تزيين الشيطان للأعمال

الكاتب: المدير -
تزيين الشيطان للأعمال
"تزيين الشيطان للأعمال




يستمرُّ صِراع الشَّيطان مع الإنسان في الأرض، ويأخذ أبعادًا مختلفة، لكنه في مجمله ينطلق من البذور التي بذَرها الشيطان في قصَّة صراعه الأولى مع الإنسان، وقد جاء القرآن الكريم كاشفًا لهذه الصور الأخرى من الصِّراع التي هي امتِداد للصِّراع الأول، ومجمل هذه الصور يمكن تصنيفها على النحو الآتي:

• التزيين للأعمال:

سبق لنا أنْ ذكرنا أنَّ من معالم الخطَّة الشيطانية التي اختطها في قصَّة الصِّراع الأولى: مَعلم التزيين والمتاجرة بالشهوات؛ ذلك أنَّ من كيده للإنسان أنَّه يورده مواردَ الهلاك التي يخيل إليه أنَّ فيها منفعته، ثمَّ يصدره على المصادر التي فيها عطبه وهلاكه، ويتخلَّى عنه بعد ذلك ويشمت به[1]، فتزيين الشيطان للباطل يتم بأن يَستعين الشيطان بالنفس، فيحثها على الشَّهوة وعلى هواها[2].




ويرى الإنسان عمله حسنًا، فلا يفكِّر فيه، ولا يفتِّش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثِق من أنه لا يخطئ، متأكِّد أنه دائمًا على صواب، معجب بكلِّ ما يصدر عنه، مفتون بكلِّ ما يتعلَّق بذاته، هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على الإنسان، والذي يقوده إلى الضلال[3].




وقد بيَّن هو بنفسه معالمَ فِقهه هذا، قال تعالى: ? قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ? [الحجر: 39]؛ أي: أحبِّب إليهم المعاصي، وأرغِّبهم فيها، وأؤزُّهم إليها، وأزعجهم إليها إزعاجًا، وإليك التطبيق العملي لهذا الفِقه الشيطاني كما ذكرَته النصوص القرآنيَّة، قال تعالى: ? فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [الأنعام: 43]، الآية تبيِّن أنَّ الله سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرَّاء لعلَّهم يتضرَّعون، ولكنهم لم يتضرَّعوا بسب قساوة قلوبهم، وإذا كان النص القرآني يتحدَّث عن أمَمٍ أرسل الله لها رسلًا، فإنَّه يتحدَّث في ذلك عن جانب من أسرار سنَّته وقدَره؛ لنأخذ نحن حذرنا، ونتَّعظ وندرك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة، افتتح النص بـ (لولا) التي تفيد أنه ما كان لهم من عذرٍ في ترك التضرُّع إلَّا عنادهم، وقسوتهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم[4].




وقسوة القلب هذه كانت خيرَ مُعين للشيطان على الوسوسة والنَّفث؛ إذ زيَّن لهم الاستمرار على هذا الكبر والتكذيب للرسل، وتقبيح الطَّاعة لهم، فظَنوا أنَّ ما هم عليه دين الحقِّ، فتمتَّعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان[5].




فالشيطان عندما يبرز للتزيين، يبحث عن مواضِع الضَّعف عند الإنسان فيركز عليها، ألم نرَ في قصَّة الصراع الأولى كيف حرَّك في نفس أبينا آدم وزوجه غريزةَ حبِّ البقاء، فأوقعهم من خلالها في شراكه؟! فكذلك هو هنا، وقف على نقطة الضَّعف عند هؤلاء، إنَّها قسوة القلب الذي تحجَّر ومات، (فلم تعد الشدَّة تثير فيه الإحساس، وتعطَّلَت أجهزة الاستقبال الفطريَّة فيه، فلم يعُد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبِّه القلوب الحية للتلقِّي والاستجابة، والشدَّة ابتلاء من الله لعبده، فمن كان حيًّا أيقظَته، وفتحت مغاليق قلبه، وردَّته إلى ربِّه، وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه، وإن كان ميتًا حسب عليه ولم تفِده شيئًا، وإنما استقطعَت عذرَه وحجَّته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب)[6].




والحاصل من خلال الآية أنَّ على المرء التفتيش عن قلبه بين الوقت والآخر؛ حتى لا يقسو، فإنَّ قسوة القلب سبب لولوج الشيطان إليه، وكلَّما كان القلب لينًا متأثرًا بالمواعظ رجَّاعًا إلى الحقِّ، كان أمنع من وسوسة الشيطان، وكلَّما كان قاسيًا جلمدًا كالصِّخر، كان أسهلَ لدخول الشيطان؛ وهذا ما أشار إليه أيضًا الحديث النبوي الشريف: ((ألا وإنَّ في الجسد مُضغة، إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسدَت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[7]، إنَّ هذا التعبير هو أبلَغ ما يقال في الموضوع؛ فإنَّ صلاح القلب صلاح للجسد، وإنَّ فساد القلب فساد للجسد، وبه تتَّضح الخطة الشيطانية في التزيين.




ومن تزيين الشيطان أيضًا ما نجده في قوله تعالى: ? وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? [الأنفال: 48]، فالشيطان هنا يزيِّن لكفَّار قريش قتالَ المسلمين، ويبيِّن لهم أنَّه جار لهم ومُعين، وقد ذكر أهلُ التفسير في هذا التزيين وجهين؛ أحدهما: أنَّه الشيطان وسوس لهم من غير تَمثيل في صورة إنسان، وثانيهما: أنه ظهر لكفَّار قريش في صورة إنسان؛ لأنَّهم لما أرادوا السيرَ إلى بدر لقتال المسلمين خافوا من بني كنانة أن يأتوهم من ورائهم، فتمثَّل إبليس اللَّعين في صورة سراقة الكناني، وقال لكفَّار قريش: أنا جار لكم من بني كنانة، فلا يصِل إليكم مكروه منهم، فقوله: ? وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ? على الحقيقة، ومعنى الجار هنا: الدافع للضَّرر عن صاحبه[8].




فهذه عادته - لعنه الله - إذ يحسِّن للناس عملَ المنكر، ويطمعهم فيه؛ كما في هذه المعركة، ثمَّ يتخلَّى عنهم في أشد حاجتهم إليه، وفي أحلك الظروف، ويسلمهم إلى أعدائهم؛ لأنَّه قضى وطره، وحصَّل مأربه منهم؛ هذا في الدنيا، وأمَّا في الآخرة، فإنَّه يتبرَّأ أشد البراءة، ويورِدهم شرَّ الموارد: ? إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ? [إبراهيم: 22]، فانظر كيف صوَّر إعراضه وتراجعه بعد أن كان واعظًا مزينًا الأعمال لهؤلاء المغترين، لقد عبَّر عن ذلك بالفعل ? نَكَصَ ?؛ الذي هو الإحجام مصحوبًا بسرعة تَخلٍّ وترك للآخر؛ وهكذا هو الشيطان (مع كل أوليائه؛ فإنه يدعوهم، ويدليهم بغرور إلى ما يضرهم، حتى إذا وقعوا في الشِّباك، وحاق بهم أسباب الهلاك، تبرَّأ منهم، وتخلَّى عنهم)[9].




ولا لوم على الشيطان لأنَّه عدو، ومن الطبيعي أن يخطِّط العدو للإيقاع بخصمه، ولكن اللَّوم كل اللوم على من يتَّبع هذا التزيين، ويطيعه فيه؛ فهذا من أعجب العجب!




ومن باب التزيين للأعمال أيضًا ما جاء في قوله تعالى: ? وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ? [النمل: 24]، في هذه الصورة الشاخصة يقِف مَخلوق لا يعقل ليبدي استغرابَه وألَمَه وغيظَه من فعلٍ أقدَم عليه مَن يعقلون؛ إنَّه فعل السُّجود (للشمس والقمر من دون الله، فما أروع هذا الهدهد العجيب في استنكاره سجود القوم للشمس من دون الله! وما أروعَ تعليله لضلالهم بأنَّ الشيطان زيَّن لهم أعمالهم، فأضلَّهم فهم لا يَهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير! ولا شكَّ أن الله سبحانه هو الذي ألهَم الهدهدَ، وهداه إلى معرفته ووجوب السجود له؛ كما ألهم وهدى غيرَه من الطيور وسائر الحيوان المعارفَ اللطيفة التي يكاد العقلاءُ الرجاح لا يَهتدون لها؛ بل إنَّ أدلة التوحيد التي جاءت على لِسان هذا الهدهد لَممَّا يسترعي الانتباه، ويملأ النفس إيمانًا بالحقيقة؛ حيث تأتي الحقيقة على لسان هدهد، في الوقت الذي يغفل عنها الإنسان؛ فالهدهد هنا قد مثَّل دور الداعية الحريص على هداية الناس، ولكنهم ساروا خلف تزيين الشيطان لأعمالهم، فتصوَّروا أنَّ ما هم فيه أو عليه هو الحق)[10].




وإذا كان هناك من شيء يتوقفنا في كلام الهدهد هذا، فهو فطانته إلى أنَّ الحامل لهم على هذا الفعل هو (تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدَّهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثمَّ أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية، والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلَّا له)[11].




وفي مسيرة التزيين الشيطاني يطالعنا النصُّ القرآني بإشارة فيها نوع من التسلية والتثبيت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، هذه الإشارة تتمثَّل في أنَّ فقه التزيين الشيطاني لم يقِف عند قوم؛ وإنما هو مستمرٌّ مع وجود المجتمع الإنساني؛ قال تعالى: ? تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النحل: 63]؛ فهذا قسَم من الله تعالى بنفسه بأنَّه قد أرسل رسلًا من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، دعَوا الناسَ إلى عبادة الله وحده، وترك الشرك، ? فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ?، (فكذَّبوا الرسلَ، وزعموا أن ما هم عليه هو الحق المنجي من كلِّ مكروه، وأنَّ ما دعَت إليه الرسل فهو بخلاف ذلك)[12]، ولما أطاعوا في تكذيب الرسل، صار الشيطان وليًّا لهم في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال تعالى: ? فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ?، ولا ولي لهم غيره، وبئست الولاية هذه التي تقود إلى العذاب الأليم يوم القيامة، والخسران في الدنيا[13].




ومن فقه التزيين أيضًا ما جاء في قوله تعالى: ? وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ? [العنكبوت: 38]؛ ففي هذه الآية بيان صريح جدًّا يكشف عن سرِّ ضلالهم؛ وهو تزيين الشيطان لأعمالهم، فقد عرفهم الله الحقَّ وما يؤدِّي إليه، والباطل وماذا يترتَّب عليه، فمن هاهنا كانوا ضمن دائرة الاستبصار، ولكن دائرة الاستبصار هذه انطفأَت في صدور الذين كفروا؛ وذلك بعد أن زيَّن لهم الشيطان أعمالَهم، واتَّبعوا أهواءهم، وعلى هذا كانت دائرة العمى، وعندما جاءهم رسولٌ من ربهم كي يعيدهم إلى دائرة الاستبصار، صدوا عن سبيل الله، وكان الصاد لهم تزيين الشيطان لأعمالهم[14].




فهؤلاء القوم قد (كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى، لكن الشيطان استهواهم، وزيَّن لهم أعمالَهم، وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتُون من الأعمال، وانخِداعهم بما هم فيه من قوَّة ومال ومتاع)[15]، ولم يكن ضلالهم ناتجًا عن قصور في النظر؛ وإنما كانوا (أهل بصائر؛ أي: عقول، فلا عذر لهم في صدِّهم عن السبيل، وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالًا ناشئًا عن فساد اعتقادهم، وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم، وأنَّهم لن ينجوا من عذاب الله؛ لأنهم كانوا يَستطيعون النظرَ في دلائل الوحدانية، وصدق رسلهم)[16].




وهكذا يمضي الشيطان في تنفيذ الخطَّة التي اختطها على نفسه في تزيين الأعمال الباطلة في أعين الناس، حتى يَرَوْها حسنةً جميلة، وهي في حقيقتها قبيحة باطِلة مخالفة للشَّرع؛ فالشيطان يدفعهم بهذا التزيين وهذا العمل الباطِل إذا كانوا متردِّدين في فعله، إلى فعل هذا الأمر القبيح الباطل، وإلى الثَّبات عليه والاستمرار فيه إذا كانوا متلبسين به وبفعله، ورأينا في الصور التي عرضناها حقيقة هذا الأمر.




[1] ينظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان؛ ابن قيم الجوزية - تحقيق: محمد عفيفي - المكتب الإسلامي - بيروت - ط2 - 1409هـ - 1989م - ج (1) - ص (108).

[2] ينظر: تلبيس إبليس؛ ابن الجوزي - تحقيق: السيد الجميلي - دار الكتاب العربي - بيروت - ط1 - 1405هـ - 1985م - ص (33).

[3] في ظلال القرآن - م5، ص (2927).

[4] ينظر: التفسير الكبير؛ الرازي - ج (12)، ص (185)، والأساس في التفسير؛ سعيد حوى - م3، ص (1630).

[5] ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ ابن السعدي، ص (256).

[6] ينظر: الاتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن؛ محمد بن مصطفى السيد ج (2)، ص (525).

[7] صحيح البخاري، كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه ج (1)، ص (28) - عن النعمان بن بشير.

[8] ينظر: جامع البيان؛ الطبري - ج (10)، ص (20)، وتفسير القاسمي ج (8)، ص (73، 74).

[9] تيسير الكريم الرحمن - ابن السعدي - ص (853).

[10] ينظر: أدب القصة في القرآن الكريم؛ عبدالجواد محمد المحص - (206).

[11] بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية - ج (3)، ص (338).

[12] تيسير الكريم الرحمن؛ ابن السعدي، ص (443).

[13] ينظر: الاتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن - ج (2)، الاتباع المذموم - ص (521).

[14] ينظر: الانحرافات الكبرى؛ سعيد أيوب - ص (92).

[15] في ظلال القرآن؛ سيد قطب - م5، ص (2735).

[16] التحرير والتنوير - ج (20)، ص (249).


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook