تطور التجارة بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 تطور التجارة بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

 تطور التجارة بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
تؤكد أدلة الشواهد الأثرية والتاريخية أن عبقرية التجارة وموهبتها كانتا تجريان في عروق أهل جزيرة العرب منذ القدم  ،  وقد تبوأ أهل مكة المكرمة مكانة بارزة فيها، فقد أتاح الموقع المتميز لمكة المكرمة - بوجه خاص - على مفترق طرق القوافل التجارية لمعظم أهل مكة المكرمة وقاطنيها مصدرًا دائمًا ومضمونًا للربح والتكسب، إذ راوح بين الأرباح الباهظة لسادتهم وكبارهم، واكتساب القوت الطيب للموالي والعبيد الذين عاشوا في كنف أولئك السادة
 
ولا ريب كذلك في أن وجود البيت الحرام في مكة المكرمة، قد فرض على أهـلها - آنـذاك - مراعاة حرمة الـمال والدم لمن كانوا يقدمون على البيت زوَّارًا وعمَّارًا، فأدى ذلك مع مرور الوقت إلى اختلاف سكان مكة المكرمة عن معظم القـبائـل - آنذاك - فيمـا استحلوه من غزو غيرهم وسفك دمائهم وغصبهم فيما يملكون من مال وعرض  ،  وقد أدى ذلك إلى أن يضع أهل مكة المكرمة جلَّ همهم وجهدهم في التجارة ابتغاء الكسب الطيب والعيش الرغيد بعيدًا عن السلب والنهب، ما أسهم في رفع مكانتهم وعلو كلمتهم بين قبائل العرب
 
وزاد من الأهمية التجارية لمنطقة مكة المكرمة وقوعها على الطريق الرئيس لتجارة البخور والتوابل وغيرها من الخامات الثمينة آنذاك  ،  ذلك الطريق الذي كان يبدأ من مراكز إنتاج هذه الخامات الثمينة ومن موانئ استيرادها في جنوب جزيرة العرب  ،  ثم يمضي من شبوة حاضرة حضرموت إلى تمنع القتبانية ثم إلى مأرب السبئية وقرنا المعينية، ثم يتجه إلى نجران حيث يتفرع شرقًا ليصل عبر شرق الجزيرة العربية إلى بلاد النهرين وفارس، وغربًا مرورًا بمنطقة تثليث ثم الطائف فمكة المكرمة، ومن بعدهما يثرب والعلا وتيماء وصولاً إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط ومناطقه في الشمال  .  ومما عزز من أهمية مكة المكرمة التجارية هو اشتهارها بمنتجات تجارية منها التمور والزيت والصوف والوبر والسمن والعسل والنبيذ والسيوف وغيرها  .  وبالإضافة إلى ذلك فإن التجارة التي تمر بمنطقة مكة المكرمة منذ القدم   لم تكن مقصورة على منتجات الجزيرة العربية وحدها، بل عَرفَت كذلك ما يمكن أن يدعى وفق المفاهيم الحديثة باسم تجارة الترانـزيت أو (تجارة العبور) في جميع البضائع الأخرى الواردة من جميع البلدان شرقًا وغربًا، ومنها الواردات الهندية كالذهب والأحجار الكريمة والعاج وخشب الصندل ومنسوجات الحرير والمنتجات المعدنية، وكذلك بعض حاصلات التجارة من بلاد شرقي إفريقية مثل خشب الأبنوس والجلود والفراء وغيرها
 
والحقيقة التاريخية أن المكيين حافظوا على ازدهار تجارتهم في ظل ما أصاب جزيرة العرب خلال فترة قبيل الإسلام من تفكك سياسي وغياب للسلطة المركزية فيها، خصوصًا بعد احتلال الفرس لليمن ونشوب الحروب الطاحنة بين الرومان والفرس، وتداعيات ذلك على تزعزع قوة الممالك العربية الحاجزة (مملكتا الحيرة وغسان) في شمال الجزيرة العربية. وعلى الرغم من ذلك فإن مكانة مكة المكرمة التجارية لم تتزعزع، بل زادت مع مرور الوقت، وتبوأت مكانة تجارية بارزة، ما كان له الأثر البالغ في ثراء سكانها وتضخم رؤوس أموالهم
 
من هنا يمكن القول إن تجارة مكة المكرمة في بداية الأمر كانت ذات طابع محلي، فقد كانت تقوم بشكل أساسي على حمولات القوافل التي اعتاد أصحابها القدوم إلى المنطقة لزيارة البيت الحرام، أو لممارسة طقوس العبادات من حوله في مواسمها الدينية المتكررة، وكذلك تلك البضائع التي كانت تصل لبعض الأسواق ذات الصيت بمنطقة مكة المكرمة، لا سيما خلال الأشهر الحرم   التي جرت العادة خلالها على منع إغارات اللصوص وقطاع الطرق، أو تلك القوافل الزائرة إلى أسواق بعينها، مثل قوافل النعمان بن المنذر إلى الطائف أيام انعقاد سوق عكاظ، أو تلك القاصدة سوق ذي المجاز وغيرها
 
ولكن هذا الحال سرعان ما تغير خلال عهد سيد قريش هاشم بن عبدمناف الذي انتقل بتجارة مكة المكرمة من مرحلة الجمود وانتظار القوافل القادمة إليها، إلى مرحلة من الحركة والنشاط الدؤوب، والانطلاقة الكبرى من المحلية إلى العالمية وما وراء حدود شبه جزيرة العرب  .  ففي تلك الفترة أرسيت مجموعة من التوافقات والتفاهمات التي لم تكن جميعها بالضرورة اتفاقيات مكتوبة أو معاهدات موقعة، ولكنها تندرج ضمن ما يمكن أن يطلق عليه سياسة (الإيلاف) التي أشير إليها في القرآن الكريم: ﮭﮌﯔﭭﮞﰌﭓﰚ ﭕﰹﯞﮤﯔﱈﰈﭳ ﰙﰛﰘ ﭙﰟﰏﭩﮣﰌﱐﰠﮗﰟﭾﱇ ﯢﰞﮝﱅﭓﮣﭗﮣ ﭓﭔﭩﰂﮕﰠﭷﮤﭔﭑﰵﰠ ﮢﮥﭓﭔﭩﰒﯳﯜﱉﭓﰚ ﰙﰜﰘ ﱊﮣﭭﱊﯜﮥﰹﱈﭦﰸﯚﰰﮢﭓﭘ ﯢﮥﭮﯲ ﮔﮩﰌﯜﮨﭓ ﭓﭔﭩﱉﭧﮤﯠﱉﭽﰠ ﰙﰝﰘ ﭓﭔﭑﯺﭕﰠﯥﱍ ﭖﮢﰬﱅﰹﮩﭺﮩﮗﰰﭿ ﭲﮙﰠﮐ ﮏﰴﮡﰾﭨ ﮢﮥﰵﮥﭓﭲﮤﮉﮟﮗﰰﭾ ﭲﮙﰠﮐﱅ ﮪﮩﮡﱇﭔﯵ ﰙﰞﰘ  ،  فكانت هذه السياسة التي سنَّها هاشم بن عبدمناف، حين سعى بجسارة في أول الأمر إلى أخذ عهد مكتوب بالأمان من قيصر الروم  ،  أو على الأرجح من أحد وزرائه أو ولاته أو كبار قادته  ،  لضمان تدفق تجارة قريش مع بلاد الشام، ثم شجع ذلك الاتفاق القرشيين على ما تلاه من إيفاد المطلب بن عبدمناف إلى ملوك اليمن، وعبدشمس بن عبدمناف إلى ملك الحبشة ونوفل بن عبدمناف إلى أكاسرة الفرس  .  واستتبع ذلك الاتفاق على تأمين التجارة مع رؤساء القبائل العربية وعدد من شيوخ قبائل مناطق وسط الجزيرة وأطرافها الشمالية على مشارف الشام، ومع بعض حكام ممالك جنوب الشام ذاته  ،  وكذلك مع زعماء القبائل والعشائر، الواقعة جنوبي مكة المكرمة حتى اليمن، في مقابل منح بعضهم ما يرضيهم من عروض التجارة، أو في مقابل تقديم خدمات إضافية لهم واستضافة قومهم وتيسير تجارتهم في مكة المكرمة خلال موسم الحج. وهكذا كان ولد عبدمناف هم أول من حصل لقوافل قريش ومسافريها على ما دعي - آنذاك - (العصم) أو (الحبال)  ؛  أي الأمان والمواثيق، فكانت هذه السياسة ذات صدى كبير في تدعيم مكانة أهل مكة المكرمة الشرفية والتجارية. فقد ترتبت القوافل في مسارات موسمية محددة ومأمونة  ،  أشهرها رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام
 
لقد تم ذلك بتفاهم جميع الأطراف على النفع المشترك والصالح العام الذي يعود بالخير والأمان على الجميع، وبموجبه منحت عروض التجارة لهم نوعًا فريدًا من (الحصانة)، ونتج من ذلك المناخ الاقتصادي تطور كبير شهدته التجارة، تمثل في اتجاهين رئيسين: أولهما: تسيير التجارة البعيدة المدى والقاصية المسافات  ،  ما أدى إلى اتساع علاقات أهل مكة المكرمة وزيادة مكانتهم ومنـزلتهم بين الأمم والشعوب، وثانيهما: ما انعكس على ذلك التضخم الكبير الذي شهدته القوافل سواء من حيث عدد جمالها أو من حيث قيم حمولاتها وأثمانها، إذ بلغ متوسط عدد إبل القافلة الواحدة الكبيرة ما يراوح بين ألف وألف وخمسمئة بعير، كانت تحمل بضائع معدل قيمتها في حدود المليون من الدنانير الذهبية الفارسية أو الرومانية المعمول بها في تلك الأيام
 
كان من بين أهم الأنظمة التجارية الجديدة التي سنَّها هاشم، قبول مشاركة أي فرد مهما كان فقيرًا في رأس مال قوافل مكة المكرمة الغادية   وإعطاؤه مقابل سهمه في الربح مهما صغر، ما أدى إلى ظهور نوع من التكافل بين الكبير والصغير لم يعرفه أهل مكة المكرمة من قبل
 
وسعى بعض بني عبدمناف الآخرين إلى استكمال جهود (الإيلاف) التي بدأها هاشم، ومنهم نوفل بن عبدمناف الذي عاهد عرب الأنبار والحيرة وما وراءهم من بلاد النهرين. وبسبب هذه الجهود الحثيثة المتواصلة لم تلبث تجارة قريش المتنامية - آنذاك - أن تجاوزت النطاقات الجغرافية لجزيرة العرب، بل جواراتها الشهيرة كالشام في الشمال واليمن في الجنوب، فتعدت ذلك إلى بلاد الروم شمالاً وفارس شرقًا، فضلاً عن مصر غربًا والحبشة جنوبًا
 
وهكذا تعززت منذ تلك الفترة المكانة الكبيرة لأهل مكة المكرمة عامة، وبني عبد مناف على نحو خاص، في تجارة مكة المكرمة الخارجية، الأمر الذي جعل شاعرهم يمجد ذلك بقوله:  
 
يا  أيها  الرجل المحوّل رحله     هلا  حـللت بـآل عبدمناف
الآخـذين  العهـد في إيلافهم     والراحـلين برحلـة الإيلاف
شارك المقالة:
63 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook