بكاء المخلوقات

الكاتب: المدير -
بكاء المخلوقات
"بكاء المخلوقات

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فالبكاء نعمة من الله عز وجل، قد لا يتفطن لها كثير من الناس، والبكاء يكون لأسباب كثيرة؛ فعن يزيد بن ميسرة، قال: البكاء من سبعة أشياء؛ من: الفرح، والحزن، والجزع، والرياء، والوجع، والشكر، والبكاء من خشية الله.

 

والبكاء لا يقتصر على الإنسان، فبعض المخلوقات تبكي، ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعلُ لك منبرًا ؟ قال: ((إن شئتم)) فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دُفِع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمَّهُ إليه يئنُّ أنين الصبي الذي يُسكَّنُ، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.

 

وأخرج الإمام وكيع بن الجراح رحمه الله، في كتابه الزهد: أنَّ رجلًا مرَّ على عبدالله بن عمرو، رضي الله عنهما، وهو ساجد في الحجر، وهو يبكي، فقال: أتعجب أن أبكي من خشية الله، وهذا القمر يبكي من خشية الله؟! قال: ونظر إلى القمر حين شف أن يغيب.

 

وأخرج الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله، في كتابه: الزهد: أنه قيل لابن عباس رضي الله عنه: أتبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء ينزل منه رزقه، ويصعد منه عمله، فإذا مات المؤمن افتقده بابه فبكى عليه، وبكت عليه مغاديه من الأرض، وآثاره الحسنة التي كان يذكر الله.

 

وقال الإمام القرطبي رحمه الله، في كتابه الجامع لأحكام القرآن: قال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحًا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله. فقال: أتعجب؟! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل.

 

وقال عليٌّ وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء.

 

وقال عطاء الخراساني: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.

 

وقال الله جل وعلا: ? فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ? [الدخان: 29] قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: فما بكت على هؤلاء الذين غرَّقهم الله في البحر، وهم فرعون وقومه؛ السماءُ والأرضُ.

 

وقال الإمام البغوي رحمه الله: هؤلاء لم يكن لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقدهم، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليهم.

 

وقال الإمام القرطبي رحمه الله: إذا كانت السموات والأرض تسبح، وتسمع، وتتكلم كما بيَّناه في سبحان، ومريم، وفصلت، فكذلك تبكي.

 

وبعض الحيوانات تبكي، قال الإمام القرطبي رحمه الله: قيل: إن الله تعالى خصَّ الإنسان بالضحك والبكاء بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان، وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وأن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك.

 

وقد ذكر فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن قاسم، ومحمد بن زياد بن عمر التكلة، في كتاب ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز أن الشيخ العلَّامة عبدالله بن بكر بن مطير البكير (ت 1373هـ) رحمه الله، حفظ القرآن الكريم في سنٍّ مبكرة من عمره، وكان حسن الصوت بالقرآن، وأنه سافر مرة من الزلفي إلى الرياض، وفي إحدى جلسات الراحة، شرع في تلاوة القرآن، ورفع صوته بذلك، فما كان من الإبل التي حوله، إلا أن توقفت عن الأكل، ورفعت أعناقها، وإذا بالدموع تفيض من عيونها.

 

فإذا كانت تلك المخلوقات تبكي، فينبغي للمسلم أن يبكي، أخرج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه الزهد: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قال: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا.




ومن أسباب عدم البكاء وقحط العين: قسوة القلب، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: متى أقحطت العينُ من البكاء من خشية الله، فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعدُ القلوب من القلب القاسي.

 

ومن أسباب قسوة القلوب: مجاوزة قدر الحاجة في: الأكل والنوم والكلام والمخالطة.

 

فينبغي أن لا يجاوز المسلم قدر حاجته منها لعل الله أن يمنَّ عليه بلين القلب والبكاء.

 

لقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى: ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ? [النساء: 41]، وبكى عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس، وقال: (( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا))؛ [متفق عليه].




قال الإمام النووي رحمه الله: معناه: لو تعلمون ما أعلم من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة، وما بعدها، كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره، لبكيتم كثيرًا ولَقلَّ ضحككم لفكركم فيما علمتموه.




فطوبى لمن بكى من خشية الله عز وجل! وليبشر بالخير الكثير والأجر العظيم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تصيبهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله))؛ [أخرجه الترمذي، وصححه العلامة الألباني].




ومن السبعة الذين يظلهم الله عز وجل يوم القيامة في ظله: ((رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته.




قال كعب الأحبار رضي الله عنه: لأن أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أتصدَّق بوزني ذهبًا.




ومن بكى، فليحرص أن يقتدي برسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيقٍ ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهمُلا، ويسمع لصدره أزيز.

 

فاللهم ارزقنا قلبًا لينًا، وعينًا دامعة، تبكي من خشيتك، فيدفعها البكاء لحسن العمل والاستعداد ليوم الرحيل.


"
شارك المقالة:
31 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook