بمن تربط مصيرك وسعادتك؟

الكاتب: المدير -
بمن تربط مصيرك وسعادتك؟
"بمن تربط مصيرك وسعادتك؟




في لحظات حزنٍ وتفكيرٍ في المستقبل نظرتِ الزوجةُ إلى زوجها، وقالت: يا فلان، لو قدَّر الله وجرى لك شيءٌ، كيف سيكون مصيرُنا أنا وأولادك؟ أشعر أننا سنضيع! ثم أتْبَعت تلك الكلماتِ الحزينةَ بدمعاتٍ حارَّة سقطت على وجنتَيْها.

عبارةٌ ربما يسمعها كثير من الأزواج والآباء، إما من زوجة، أو من بُنيَّة، أو من ابن، أو حتى أحيانًا من والد ووالدة، ممن اعتمدوا في أمور حياتهم ومعاشهم على مَن يعولهم، أو تعلَّقوا حبًّا ومودةً بهم، هذا التعلُّق وهذا الاعتماد جعل كثيرًا من هؤلاء يربِطون مصير سعادتهم وعيشهم واستقرارهم بمَن يظنون أن مصيرهم مرتبطٌ بمصيرهم.

 

كم مِن زوجة ربطت سعادتَها بزوجها، وكم من بنتٍ ظنَّت أن مصيرها بيد أبيها أو أخيها، وكم من ابن ظنَّ أن أباه أو أمه هما كلُّ شيء في الحياة، وفقدهما يعني نهايةَ الحياة.

 

ربطُ المصير والسعادة والإنجاز والانطلاق في هذه الحياة، والخروج من الأزمات، والتغلب على المعوقات - ربط ذلك بشخص، أو جماعة، أو جهة، أو دولة، أو أرض، أو حتى مهنة أو صنعة: كلُّ ذلك من مُنغِّصات الحياة، ومعوقات السعادة، بل أحيانًا سببٌ لدمار جماعة أو مجتمع بأكمله، أو انهيار أمة، وسقوط دول، ونهاية حضارة، وأستلهمُ في هذا المقام موقفًا من أعظم مواقف التاريخ، إن لم يكن أعظمها وأشدها تأثيرًا في مثل هذا الشأن.

 

يموتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مصيبة موتِه هي أعظمَ فاجعةٍ على المسلمين وأشد مصائبهم، وكما قال ابن رجب: ولما توفي صلى الله عليه وسلم، اضطرب المسلمون، فمنهم مَن دهش فخُولط، ومنهم مَن أُقعِد فلم يطِق القيام، ومنهم مَن اعتقل لسانه فلم يطِق الكلام، ومنهم مَن أنكر موته بالكلية، ووقف عمر بن الخطاب يقول‏:‏ إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومِه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل‏:‏ قد مات‏، ووالله، ليرجعنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجُلَهم، يزعمون أنه مات‏.‏

 

وفي هذا الموقف الرهيب، والخَطْب الجلل، والأمر المريج، والناس كأنهم هائمون لا يدرون ما يفعلون، ولا يصدِّقون ما يسمعون من وفاة قائدهم، وموت إمامهم وقرة أعينهم، نبيهم ورسول ربِّهم - يُقبِل أبو بكر على فرس مِن مسكنه بالسُّنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يُكلِّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُغشًّى بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم أكَبَّ عليه، وانحدَرَت دموعٌ ساخنة حارَّة على وَجْنَتي الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه؛ لفراق حبيب عمره وقرة عينه، ثم قال الصديق - وقلبُه يتفطر -: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليكَ موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك، فقد متها، ثم خرج في ثباتٍ عجيب يَليق بخير الأمة بعد نبيِّها، خرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجد عمر في ثورتِه يتكلم مع الناس، والناس مُلتفُّون حوله يتمنَّون أنْ لو كان كلامُه حقًّا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانيةً كما يقول، قال الصديق في ثباتٍ ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر، لكنَّ عمر قد أذهلَتْه المصيبة فلم يسمع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس كانوا قد وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوَّل أبا بكر، فتركوا عمر والتفُّوا حول الصديق ينتظرون ما يقول، قال الصديق في فهمٍ عميق، وحكمة بالغة، بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

 

أما بعد، أيها الناس، مَن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومَن كان منكم يعبدُ الله، فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم قرأ الآية: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ? [آل عمران: 144]، والصدِّيق رجلٌ عجيب، يعيش مع القرآن في كل حركة وفي كل سكنة، فما أروعَ الاختيارَ، وما أبلغَ الأثرَ الذي أحدثَتْه الآيةُ الربانية في قلوب الصحابة!

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأنَّ الناس لم يعلَموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.

 

أفاق الناس وبدؤوا في البكاء الشديد، وكانت الآية سلوى للمؤمنين، وتَعزية للصابرين، وجزاءً للشاكرين، ووصلتِ الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر بن الخطاب: والله، ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها، فعرَفت أنه الحق، فعُقرت حتى ما تُقلُّني رِجْلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرض حين سمعتُه تلاها؛ علمتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

وثبَّت الله الأمةَ جميعًا بثبات الصديق رضي الله عنه، وهذه واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه، وما أكثر حسناته رضي الله عنه وأرضاه!

 

ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مصابًا جللًا وخطبًا جسيمًا فحسبُ، بل مصاب يصغر معه كلُّ مصاب، وخطب تهون عنده كل الخطوب، ولك أن تتصوَّر قومًا عاشوا معه، واعتادوا على وجوده، يرونه في كل صلاة، وفي كل لقاء، وفي كل جمع؛ يشهد الجنازة، ويعود المرضى، ويدعو لهم، ويزورهم في بيوتهم، لقد أحبه الصحابة حبًّا لم يبذلوه لأحدٍ غيره، قدَّموه على حب الولد والوالد، والزوج والعشيرة، والمال والديار، بل قدَّموه على حب النفس، حتى يتمنى الصحابي أن يموت ولا يُشاك رسول الله شوكة في قدمه، وما كان الواحد منهم يصبر على فراقه، فإذا عاد الصحابي إلى بيته أسرع بالعودة إلى المسجد حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بكى بعضهم؛ لأنه سيُفارقه يوم القيامة في الجنة لعلوِّ منزلته، حتى بشَّرهم بأن المرء يُحشر مع مَن أحب، عاش الصحابة في هذه السعادة التي لم تُعرف ولن تُعرف في التاريخ، سعادة مصاحبته ورؤيته، والسماع منه والانصياع له، ثم فجأة يأتيهم نبأُ وفاته! تقطعت قلوب الصحابة لمماتِه، وتمزَّقت نفوسهم، وتحطَّمت مشاعرهم، يقول أنس بن مالك: ما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسن ولا أضوأَ مِن يوم دخل علينا فيه رسول الله، وما رأيت يومًا قطُّ كان أقبح ولا أظلم مِن يوم مات فيه رسول الله.

 

المصيبة أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم.

والسؤال الكبير هنا:

مَن أشد الناس حبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم؟

أليس أبا بكر؟!

في نظرِ كثير منا: مَن أحق بالبكاء والحزن الشديد والذهول والنواح على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أليس أبا بكر؟!

وإن تخيَّل أحدنا أن صحابيًّا سوف يموت حزنًا وهمًّا وكمدًا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه، أشد الخَلْق حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجالِ إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصدِّيق سيفعلُ مِن علامات الغضب والثورة والانهيار والتصدع، ما لم يفعل أحد غيره.

 

لماذا لم يكن هذا الشأن من الصديق؟

لماذا كان هذا الثبات كثباتِ الجبال من الصديق رضي الله عنه؟

الإجابة باختصار: لأنه لم يربط مصيره ومصير هذا الدين بمصيرِ محمد صلى الله عليه وسلم، فإنْ مات أو قُتل أو غاب انتهى هذا الدين وطُويت صحيفته، وانتهى المسلمون بموت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ربط مصيره بربِّ هذا الدين، الباقي الذي لا يزول، والحي الذي لا يموت، الذي قضى وحكَم بأن يبقى هذا الدين، ويكون له العلو والظهور والخلود إلى يوم الدين.

 

لقد كان موقف الصديق - بهذا الثبات العظيم - إنقاذًا للأمة كلها، وبقاءً للدين، بل وتحررًا للفكر والعقل والروح، وفهمًا عميقًا لمراد الله في هذا الكون، وكان درسًا بليغًا - قدَّره الله - تعلَّم منه أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، واستلهمت الأمة منه العِبر إلى يوم الدين؛ ولذلك ما إن وعى الصحابة هذا الدرس حتى انطلقوا بعد ذلك يفتحون الأرض، ويُحرِّرون البلدان والعقول، فما هو إلا ربع قرن من الزمان حتى وطئت سنابكُ خيل المسلمين مُلكَ كِسْرى وقَيْصر، وفتح الصحابة ربع الدنيا في ذاك الزمان، وكلما مات فيهم سيدٌ قام سيد، لم يربِطوا مصيرهم بمصيره، ولا دعوتهم بموته أو حياته، ولا جهادهم بوجوده أو غيابه، وكلُّ انكسار للأمة بعد ذلك إلى زمننا هذا كان من أهم أسبابه غيابُ هذا الفهم، وربط الناس مصيرَهم ومصير هذا الدين بقائد أو منقذ أو مخلص، فكان الضعفُ، وكان الهوان، وكانت الذلة.

 

ولنَعُد إلى موقفِ الصديق رضي الله عنه لنغوصَ في عمق فهمه وإدراكه، لقد كان لفهم الصديق وثباته إدراكٌ سابق، وتركيز مبكر عميق، فقد جاء عند البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: ((إنَّ عبدًا خيَّره الله بين أن يُؤتيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتِنا، فعجِبنا له، وقال الناس: انظُروا إلى هذا الشيخ، يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيَّره الله بين أن يُؤتيَه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلَمَنا به.

 

لقد كان فهمُ الصديق مختلفًا عن فهم بقية الأصحاب، وكان هذا الفهم إدراكًا جعله ينظر لمستقبل هذا الدين ومصير هذه الأمة بمنظارِ مَن يعتقد أن هذا الدين ليس مرتبطًا بحياة شخص أو وفاته، وهذه الأمة باقية خالدة، لا تنتهي بنهاية قائد أو حاكم، حتى ولو كان هذا القائد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

 

هذا الإدراك جعله رضي الله عنه يقفُ مواقفَ أخرى لا تقلُّ في خطورتها وعظمتها وشدتها وثباتها عن موقفه هذا، وكلها مواقف متقاربة، لم يثبت فيها ولم يحسمها إلا هو رضي الله عنه، فحين اختلف الصحابة في السَّقيفة على مَن يخلف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكادوا يقتَتِلون، لم يحسِم الأمرَ إلا أبو بكر، ثم لمَّا تولى الخلافة جهَّز جيش أسامة ثم جهَّز الجيوش لحرب المرتدين، كلها مواقف خالفه فيها أكثر الصحابة، فثبت ثبات الجبال الرواسي، وكل ذاك الثبات من الله سبحانه أولًا وآخرًا، ثم بسبب الإدراك والفهم العميق لربط المصير برب هذا الدين.

 

ويحضرني في مثل هذا الموقف أيضًا موقف للسلطان نور الدين محمود زنكي، الذي قال عنه ابن الأثير رحمه الله: قد طالعت سير الملوك المتقدِّمين فلم أرَ فيهم بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسنَ من سيرته، ولا أكثر تحريًا منه للعدل، في إحدى معاركه أخذ يقاتل بنفسه ويقتحم صفوف الأعداء، وكان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجَعْبتين، وباشر القتال بنفسِه، فقال له يومًا قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان، لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قُتلت قُتل جميع مَن معك وأُخذت البلاد، وفسَد المسلمون، فقال له: اسكت يا قطب الدين، فإن قولَك إساءة أدب مع الله، ومَن هو محمود؟ مَن كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومَن هو محمود؟ قال: فبكى من كان حاضرًا.

 

ربط المصير لا يختصُّ برمزٍ من البشر فقط، بل ينسحب على أمور كثيرة في حياتنا تصغر وتكبر، تبدأ بقائد الأسرة، وتنتهي بقائد الأمة، فقد يربط البعض مصيرَهم ببلد أو أرض أو جهة أو جماعة أو فرد، فيتكوَّن لديهم الإدراك بأن مصيرهم مرتبطٌ بمصيرهم، وسعادتهم بوجودهم أو رضاهم؛ ولذلك تحصل الصدمة والانهيار عند فَقْدهم أو سَخَطهم.

 

مَن تكوَّن لديه الإدراكُ والفهم العميق لهذه المسألة، أدرك معنى الحياة والوجود، والخَلق، والبقاء والفناء، واللقاء والفراق، وأصبح لديه بُعْد نظر وفهم للحاضر، وتخطيط للمستقبل، وإيجاد بدائل، وشدة توكُّل على الله، وثبات وبصيرة عند الحوادث والمصائب، فلا تأسِره وظيفةٌ، ولا تَحُده أرض، ولا يستعبده كِيان، ولا تُقعده مصيبة، ولا يَثنيه ظرف، ولا توقفه عوائق، بل ولا تُنهِي ذِكرَه وفاةٌ.

والناسُ صنفانِ مَوْتى في حياتِهِمُ ??? وآخَرونَ ببَطْنِ الأرضِ أَحياءُ


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook