تعرف على الأذان في تركيا… مقامات موسيقية بعبق التاريخ

الكاتب: رامي -
تعرف على الأذان في تركيا… مقامات موسيقية بعبق التاريخ
"

تعرف على الأذان في تركيا… مقامات موسيقية بعبق التاريخ

تعرف على الأذان في تركيا… مقامات موسيقية بعبق التاريخ

من يسمع الأذان في تركيا يشعر كأنها موطن الأذان ومحل ميلاده، ومن يرى المآذن التي ترفعه يخيل إليه أنها مغروسة في هذه البلاد منذ أن رفعته عالياً مجلجلاً، وزائر تركيا يلحظ بوضوح أن الأذان أصبح جزءاً من هويتها، لا ينفصم عنها رغم سنوات العلمنة العجاف التي عاشتها عقوداً من الزمن.

والأذان في تركيا عالم خاص، وقصة فريدة بين شعوب العالم، تتشابك في فصولها تقاليد القصور العثمانية، ومعركة الشعب ضد العلمانية، وتراث عريق من المقامات الموسيقية، وهذه بعض تفاصيلها..


الأتراك والأذان



قليلة هي المصادر والمراجع التي تؤرخ لمسيرة الأذان عند الأتراك السلاجقة مؤسسي أول دولة تركية بالأناضول (1070- 1299م)، غير أن بعضا من الآثار الدينية التي تركوها في مناطق قونيا وقيصري وسيواس ونيغده بوسط الأناضول التركي تدل على أن السلاجقة كان لديهم اهتمام بالغ بالأذان. وهو شيء غير مستغرب؛ إذ إن الذي بنى الجوامع والمساجد ذات مآذن عالية وزخارف مبهرة ومدارس لتحفيظ القرآن والحديث النبوي وعلوم الدين.. لا يمكن أن يغفل أهمية الأذان في الإسلام.

غير أن العناية التركية بالأذان تبدو أكثر وضوحا عندما ننتقل لفترة الدولة العثمانية التي دامت حوالي 6 قرون (1300-1923م)؛ إذ نجد أن السلاطين والأمراء والباشوات وحتى زوجات السلاطين وبناتهم أولوا عظيم الرعاية والاهتمام بأذان الصلاة. ففي مراكز ثقافية، مثل إستانبول وبورصا وقونيا وإزمير كان للأذان وضعية، خاصة في الثقافة الشعبية أطلق عليها ""سراي تعويرى"" (أي طريقة أو أسلوب السراي) في إشارة إلى الذين كانوا يقومون بأداء الأذان في الجوامع السلطانية في شهر رمضان على طراز معيّن.

وقد خصص السلاطين قسمًا داخل السراي الحاكم تحت اسم ""مؤسسة الأذان""، كان يتم فيها انتقاء أصحاب الأصوات العذبة لتلقينهم دروسا في الموسيقى، ومن ثم اختيار من يصلح منهم لأداء الأذان. وكان مؤذن مسجد أو جامع السراي يطلق عليه تعبير ""باش مؤذن"" أو ""هُنكار مؤذن"" (أي كبير المؤذنين) الذي يقوم بأداء الأذان يوم الجمعة والأعياد في الجوامع الكبيرة التي كان السلطان يذهب إليها. كما كان هناك مجموعة من المؤذنين لدى كبير المؤذنين تكونت من 15-30 مؤذنا، كان يطلق عليها تعبير ""مؤذنانى خاصة"".


محنة الأذان


استمر الأتراك يتبعون أداء الأذان باللغة العربية منذ دخولهم الإسلام في موطنهم الأصلي بآسيا الوسطى، وكذا في وقت تأسيس أول دولة لهم في الأناضول، وهي الدولة السلجوقية، وأيضا في أوقات الدولة الثانية المعروفة بالدولة العثمانية، هذا الأمر استمر حتى فترة ظهور المد القومي التركي، أو ما يسمى بالتتريك، بعد صدور لائحة المشروطية الثانية (الاسم الذي أطلقه الأتراك على الدستور الثاني 1908-1918م)؛ حيث بدأ فريق من القوميين الترك الدعوة إلى تتريك الأذان وقراءته بالتركية.

ويحتمل أن يكون الأديب التركي ضياء جوك آلب أول من دعا للفكرة في عام 1918 بعد انهيار الدولة العثمانية، وتصاعد المد القومي والطوراني في منطقة سالونيك التي تتبع اليونان حاليا، وتقول الموسوعة الإسلامية الجديدة (بالتركية) : إن أتاتورك طلب من إسماعيل حقي بالطجى أوغلو في عام 1928م الذي كان يعمل مدرسا بكلية ""الإلهيات"" أن يدخل مادة في لائحة الإصلاحات (المادة الثالثة) تتعلق بضرورة أن يكون كل شيء بالتركية.

وفى 10-4-1928 صدر قانون التشكيلات الأساسية الذي رفعت فيه عبارات ""إن الإسلام دين الدولة"" و""إن المجلس الوطني هو الذي يطبق الأحكام الشرعية"".

وفى عام 1931 عيّن أتاتورك ورشيد غالب وزير المعارف عدد تسعة من المؤذنين لكي يؤذنوا بالتركية، دون النظر للمعارضة الجارفة من عموم الشعب. لدرجة أن أتاتورك أصدر أوامره للشرطة والأمن بمتابعة أداء الأذان بالتركية، ومعاقبة كل من يخالف.

ويعد الحافظ عمر بك السالونيكي أول من أذن بالتركية -على مقام سوزناق- في عام 1932 في جامع حصار بمدينة إزمير الساحلية. كما تعرض المؤذن طوبال خليل للضرب والاعتقال من الشرطة بعد أن أذن بالعربية في ""أولو"" (جامع بمدينة بورصا وسط الأناضول التركي) عام 1933م. ومع علم أتاتورك بالواقعة والرفض الشعبي للأذان بالتركية قطع زيارته لإزمير، وذهب لبورصا، وقال لوكالة أنباء الأناضول التركية : ""مثل هؤلاء الرجعيين الجهلاء لن ينجوا من قضاء الجمهورية.. إن المسألة ليست متعلقة بالدين قدر ما هي متعلقة باللغة""، وظلت الشرطة والقضاء يعاقبان بالحبس لمدة 3 أشهر وغرامة مالية لكل من يقوم بالأذان بالعربية طبقاً لنص المادة 526/ عقوبات حتى عام 1941م.


مقامات الأذان التركي

وعند الأتراك مقام لكل أذان للصلاة؛ وتختلف المقامات ذات الأصول الفارسية من أذان لآخر؛ فيقرأ الأذان على مقام ديلكش أزاران (الصبا) بالنسبة لصلاة الفجر في إستانبول، وعلى مقامي راست وحجاز لصلاة الظهر، ومقامات بياتي وحجاز وأووشاق للعصر، وأذان صلاة المغرب على مقامات حجاز وراست وسيكا ودوجاه، أما بالنسبة لمقام أذان العشاء فكان يؤذن على مقامات حجاز وبياتي وراست ونوا وأووشاق.

وكان من العادة أيضاً في مدينة إستانبول أن تقرأ الصلاة والسلام على رسول الله قبل أذان الفجر، وبمقام ديلكش خاوران، ثم يعقبها قراءة قصيدة مدح وقبل الأذان أيضاً. وكان قراءة الصلاة والتسليم -قصيرة الوقت- على النبي الهادي تحدث أيضاً بعد قراءة الأذان لصلوات الظهر والعصر والعشاء. مع الوضع في الاعتبار أن للمؤذن الحق في أداء الأذان بالمقام الموسيقي الذي يعرفه، وليس شرطاً أن يكون على أحد المقامات المشار إليها سالفاً. كما عرفت مدينة إستانبول قراءة الأذان المقابل -يقرؤه مؤذنان في وقت واحد بالتناوب- تقليدا لما وقع في العصر الأموي.


أشهر مؤذني الأتراك

ويعد الحافظ جمال أفندي (مؤذن جامع ""والدة سلطان"" في ميدان آق سراي)، والحافظ سليمان قراباجاق (مؤذن جامع يني والدة سلطان بميدان أسكُدار) هما أشهر من قرأ الأذان المزدوج في نهاية العصر العثماني. وكان المؤذن يتبع نفس المقام الموسيقي للأذان الداخلي (الثاني والقصير) توافقاً لما سار عليه الخطيب في قراءة الآيات عند صعوده للمنبر يوم الجمعة.

واليوم ومع تولي رئاسة أو هيئة الشؤون الدينية التركية الشأن الديني بعد إلغاء وزارة الأوقاف الإسلامية عام 1926م حافظت على عادة الأتراك العثمانيين بتعيين مؤذن لكل جامع، كما اعتمدت تنظيم دورات لتدريب واختيار ومسابقة سنوية للمؤذنين؛ وهو ما أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة جداً -يصعب حصر عددها- من المؤذنين المميّزين بأصواتهم العذبة، يؤدون الأذان في مدن وربوع ونجوع تركيا. ربما كان من أشهرهم في هذه الأيام أسماء مثل : بكير بيوك باش، وشريف دومان، والحافظ مراد، ومحمد سفينش


عودة رفع الآذان باللغة العربية


وبعد ثلاثة عقود عاد الأذان ليصدح باللغة العربية من جديد عبر مآذن ‏تركيا، بقرار من رئيس وزراء تركيا المنتخب ""عدنان مندريس""، وتراكض الناس إلى المساجد ‏باشتياق وبكاء شديدين، ومن شوق الأتراك إلى أذانهم باللغة العربية كان يؤذن في كل شرفة من شرفات المساجد مؤذن، فمسجد ""السلطان أحمد"" مثلاً الذي يحتوي على 16 شرفة أذن فيه 16 مؤذناً بعدد شرفاته.‏

وحالياً يشترط في مهنة الأذان في تركيا أن يكون حافظاً للقرآن، متخرجاً من معاهد الأئمة والخطباء الثانوية، كما تقدم هيئة الشؤون الدينية دورات تدريبية للمؤذنين في الموسيقى لرفع الأذان، واستخدام المقامات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك ‏تقام مسابقات سنوية على مستوى المناطق في تركيا لاختيار أفضل المؤذنين، ويشترك في لجنة ‏التحكيم أساتذة موسيقيين يقومون بمراقبة مخارج الحروف، وطريقة استخدام الصوت، والنفس، ‏والنغمات الموسيقية بشكل صحيح ودقيق.

بعد هذا الاهتمام وهذه العناية بمقام الأذان، ربما يزول عجب المرء من ولوج صوت الأذان التركي إلى قلوب سامعيه من حيث لايشعرون، بل حتى غير المسلمين ‏ومن لا يتكلمون العربية، تجدهم ينبهرون بهيبة الأذان وفخامته حينما يطرق مسامعهم. ويصف ""مصطفى درسن"" مؤذن مسجد ""تشنيلي"" في إسطنبول لحظات رفعه للأذان فيقول: ""في لحظة ‏الأذان لا أفكر في نفسي، بل إني لا أحس بوجودي، أفكر فقط في معاني الكلمات، فيتدفق الأذان ‏كالماء، وعندما تؤذن بنية خالصة لله تعالى يفتح كل شيء أمامك فتلامس الكلمات وجدان الناس، ‏وعندما تؤذن من أعماقك تشعر بأنك تخاطب قلوب الناس"".

ليس هذا ما يثير في موضوع الأذان في تركيا فحسب، الأكثر إثارة أن لكل أذان في ‏تركيا مقام موسيقي، وتختلف هذه المقامات من أذان لآخر؛ فمثلاً مقام ""الصبا"" الذي يتميز بهدوئه وخشوعه يؤذن به لصلاة ‏الفجر، ومقام ""العشاق"" (البياتي) يرفع به أذان الظهر، يُظهِر في بعض تجلياته الإيقاع السريع والحركي ليوافق حركة الناس في أسواقهم وأعمالهم، ثم يأتي مقام ""الرست"" لأذان العصر، وهو مقام يعبر عن الفخامة والوقار، أما مقام ""السيكا"" الذي ترفع به مآذن تركيا صلاة المغرب، فيتوافق في سرعته وقِصَره مع طبيعة وقت المغرب السريع والقصير، ثم ختام اليوم بمقام الحجاز في أذان العشاء الذي تناسب نغمته هدأة الليل وسكون الناس.

"
شارك المقالة:
130 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook