بيئات

الكاتب: المدير -
بيئات
"بيئات

 

لا يزالُ الطعام اللذيذ مشتهًى تهواه النفوس، وتحبُّ جيِّدَه الأرواحُ ذوات الفطر السليمة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ الحلوى، ومن نصائح بعض الكاتبات لبعض المُحبَطات: (تسلَّحي بالشيكولاه).

 

وسبحان مَن قسَّم الأرزاق، فجعل هذا الحيوان لاحمًا فقط، وذاك عاشبًا فقط، وتلك بين بين.

والكلُّ على الله رزقُه.

 

أما الإنسان، فقد انفرد بالنصيب الأوفر من التلذُّذ بالأكل:

يَقضَمُ الفاكهة حينًا، ويشربها عصيرًا حينًا آخر، يأكل اللحم مشويًّا، ويتذوق الأسماك مقلية، ويزين مائدته بأنواع الخضروات.

الإنسان: يكاد يكون الكائن الوحيد الذي يتفنَّن في مطبخِه، ويبتكر في ذائقتِه الطعاميَّة باستمرار.

 

لكن بعض الأطباق الشرقية أو الغربية ليست في محل الإعجاب عند البعض، مع أن لها جمهورها وعُشَّاقَها، فهل لو نشأتَ في تلك البيئة ستحبُّها؟

 

أظن أن البيئة لها أثر كبير في الاختيارات والمذاقات؛ ولهذا علل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالبيئة حين قُدِّم له ضبٌّ فقال: ((لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافُه))، فاجترَّه إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأكَلَه والرسول ينظر إليه، ولم ينهَه عنه.

 

ولعله رضي الله عنه قد تخطَّى حاجز البيئات؛ ولهذا تجد من بني قومك من يأكل السمك نِيئًا (السوشي)، ويتلذَّذ به، مع أنك ربما لا تستسيغ ذلك؛ فالبيئة سبب رئيس لتكوُّن الذائقة عند الإنسان.

 

والرسول عليه الصلاة والسلام لم يُعلِّل أو يخبر أن ذائقته هي الأفضل، بل بيئته هي التي صاغت هذه الذائقة؛ فإياكم وتحقيرَ أذواق الناس في أطعمتهم فيما أباحه الله أو سكت عنه.

 

إذًا، فالطعام الذي ليس من بيئتك وتعافُه نفسك، لو نشأتَ في البيئة التي طُبخ فيها، لأحببتَه على الأرجح.

فالبيئة تتركُ صِبغتَها على نسيجها السكَّاني، من حيث المأكلُ والمشربُ والملبس، ومن حيث العادات أيضًا.

 

ولهذا؛ فهناك كتب وبرامج تتحدَّث عن عادات الشعوب في شتَّى شؤون حياتهم، ولا يزال الإنسان يَعجَبُ من عادات غيره، ولا زال غيره يعجب منه أيضًا، وكأن التعجُّب من العادات سلعةٌ متبادلة بين الشعوب في رضا تامٍّ منهم.

 

عادات الناس - عزيزي القارئ - قضية تستحق الدراسة والاهتمام، لكن دَعْنا نتحدث عن قضية أكثر أهمية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون))، فمهما بلغ شأوك في التُّقى فإنك ولا بد أن تتلوَّث بذنب.

 

والسؤال إذًا: لو كنت في بيئة أخرى غير البيئة التي نشأت فيها، هل ستتغيَّر نوعيَّة ذنوبك، كما تتغير الذائقة الطعامية لديك؟

لو أن أباك كان عمله في بيئة غربيَّة، ودرست هناك في نفس مدارسهم، وعشت نفسَ عيشِهم، ما هو نوع ذنوبك؟

 

مَن يدري لربما تكون تاركًا للصلاة؟!

من يدري لربما تكون ملحدًا؟!

أو مسرفًا في الشُّرب والزنا؟!

 

ومَن يدري لربما تكون شخصًا صالحًا عاقلًا، أو انطوائيًّا ليس لديك كبير ذنب؟!

لكل خيار بيئي ورفقة معينة قائمةُ ذنوب خاصة، فأنت ربما تكون قاتلًا مأجورًا وفق ظروف معينة وبيئة خاصة.

 

أنت مدمن للمخدرات تحت ظرفٍ وبيئة ما.

ما نوع ذنوبك لو كنت فاحشَ الغِنى؟

لن تكون عادة تتطابقُ مع ذنوبك الحالية وأنت في مستواك المادي هذا.

ما نوع ذنوبك لو اتجهت لتجارة ما؟

ما نوع ذنوبك لو كنت مديرًا للتسويات المتعثِّرة في مصرف بنكي؟

أو مسؤولًا في جهة لجمع التبرعات؟

ما نوع ذنوبك لو كنت وزيرًا؟

ما نوع ذنوبك لو كنت مَلِكًا؟

ما نوع ذنوبك لو كنت متحرِّرًا وأنت تدرس الفلسفة؟

ما نوع ذنوبك عند مصاحبة فلان من الناس؟

 

ذنوبك متنوعة جدًّا باختلاف تنقلاتك البيئيَّة، ونشأتك، ورفقتك، واختياراتك.

أنت تعرف نوعية ذنوبك في هذه اللحظة التي تعيشها، لكنك غافل تمامًا عن نوعية ذنوبك في ظرفٍ ما.

أما الله سبحانه، فإنه يعلم ذنوبك التي فعلْتَها، وذنوبك التي هي مرتبطة ببيئة ومناخ معين.

لكن اللهَ يوم القيامة لا يُنَبِّئُك إلا بما عملتَه فقط.

 

حين قرأتُ آخر آية من سورة النور، أحسَسْت أن هذا المعنى مراد من خلال الآية الكريمة، قال سبحانه: ? أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [النور: 64].

يعلم ما نحن عليه، لكنه لن ينبِّئنا إلا بما عملناه.

 

عند هذا الحدِّ: إياك ثم إياك والإعجابَ بنفسك، إياك ثم إياك من الكبر، غضَّ طرفك، واستحِ من ربك.

فمهما وفِّقت لطاعة ربِّك، فأنت لا تعلمُ ذنوبك هناك تحت تلك الظروف التي يعلم بها الله.

فضلًا، التزم الحياءَ حتى تلقاه.

 

حسنًا!

لعلنا نفهم شيئًا حين نقف على دعائه صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: ((اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسرَرْت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني...)).

 

عزيزي القارئ، لا تستغرب حديثي عن (الأكل) في أول الكلام، ثم ختامي بالحديث عن المعصية؛ فالأكل - أخي الكريم - هو أول معصية مارسها أولُ كائن بشري، أبونا آدم وأمُّنا حواء عليهما السلام.

 

أخيرًا: البيئة خطيرة جدًّا في صياغة قائمة ذنوبك، لكن التعلُّق بالله وحده، والاعتماد عليه كي يهديَك، ثم يثبتك - هو طوق النجاة فقط؛ لأن إبليس قد عصى ربَّه وهو في بيئة ملائكيَّة، فماذا بعد هذه البيئة؟


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook