابها من تلوُّث فإنها لا تلبث مليًّا حتى تتخلص من تلك اللوثات، وتتجنب القاذورات، وتتطهر من النجاسات.

 

• مَن وقع في تلك القاذورات، وانحرف عن الطريق، وانجرف إلى الموبقات، لا شك أنه كان ضحيَّة عزلة عن الخير، واحتواش من شياطين الجن والإنس؛ ((فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية...))؛ أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي، والحاكم.




• هناك تقصير واضح من الدعاة والمجتمع في الوقوف إلى جانب هؤلاء، والصبر على دعوتهم، وتقديم النصح لهم بالحكمة والهَديَّة والصُّحبة والرِّفق.




• ومن الدروس المتعلقة أن على المرءِ ألَّا يضعَ نفسه في دائرة القلق، فيجعل لنفسه متَّسعًا من الوقت ليصل إلى مهمَّتِه بلا تأخر أو سرعة، ويضع في حسبانه وقتًا لمفاجآت الطريق من زحام أو تعطل سيارة أو أي عارض آخر، فربما دقائق تتأخَّر فيها عن موعد أو مهمة تُدخِلك في توتر وقلق، وربما بسبب هذا التوتر يُصيبك نوع من الذهول وتشويش الفكر؛ فتخطئ في الطريق، فتزداد بعدًا، أو تضيِّع موعدًا، أو تفوِّت مصلحة، أو تحرج الآخرين أو تحرج نفسك عند الآخرين، فتبدأ تنقص من قدرك عندهم، بترجِّيهم أو بتلمس الأعذار وطلب الشفاعات.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook